04 نوفمبر 2024
ليس خطأ لكن نصحّحه!
بدأت دوائر الحكم في مصر تستوعب صدمة "20 سبتمبر"، واكتشفت أنها احتجاجات لم تكن مزحة ولا عملا صبيانيا. وحتى إن كانت وراء تلك الموجة من الاحتجاجات جهات تحرّكها، فإن الأوضاع الحياتية للمصريين كانت مهيأة للاستثارة والاشتعال بشرارةٍ بسيطة.
إذن، الخبر الجيد أن أجهزة السلطة ومؤسساتها في مصر بدأت تتفهم وجود أسباب موضوعية تدفع الناس ليس فقط إلى الغضب، ولكن أيضاً إلى إعلانه، أياً كانت حدّة الاحتجاج وشكله. أما الخبر السيئ فهو أن الترجمة السلوكية لتلك القناعة لا تعكس إقراراً بضرورة تحسين إدارة الدولة وتطويرها، ولا تحمل أي تغيير في وزن المواطن وموقعه في نظر السلطة ورجالها. إذ لا يزال يُنظر إليه كائنا ساذجا يمكن تغيير قناعاته بإجراءاتٍ شكلية أو خطاب متهافت، فبين عشيةٍ وضحاها، إذا بكل المؤسسات الرسمية وأدواتها تتحدّث في وقت واحد، وبلغة متطابقة عن هموم المواطن وأعبائه، وحقه في التعبير، وواجب الدولة في تصحيح المسار. بعد أن كانت كل عناصر منظومة الحكم، سواء المؤسسات التنفيذية أو الإعلامية أو التشريعية (يفترض أنها تمثل الشعب لا السلطة) تروّج أي سياسات، وتزين كل إجراء مهما كان مجحفاً، وتكفّر كل من يبدي ملاحظةً أو يعلن مطلباً، ولا يرفع صوته مبايعاً ومعاهداً بولاء مطلق.
وليس من المنطق، ولا العقل، في شيء، أن يفيق كل هؤلاء الساسة والبرلمانيين والإعلاميين من حالة التماهي مع السلطة، ويتعاطوا جميعاً حبوب الشجاعة. ويكتشفوا فجأة أن تلك السياسات كان الشعب ضحيتها الوحيدة، وهو الوحيد أيضاً الذي لم يؤخذ وضعه ولا معاناته في الحسبان، بعد أن كانت السياسات ذاتها خيراً مطلقا وباباً واسعاً لجعل مصر "قد الدنيا"، وعلى كل مصري أن يصبر ويتحمّل نصيبه منها.
ومما يؤكد أن الفهم الصحيح لأبعاد الغضبة الشعبية لم ينعكس في إجراءاتٍ فعّالة للتخفيف عن المواطنين، لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا حتى إعلامياً، فقد تم خفض سعر وقود السيارات 25 قرشاً (0,1 دولار) للتر. كما تقرّر زيادة نصيب الفرد من دعم السلع التموينية بالقيمة نفسها تقريباً، وهي خطوات هزيلة بل كوميدية، ليس لها أي تأثير حقيقي على ميزانيات أصحاب السيارات وأعبائهم. فضلاً عن أن غالبية المصريين لا يملكون سيارات، ولن يستفيدوا أصلاً من ذلك الخفض الرمزي الذي لن يُفضي بالطبع إلى تراجع تكلفة المواصلات أو أسعار السلع الغذائية أو رسوم خدمات الكهرباء والمياه والغاز، فضلاً عن الخدمات الحكومية العامة التي زادت أضعافاً في كل القطاعات.
هذا ما قدّمته السلطة للمصريين، ترضية لهم، وإلهاءً عن المقارنة بين أوضاعهم المأساوية وما سمعوه من الممثل محمد علي عن بذخ الكبار وفسادهم. وعلى المصريين العقلاء المحبّين لوطنهم، الاستجابة سريعاً لذلك الكرم السلطوي، والتخلّي فوراً عن أية أحلام أو مطالب تتجاوز ما سُمح لهم به.
