ليس المجتمع رديف الخير، ولا الدولة رديف الشر

14 ديسمبر 2015
+ الخط -

تشكل الدولة، تاريخياً، تقدماً كبيراً على الجماعات البشرية المنظمة في كيانات ما قبل دولتية (يتشابك في كيانها ذاته الاجتماعي بالاقتصادي والسياسي). ويمكننا إجمال عناصرها التاريخية التي شكلت النقلة الكبرى هذه بما يلي: 1. مركزية سن القوانين، وفي مرحلة لاحقة، تطبيق سيادة القانون. 2. احتكار العنف الشرعي واستخداماته لحفظ الأمن والنظام. 3. وجود بيروقراطية متفرغة، عملها إدارة الشأن العمومي. وبما أنها تديره كمهنة، تنشأ ديناميكية تطور عقلنة إدارة الشأن العمومي. وتنطلق هذه العقلنة بدايةً من الربط بين الوسائل المستخدمة والنتائج المتوخاة. 4. نشوء المجال السياسي كمجال قائم بحد ذاته. وصعود فئة السياسيين، بصفتهم سياسيين، بغض النظر عن الوظيفة والمكانة الاجتماعية.

كتبت، مرة، أن الدولة، بهذا المعنى، هي أساس وجود المجتمع المدني، في تميزه عن المجتمع الطبيعي. فالمجتمع المدني هو، أولاً، المجتمع المنظم في دولة، قبل أن يجري الحديث عن الفصل بينهما، وأن المجتمع من دون دولة هو إما عودة للكيانات ما قبل الدولتية، أو عودة إلى قانون الغاب، أو كلاهما، فلا علاقة لفكرة المجتمع المدني بالكيانات ما قبل الدولتية. إن تمييز المجتمع المدني ومؤسساته عن الدولة هو فكرة لاحقة وممارسة متأخرة، لا تتعارض مع وجود دولة قوية، بل تتطلب وجود دولة قوية، بمعنى دولة قادرة على تحمل التمايز بين نظام الحكم والدولة، وبين نظام الحكم والمجتمع، والاستفادة من هذا التمايز في إغناء تركيب الدولة والمجتمع. هنا، ينشأ المجتمع المتقدم في الدولة، ومقابلها في آن معا. وهو المجتمع الذي يعيش في ظل سيادة القانون الذي يحمي حقوقهم وحرياتهم كأفراد، وفي ظل احتكار الدولة العنف الشرعي المقيد بالقانون، مع حق الأفراد في الاتحاد والتنظيم ذاتياً.

ولكن، في حالة الاستبداد، ومع انغلاق السبل أمام تشكيل التنظيمات المدنية خارج السلطة السياسية، وهي الخطوة الثانية في تشكل المجتمع المدني في الدولة، يلجأ الناس إلى الكيانات الاجتماعية، ما قبل الدولتية، الوشائجية التضامنية غالباً، لغرض الحماية والأمن. ولكن هذا التنظيم الذي يحمي الفرد غير قادر على تحقيق سيادة القانون، أو احتكار العنف، أو ضمان حريات الأفراد، أو إدارة الشأن العام بشكل عقلاني. فهو يحمي الفرد من عسف السلطة المركزية القمعية، ويحرمه من فرديته وخصوصيته في آن؛ كما أنه يعبئه باستمرار لغرض حفاظ الجماعة على نفسها في مقابل الجماعات الأخرى، ولا سيما في حالة ضعف الدولة.

تُفرد بعض أنواع الأنظمة البطريركية حيزاً واسعاً للكيانات ما قبل الدولتية، وربما تستند إليها في شرعيتها التاريخية، ولكن الطغيان يتجاوز منع المؤسسات السياسية والمدنية إلى تحطيم هذه الكيانات أيضا، أقصد الكيانات الاجتماعية التضامنية ما قبل الدولتية، فلا يبقي للفرد ملاذاً يلجأ إليه. وإذا ضعفت الدولة هذه ذاتها نتيجة حدث ما، مثل حرب أو ثورة أو غيرها... يجد الناس أنفسهم بدون قانون، وبلا جهاز دولة يحتكر العنف، وعراة أيضاً من الكيانات الاجتماعية من هذا النوع، والتي توفر الحماية للفرد. في هذه الحالة، تضرب البلاد فوضى عارمة تفضح درجة تخلف المجتمع من دون دولة. ويذكر أن الدولة، في بعض الحالات، تحمي الناس من تخلف المجتمع، ومن قمع الجماعات الأفراد، ومن حروب صراع البقاء التي تجري بدون قواعد وبدون اعتراف بالآخر. وقد يلجأ الناس إلى التنظيم في عصابات مسلحة، بدلا عن الجماعات العضوية.

(تداعيات: نعثر على رواسب هذه الحالة في نفوس البشر الذين يعيشون حياة منظمة في دول، واتحادات مدنية أيضاً، وذلك عبر التحاسد والتباغض، حتى عندما لا يفرّقهم صراع نفوذ أو مصالح. فيقوم بعضهم بنشاط تخريبي ضد ما يقوم به آخرون، من دون سبب واضح سوى اللعبة الصفرية بين الأنا والآخر، والتي تولد باستمرار الشعور لدى الفرد أن "تقدمك يعني تخلفي عنك"، وأن "نجاحك يعني عدم نجاحي بالمقارنة بك"، وبالتالي، يجب أن أحاول تعطيل ما تقوم به، سواء بالطعن في الظهر، أو الإفشال أو محاولة قتل الشخصية. وهذا في حالة السلم، وبدون صراع مصالح. ولكن تخلف المجتمع يصبح أكثر تدميراً بما لا يقاس، حين تدخل صراعات النفوذ والمصالح وغيرها).

في حالة ضعف الدولة والكيانات الاجتماعية في آن معا، تنشأ حالة من الفوضى والعنف، قد تدفع الناس إلى تنظيم أنفسهم في جماعاتٍ جديدةٍ، يجري تخيلها كأنها جماعات وشائجية ما قبل دولتية والتعصب لها، مع أنها ليست كذلك. فهي مستحدثة. ومن ضمن ذلك الطوائف الدينية الكبرى. فليست الطوائف جماعات تضامنية تعاضدية وشائجية، عاش الفرد في كنفها، إلا حين كانت يوماً فرقاً دينية صغيرة؛ أما الشيعة والسنّة، والمسيحيون والمسلمون، فهؤلاء لم يشكلوا يوماً جماعات عضوية، أو كيانات تعاضدية مباشرة. هذا جديد. والوارد أعلاه ليس بيئة تشكله الوحيدة، بل بيئة تشكله الجديدة.