عقد، أمس السبت، في مدينة مونتروي بضاحية باريس القريبة، مؤتمراً بمناسبة الذكرى السادسة لثورة 25 يناير/ كانون الثاني في مصر، بتنظيم "معهد الدراسات العربية والتطوير"، لمناقشة الثورات العربية، وعودة "الدولة العميقة".
وتخلل المؤتمر نقاشات شبابية وندوات، وكان الشعر أيضا حاضرا، عبر المصري عبد الرحمن يوسف والمغربي يحيى الشيخ.
وكان الهدف المعلن من اللقاء، الذي حمل عنوان "الواقع العربي.. ربيع الثورة وخريف الفوضى"، هو مناقشة الثورات العربية وكل ما حدث من بعدها، من ترنح للمسارات الانتقالية الديمقراطية وأيضا عودة "الدولة العميقة"، عبر الانقلابات العسكرية، أو توسيع الحروب ونشر الفوضى والدمار في كل المنطقة، وأيضا دراسة الشروط التي تسمح بتجدد هذه الثورات، وكيفية الخروج من دوامة الفوضى والعنف.
وكان من أبرز الشخصيات الحاضرة في اللقاء جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني السوري، الذي قال إنه ينقل "صوت سورية الجريحة: محطة الربيع العربي الأصعب، والأكثر تكلفة أمام أهلنا في المغرب العربي، حيث ولَّدوا الشرارة الأولى".
وتحدث صبرا عن "الربيع العربي: حالات وأحوال"، وقال: "إن الصراعات الحادّة التي تشغل المنطقة العربية، والتي أفرزت الربيع العربي، ومجرياته، تبدو ذات جذر مشترك رغم بعض التباينات، وتشرب من مَعين واحد، رغم التعدد المفرط في الخصوصيات والمكونات والظروف".
كما تحدث رئيس المجلس الوطني عن محرّكين دائمين للتصعيد والتراجع في العالم العربي: "أولهما أزمة الدولة الوطنية وعجزها وتشوهاتها بل انهيارها، وثانيهما، هو فشل المنظومات العربية والإقليمية، وفوضى العلاقات والاختراقات والمصالح الأنانية المتشابهة المتشابكة التي أفرزتها العولمة على الصعيد الدولي، وإلا كيف يمكن أن نفهم هذا الاختراق المُرّ لنظام الملالي في طهران في كل المنطقة العربية".
لقد انتهى عصر الإمبراطوريات، كما يقول جورج صبرا، بانتهاء الإمبراطورية العثمانية، قبل قرن، ونشأت الدولة الوطنية بإرادة الخارج ومساعيه، وبفعل قوة القهر استمرت، طوال القرن.
وأضاف أنه "بقيت دولة فئوية، حزبية، مرة، طائفية مذهبية، مرة أخرى، عشائرية أو أُسَرية، أحيانا، ولم تكن دولة الكلّ الوطني، فأنتجت الفقر والتهميش والاستبعاد، بقيت دولة الفئة، هذه، دولة سلطانية، رغم توفر عدة الحياة المعاصرة والعتاد اللازم للحكم. هناك دستور وقوانين وشرطة، هناك كل العدة، لكن الحاكم العُرفي يشطب كل هذه العدة".
ويشدد صبر على أن "سورية بدأت جمهورية برلمانية مستقلة ودستورية وسيادة قانون، فحوَّلها حافظ الأسد إلى دولة وراثية، في عشر دقائق، جرى تعديل الدستور والتوريث وكأنها ملكية خاصة".
ورغم صعوبة المشهد السوري ظل صبرا متفائلا: "أقول لمن يقولون إن الربيع العربي مؤامرة خارجية على النظم التقدمية والقومية والتحرر: هذه صفحة صغيرة من التراث الرديء لخمسين عاما من التسلط والاستبداد، وهو كفيل ليس بايقاظ ربيع عربي بل هو جدير بأن تقطف الشعوب العربية ثمرة هذا الربيع. وأنا أقول لكم رغم أني آتٍ من البلد الأصعب لهذا الربيع لكن الربيع العربي انتصر وسينتصر، وهذا اللقاء وهذا الحوار هو أحد منجزات الربيع العربي".