وبالطبع، لا يكفي أن تنمحي من ذاكرة المصريين تماماً، وتلقائياً، أي اتهامات أو تساؤلات هي أصلاً وسوسة من عمل الشيطان. بل أيضاً على كل مصري أصيل يريد أن يصبح (أو أن يظل) مواطناً شريفاً، تصديق التحوّل الهلامي الذي حدث في الخطاب الرسمي والإعلامي. وعليه الإقرار بأن الإعلاميين الحامدين الشاكرين المؤيدين على طول الخط هم أنفسهم معارضون وناقدون ومشغولون بهموم المواطن المصري البسيط، أكثر من أي مدّعي وطنية في الداخل أو الخارج.
من يرتقِ هذا المستوى من السوريالية الوطنية فسيدرك بسهولة تعطيل المسار والتراجع عن قرارات، والحديث فيما كان محرمات. ولا يعني ذلك كله بالمرة فشلاً أو سوء إدارة. وكل ما في الأمر أن الخطوات الجديدة هي حتماً الصحيحة، أما السابقة.. فكانت صحيحة بالتأكيد.
وليس من المنطق، ولا العقل، في شيء، أن يفيق كل هؤلاء الساسة والبرلمانيين والإعلاميين من حالة التماهي مع السلطة، ويتعاطوا جميعاً حبوب الشجاعة. ويكتشفوا فجأة أن تلك السياسات كان الشعب ضحيتها الوحيدة، وهو الوحيد أيضاً الذي لم يؤخذ وضعه ولا معاناته في الحسبان، بعد أن كانت السياسات ذاتها خيراً مطلقا وباباً واسعاً لجعل مصر "قد الدنيا"، وعلى كل مصري أن يصبر ويتحمّل نصيبه منها.
ومما يؤكد أن الفهم الصحيح لأبعاد الغضبة الشعبية لم ينعكس في إجراءاتٍ فعّالة للتخفيف عن المواطنين، لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا حتى إعلامياً، فقد تم خفض سعر وقود السيارات 25 قرشاً (0,1 دولار) للتر. كما تقرّر زيادة نصيب الفرد من دعم السلع التموينية بالقيمة نفسها تقريباً، وهي خطوات هزيلة بل كوميدية، ليس لها أي تأثير حقيقي على ميزانيات أصحاب السيارات وأعبائهم. فضلاً عن أن غالبية المصريين لا يملكون سيارات، ولن يستفيدوا أصلاً من ذلك الخفض الرمزي الذي لن يُفضي بالطبع إلى تراجع تكلفة المواصلات أو أسعار السلع الغذائية أو رسوم خدمات الكهرباء والمياه والغاز، فضلاً عن الخدمات الحكومية العامة التي زادت أضعافاً في كل القطاعات.
هذا ما قدّمته السلطة للمصريين، ترضية لهم، وإلهاءً عن المقارنة بين أوضاعهم المأساوية وما سمعوه من الممثل محمد علي عن بذخ الكبار وفسادهم. وعلى المصريين العقلاء المحبّين لوطنهم، الاستجابة سريعاً لذلك الكرم السلطوي، والتخلّي فوراً عن أية أحلام أو مطالب تتجاوز ما سُمح لهم به.
وبالطبع، لا يكفي أن تنمحي من ذاكرة المصريين تماماً، وتلقائياً، أي اتهامات أو تساؤلات هي أصلاً وسوسة من عمل الشيطان. بل أيضاً على كل مصري أصيل يريد أن يصبح (أو أن يظل) مواطناً شريفاً، تصديق التحوّل الهلامي الذي حدث في الخطاب الرسمي والإعلامي. وعليه الإقرار بأن الإعلاميين الحامدين الشاكرين المؤيدين على طول الخط هم أنفسهم معارضون وناقدون ومشغولون بهموم المواطن المصري البسيط، أكثر من أي مدّعي وطنية في الداخل أو الخارج.
من يرتقِ هذا المستوى من السوريالية الوطنية فسيدرك بسهولة تعطيل المسار والتراجع عن قرارات، والحديث فيما كان محرمات. ولا يعني ذلك كله بالمرة فشلاً أو سوء إدارة. وكل ما في الأمر أن الخطوات الجديدة هي حتماً الصحيحة، أما السابقة.. فكانت صحيحة بالتأكيد.