لم يكن الوضع المالي في ليبيا، بمنأى عن الصراعات السياسية والمسلحة، التي وجهت ضربات قاسية لاقتصاد البلد النفطي، على مدار الأشهر الأخيرة، ما قاد البلاد إلى معدلات نمو سلبية، يتخوف من استمرارها واستنزف ما كوّنه من احتياطي من النقد الأجنبي خلال السنوات الماضية.
وتعاني ليبيا صراعاً مسلّحاً دموياً في أكثر من مدينة، ولا سيما في العاصمة طرابلس شمال غرب ليبيا، وبنغازي (شرق)، بين كتائب مسلحة تتقاتل لبسط السيطرة، زادت حدته أخيراً، ما أفرز جناحين للسلطة في البلاد، لكل منهما مؤسساته.
وتمثل الجناح الأول للسلطة في البرلمان الجديد في مدينة طبرق، الذي حكمت المحكمة الدستورية العليا الليبية، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بعدم دستورية انعقاد جلساته، والذي يدعم حكومة عبدا لله الثني، أما الجناح الثاني فيضم المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق الذي استأنف عقد جلساته منذ سبتمبر/أيلول الماضي) ويدعم حكومة عمر الحاسي.
وبعد أن كان الصراع بين جناحي السلطة متركزا على مراكز الإنفاق الحكومي، تحول الأمر إلى محاولة إخضاع المؤسسات المسؤولة عن "الذهب الأسود" للسيطرة وهي منبع صفقات النفط في البلاد.
ويحاول رئيس الحكومة المؤقتة، التابعة لمجلس النواب المُنحل، وفق إعلان الدائرة الدستورية، عبدالله الثني، نقل المؤسسة الوطنية للنفط إلي مدينة بنغازي، وذلك من أجل السيطرة على تعاقدات بيع النفط، بحسب مسؤول في مكتب الإعلام بوزارة النفط والغاز.
وكان البنك الدولي، قد أشار في تقرير له نهاية الأسبوع الماضي، إلى أن تعافي إنتاج النفط في ليبيا، قد يستغرق وقتا أطول، مرجعاً السبب إلى ضرورة إجراء أعمال صيانة كبيرة.
وحسب تقرير حديث للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا"، فإن هناك توقعات بأن يسجل الناتج المحلي الليبي معدلات سلبية بنسبة 5% خلال العام الحالي، مقابل سالب 3% العام الماضي 2013.
ويعكس هذا الأداء السلبي ما يشهده قطاع النفط من تراجع، إذ يشكل نحو 60% من مكونات الناتج المحلي الإجمالي، و95% من الإيرادات العامة، كما يشكل النفط والغاز ما قيمته 98% من الصادرات الليبية.
وقال محللون اقتصاديون، إن الوضع السائد في ليبيا سيتسبب في تعرض البلد النفطي لعجز مالي، واستنزاف احتياطي النقد الأجنبي الذي تم تكوينه على مدار سنوات ماضية.
وكانت الأسابيع الماضية قد شهدت صراعاً على مراكز صرف أموال الموازنة العامة للبلاد. وأكد عبد القادر جويلي، رئيس لجنة الطوارئ التابعة للمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، في تصريح لـ "العربي الجديد"، أن المؤتمر الوطني مسيطر على جميع أرصدة الدولة الليبية الموجودة في مصرف ليبيا المركزي.
وامتد الصراع إلى مصرف ليبيا المركزي، من أجل السيطرة عليه من الطرفين المتناطحين على السلطة، ما أثار مخاوف محللين اقتصاديين من تضرر الأوضاع المالية للبلاد، خاصة تمويل عمليات استيراد السلع الأساسية.
وقال عبد السلام نصية، عضو مجلس النواب، إن المنظومة المصرفية تعمل بشكل طبيعي، وأن مقر المصرف المركزي الرئيسي ما يزال في طرابلس، وإن المرتبات تصرف لجميع العاملين في القطاع الحكومي البالغ عددهم 1.3 مليون موظف.
وأضاف أن المصرف المركزي يمنح شركات توريد السلع الغذائية الأساسية، الدولار بسعر مدعوم يبلغ 1.25 للدولار الواحد لمختلف أنحاء البلاد.
ولكن ويسام الرابطي، أحد شباب الأعمال يقول إن هناك معاناة جسيمة من أجل الحصول على فتح اعتماد مستندي لدى المصارف التجارية بسبب الفوضى الادارية، مؤكداً أن الإجراء قد يصل إلى شهر أو شهرين لتوريد سلع غذائية.
وأشار الرابطي في تصريح لـ "العربي الجديد"، إلى أن الشركات العملاقة التهمت السوق وكذلك سعر الصرف، موضحا أن معظم الشركات الصغيرة تورد سلعها عبر شركات معروفة من أجل سهولة الإجراء وعلاقتها بالمصرف المركزي.
كما يقول تجار جملة بسوق الكريمية في طرابلس، إنهم يشترون الدولار من السوق السوداء بسبب التأخر من قبل المصارف في فتح اعتمادات مستندية.
وينفق المصرف المركزي في ليبيا حالياً على الميزانية العامة، فيما يتعلق بالبابين الأول الخاص بالمرتبات، والرابع المتعلق بالدعم، أموالا يصل إجماليها إلى 35 مليار دينار فقط (26.7 مليار دولار) خلال العام الجاري، بينما جمد باقي الأبواب المتعلقة بالنفقات التشغيلية ومشروعات التنمية للمحافظة على العجز المالي.