وأدلى عالم الاجتماع ووزير الثقافة التونسي في فترة الترويكا، مهدي مبروك، بمداخلة قال فيها "إنه آتٍ من البلد الأكثر يُسرا في الربيع العربي وأقل تكلفة".
وكان موضوع مداخلته عن "دور المثقفين في الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي"، وأوجزها في خمس نقاط: الثورات في القرنين الماضيين كانت ثورات مثقفين، أي ثورات الأيديولوجيا، بصفة عامة، أما الثورة التونسية فإنها الثورة الأولى في القرن الواحد والعشرين، التي كانت ثورة من دون مثقفين، وهو ربما امتياز للثورة التونسية، التي لم تكن ثورة أيديولوجيا، وإلا تحولت إلى نظام شمولي (كما هو حال الثورة الفرنسية والبلشفية والإيرانية).
ويصرّ مهدي مبروك على أنها "كانت ثورة بلا قيادات، ورحم الله محمد البوعزيزي لأنه لو بقي على قيد الحياة لتحوّل إلى قائد ومُلهِم ولتأبدت الثورة".
وأضاف أن "قوة الثورة التونسية تكمُنُ في فجائيتها وليس أيديولوجيتها ومدنيتها وسلميتها، وفي وجود جيش وطني ضعيف وغير مسيّس ومحافظ على الجمهورية، وهو ما مكَّن من ظهور مجتمع مدني قوي".
من جهته قال الكاتب المغربي مصطفى البراهمة، عضو "حزب النهج الديمقراطي"، وهو حزب يساري متشدد، إن حزبه "شارك بكثافة وقوة وراهن على الربيع المغربي، في إطار حركة 20 فبراير/شباط، التي كانت جزءا من الحراك العربي والمغاربي، لكن كل سيرورات الحراك العربي، عدا تونس، تمَّ الالتفاف عليها".
وحملت مشاركته عنوان: "الحراك العربي أو الثورة المعاقة"، ورأى أن "الثورات العربية، التي تربط شعوبَها علاقاتٌ وجدانية، جاءت في وقتها المحتوم، وشروطُها الموضوعية كانت قائمة، بقوة، بسبب الاستبداد، المتفاوت من بلد عربي إلى آخر، إنْ باسم الدين أو القومية أو الوطنية، وأيضا بسبب وجود اقتصاد الريع وعدم الحاجة إلى السوق، وهو ما يفسّر فشل العرب في إنشاء سوق عربية، لأنها بلدان غير منتجة، تتحكم في اقتصاداتها مافيوزات واحتكارات".
وانتقد براهمة الفكر القومي العربي وتوظيفه من قبل أنظمة "كليانية واستبدادية"، كما انتقد براهمة، الذي ينفرد حزبه اليساري بانتقاد لا لبس فيه للأسد وبدعم شفاف للثورة خلافا للكثير من الأحزاب اليسارية العربية؛ محاولة بعض التيارات الإسلامية الاستئثار بنتائج التغيير، وطالب بحوار صريح بين اليسار والإسلاميين، باعتبارهما قوتين مستقلتين معاديتين للاستبداد، لتجنب الصراعات الثانوية التي تصبح أحيانا صداميّة، وإلا فإن العسكر سيغتنم الفرصة ويسطو على السلطة وينقلب على صناديق الاقتراع، كما فعل في مصر، مؤكدا على أن الدين مسألة مشتركة يوحدنا جميعا، وبالتالي فلا يجب أن تحتكره فئة مجتمعية دون أخرى.
