30 اغسطس 2014
ليس ردّاً على أنوزلا.. ولكن طمعاً في إنصاف مستحيل
خصّني الأستاذ علي أنوزلا بتعليق "غير ودي"، (العربي الجديد، 12 أبريل/ نيسان 2017) في إثر الحديث الذي سجلته معي "فرانس 24" في إطار برنامجها "ضيف ومسيرة"، وهو برنامج يستعرض مراحل مختلفة من حياة الضيف، بعضها يعود إلى الطفولة، وبعضها إلى تجارب في السياسة أو في الكتابة قد تعود إلى سنوات بعيدة. من هنا، ولا شك ذلك الانطباع الذي تخلف عند الأستاذ أنوزلا بأنني أعترف متأخراً "بخطأ لا يغتفر"، بينما لم أفعل، في الواقع، سوى الإجابة على أسئلة طرحت علي لحظتها، وتخص واقعة جرت بالفعل قبل خمس عشرة سنة.
لكن الحقيقة أنني تحدّثت في الموضوع قبل سنوات، وفي مناسبات متعدّدة، إما في مقالات نشرتها أو في أحاديث أدليت بها للصحافة، ولم أكتف بالقول إنني، مع التعقد الذي أصبح عليه الانتقال الديموقراطي، صرت أكثر اقتناعاً بما كانت تدافع عنه أقليةٌ من المناضلين داخل الهيئات الحزبية غداة انتخابات 2002، أي بالانزلاق السياسي الذي أدى إليه قرار المشاركة في حكومة (إدريس) جطو. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، عندما قلت إنني شخصياً ما كان لي أن أدافع عن قرار المشاركة، باعتباري غير معنيٍّ، كمثقف، بما كانت تمليه الواقعية السياسية. كنت أتمنى أن أدرك، بحدسي الثقافي، خطورة التنازل عن تطبيق المنهجية الديموقراطية من
وأريد أن أقول للأستاذ أنوزلا إن من حقه طبعاً أن لا يرى في الفترة التي قضيناها في حكومة جطو سوى ولاية بيضاء، لم ينجز فيها شيء، ولم أقم فيها شخصيا بأي شيء يذكر. لكن، ليسمح لي أن أؤكد له أن ما كنت وراء إنجازه من مؤسسات ثقافية، والسياسات التي وضعت لبناتها في مجالات الكتاب والتراث والفنون، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق حولها، ما تزال موجودة في أرض الواقع وفي ذاكرة الناس، ولن ينتقص منها لا التحامل ولا المحو المنظّم. أما حكاية شراء المثقفين بصنبور الدعم العمومي، فإنه ليعز علي أن تقول ذلك، وأنت تعرف أنه لا توجد في عالم اليوم دولةٌ تحترم نفسها لا تدعم إنتاجها الثقافي الوطني. ثم وأنت تعرف، على وجه الخصوص، أن المثقفين المغاربة عاشوا عقوداً من القهر لم يقو فيها النظام، على شراسته، على شراء ذممهم، فكيف يتحولون، بين عشيةٍ وضحاها، إلى بضاعة رخيصة؟ هذا لتعرف أنني عندما أقول "دون أن يرف لي جفن" كما كتبت، إنني لا أندم على خوض غمار هذه التجربة، فلأنني معتزٌّ بما ساهمت به في المجال الثقافي، ولأنني أخلاقياً لا يمكنني أن أتنصّل من مسؤوليتي عن المرحلة، بمجرد إشهار الاعتراف بالخطأ، ولأنني أعرفك جيداً، فإنني أنزّهك عن أن تكون في زمرة أولئك "العباقرة" الذين يعتبرون كل ما أنجز كان خارج إرادتنا، بل لم نعلم به إلا في نشرة التدشينات.
وكلمة أخيرة، ليست بالضرورة موجهة للأستاذ أنوزلا، إن ما جرى سنة 2002 لم يكن خطيئة شخصية. لقد ساهمتُ في قرار حزبي، والتفاوض على الحكومة قام به الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ككاتب أول للحزب، وقرار المشاركة اتخذته الهيئات الحزبية العليا بأغلبية ساحقة. الشيء الوحيد الذي استفردت به بين زملائي الوزراء هو أنني رجعت إلى الموضوع، في محاولةٍ لفهم هذا العطب المستحكم الذي يعيق حياتنا الديموقراطية. وعبرت عن رأيٍ ربما لم يحترم القاعدة السياسية في بلادنا "الاعتراف بالخطأ أفظع من ارتكابه". وكوني عبّرت منفرداً عن هذا الرأي لا يعني شيئا كثيراً. لذلك، طالبت قبل المؤتمر الأخير للحزب أن نقوم أولاً بنقد جماعي لتجربتنا قبل العودة إلى الميدان الشعبي، وإعادة بناء مشروعنا على أسس واضحة. ومع ذلك، أتساءل، بدون براءة مفتعلة، ألا يتوجب علينا أن نكفّ عن اعتبار الضحية الوحيدة في هذه الحكاية المسؤولة الوحيدة عن الجريمة؟
كثيرون ممن جلدوا تجربة التناوب، وتكالبوا بعدوانيةٍ كبيرةٍ على رئيسها التاريخي، أصبحوا اليوم في الجوقة التي ترفعه أيقونةً في معبد المغرب المعاصر. لكن لا أحد من هؤلاء يتوقف عند ما جرى طوال تلك السنوات الأربع من طعنٍ في الظهر، ومن حملات منسقة، ومن تشهير وتأليب، مهدت به بؤر النفوذ والمصالح للتحلّل من "المنهجية الديموقراطية"، ولا أحد من هؤلاء توقف عند ما حدث في ذلك المساء الرهيب، من حرّك الخيوط، ومن دبّر القفز على نتائج الانتخابات، ومن تآمر، ومن وضع البلاد في سكة العودة إلى الوراء؟
هل نكرّر الآن ما جرى قبل خمس عشرة سنة؟
أبداً، يا صديقي، لقد تحولت التراجيديا رغم أنفنا إلى ملهاة.