وفي السياق ذاته، وعدل مجلس النواب في قانون الموازنة العامة، ليتم تقليص الموازنة إلى 52.1 مليار دينار (40 مليار دولار)، بدلاً من 56 مليار دينار ليبي (43 مليار دولار)، المعتمد من قبل المؤتمر الوطني العام خلال يونيو/حزيران الماضي.
وكان المؤتمر الوطني العام الليبي (البرلمان المؤقت) أقرّ، الموازنة العامة الليبية، لعام 2014، بقيمة 56 مليار دينار، وبعجز قدره 16 مليار دينار (13.2 مليار دولار).
وقال مدير معهد التخطيط التابع لوزارة التخطيط، عمر أبو صبيع، لـ "العربي الجديد"، إن المتبقي من الموازنة العامة نحو 7 مليارات دينار (5.3 مليار دولار) وإن الباب الثالث المُتعلق بمشروعات التنمية مجمد مند بداية العام.
وأضاف أبو صبيع، أن المصرف المركزي قد لا يوافق على تسييل المبالغ، نتيجة تدني الإيرادات النفطية وانخفاض أسعار النفط .
وانخفضت إيرادات ليبيا من النقد الأجنبي مطلع 2013 بنحو 120 مليار دولار، لتسجل 105 مليارات دولار، وفقاً لتصريحات مصباح العكاري، الناطق الرسمى باسم مصرف ليبيا المركزي مطلع سبتمبر/أيلول الماضي.
ودعا مدير معهد التخطيط إلى ضرورة وضع أولويات بشأن صرف الأموال المتعلقة بالنفقات التشغيلية ومشروعات التنمية، لتركز على النازحين من مناطق الصراع المُسلح، وكذلك تطوير شبكة الكهرباء.
وحسب المسؤولين الليبيين، فإن الإيرادات النفطية المتوقعة للعام الحالي تقدر بنحو 18 مليار دينار (23.4 مليار دولار)، وذلك نتيجة لغلق موانئ تصدير النفط طيلة عام، في حين تقدر في الأوقات العادية بـ 45 مليار دينار (58.5 مليار دولار) سنويا.
ودفع هذا التراجع وزارة المالية إلى اعتزامها إصدار أذون خزانة للاقتراض بقيمة 16 مليار دينار (20.8 مليار دولار)، بجانب لجوئها إلى استخدام إيرادات النفط، التي تبلغ 17 مليار دينار (13.9 مليار دولار)، لتغطية عجز الموازنة، في حال استمرار تدني الإيرادات النفطية للعام الحالي.
ولا تقتصر الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد الليبي على تراجع إنتاج النفط وتصديره، وإنما تسبب الهبوط المتواصل في أسعار الخام عالمياً على مدار الأشهر الأخيرة في زيادة القلق من تعرض البلاد لعجز مالي، يدفعها إلى دائرة استنزاف احتياطيها من النقد الأجنبي، حسب الرشيدي.
وهبطت أسعار النفط العالمية بشكل كبير منذ يوليو/تموز، ليصل سعر خام برنت، أمس، إلى 80 دولاراً للبرميل، مقابل 115 دولاراً في يونيو/حزيران الماضي فاقداً نحو 31% من قيمته.
وتعتمد الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) بشكل كبير على سعر الخام في الحفاظ على توازن ميزانياتها، ومنها ليبيا التي بنت سيناريو الموازنة العامة على سعر 90 دولاراً للبرميل.
ويعدّ سيناريو تراجع أسعار النفط عالمياً، حسب المحللين، الأسوأ حالياً، خصوصاً في ظل تذبذب الإنتاج الذي بات مرهوناً بعدم الاستقرار، بعد أن عاودت المليشيات المسلحة تعطيل آبار الإنتاج وكذلك شل حركة موانئ التصدير، ما سيزيد من عجز الموازنة.
وكان مصدر مسؤول في المصرف المركزي الليبي، قال لـ "العربي الجديد" مؤخراً إن إيرادات ليبيا من النفط حتى نهاية سبتمبر/أيلول بلغت 9.5 مليارات دولار، فيما وصل الإنفاق 27 مليار دينار (32.6 مليار دولار).
وتشير تقديرات قاعدة بيانات البنك الدولي، إلى أن احتياطي النقد الأجنبي في ليبيا وصل إلى 119 مليار دولار في عام 2013، متراجعاً بنحو 5 مليارات دولار عن عام 2012. وإذا ما استمر النزاع المسلح، فإن هذا الاحتياطي معرّض للخطر، حيث سيستنزف لسد عجز الموازنة، والإنفاق على التسليح، والالتزامات العامة الأخرى.
ولم يقتصر تأثير تردي الأوضاع الاقتصادية على الشأن الداخلي في ليبيا، وإنما امتدت آثاره إلى دول المنطقة العربية، حيث أشارت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا"، إلى أن الأداء السلبي للناتج المحلي الليبي، كان أحد أسباب تراجع الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة ككل.
وأوضحت أن الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة تراجع إلى 3% في 2013، بينما لو استبعدت ليبيا من المسح الخاص بأداء دول المنطقة لوصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.2%.