إلى ذلك، أدلى عبد الرحمن يوسف، وهو الناطق باسم "الهيئة التحضيرية للجمعية الوطنية المصرية"، بمداخلته، التي حملت عنوان "الجمعية الوطنية وحلم الاصطفاف"، بعد استيلاء العسكر على السلطة في مصر.
وأكد يوسف على "ضرورة توجيه معارضي الانقلاب ومناهضيه، رغم أن أهدافهم واحدة، جُهودَهُم ضد النظام وليس ضد بعضهم البعض، كما هو موجود، وبالتالي يجب على كل أطياف المعارضة معرفة خصومها الحقيقيين، ثم يجب عليها أن تعرف حلفاءها الحاليين وحلفاء الغد المحتَمَلين والحلفاء التكتيكيين والحلفاء الاستراتيجيين، ثم يجب أن تعرف الغاية الأساسية، وهي إسقاط دولة الأسياد والعبيد والاستبداد وإقامة حياة ديمقراطية في دولة القانون.
وختم بالقول: "يجب معرفة أننا مختلفون وبالتالي يجب الوصول لآلية لإدارة هذه الاختلافات، في ظل مُواطَنة تشمل الجميع ودستور يحكم الجميع".
ثم اختتم أنور مالك، الباحث السياسي والمراقب الدولي، اللقاء، بإثارة قضية لم يتطرق إليها أحد، وهي التجربة الجزائرية التي لم تستفد منها الثورات العربية، في حين أن الأنظمة العربية المستبدة استفادت منها.
ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 تظاهر شباب جزائريون وطالبوا بإسقاط الحزب الحاكم، أي إسقاط النظام (كما فعلت ثورات الربيع العربي)، فقتل أكثر من 500 شاب بالرصاص الحي، فاضطر الرئيس الجزائري لإجراء انفتاح ثم انتخابات وحين فاز بها الإسلاميون انقلب عليهم العسكر، كما حدث في مصر، تماما.
وبعد الانقلاب في الجزائر بدأت المقاومة السلمية التي كانت تنطلق من المساجد، كل يوم جمعة، سنة 1992، وهو ما سنراه، لاحقا، مع الثورتين المصرية والسورية.
وكما حاول الأسد عسكرة الثورة وتشويهها ثم دوره في خلق داعش، سبقه النظام الجزائري، عبر تشويهه للثورة ثم خلق "الجماعة الإسلامية المسلحة"، التي كانت ترتكب نفس فظاعات داعش.
وكشف مالك أن علاقات بشار الأسد والجزائر ظلت وثيقة ولا تزال، حيث "تمّ تبادل إرسال ضباط الاستخبارات بين البلدين، وهو ما تسمّيه وثيقة سورية بتصدير التجربة الجزائرية في محاربة الإرهاب".
ومما يعزّز حقيقة استفادة الأنظمة الاستبدادية العربية من التجربة الجزائرية، يقول أنور مالك، "كون أول زيارة للجنرال السيسي بعد الانقلاب كانت للجزائر".
ثم ختم مداخلته بأنه "لا يمكننا أن نتشاءم. لأن كل ثورة تتبعها ثورة مضادة، إلا الثورة السورية التي بدأت معها منذ اليوم الأول ثورة مضادة، لأن النظام السوري استفاد من التجارب السابقة، وهذا ما كان يتوجب على الشعوب والثورات أن تستفيد منه".
يذكر أن مركز "الدراسات العربية والتطوير"، هو مؤسسة بحثية مستقلة ومحايدة غير ربحيّة، تأسست في ربيع سنة 2015، بِهدف "تجميع كل المثقفين العرب وإطلاق نقاش حر ومتنوع، ويسمح بالخلاف، بين كل الفعاليات، انطلاقا من دعم مطلق لكل الثورات العربية، من أجل تحقيق الحلم العربي فيما يتعلق بالعدالة والحرية وحقوق الإنسان كغيرها من الشعوب".