15 فبراير 2017
مؤتمر "فالصو" وردع إيران على حساب فلسطين
مالئ الدنيا وشاغل الناس هذا الأسبوع كان مؤتمر وارسو، أو ما يمكن وصفه، لضرورات هذا المقال، بأنه مؤتمر "فالصو". حلفاء إيران في حالة ذعر وتأهب، أياديهم على الزناد لإجهاض مؤامراتٍ مفترضةٍ تبرّر رفع اللهجة وحمل البندقية، وخصومها العُزّل يهللون للمنقذ الأميركي، ولا يتعبون من انتظار ملاحمه البطولية، مهما خيّب آمالهم مرة بعد مرة، فالرئيس الأميركي الذي يوضّب الأسلحة والعتاد لمغادرة سورية سعى مستشاروه من التيار المحافظ، على مدى يومين، إلى إقناعنا بأن إدارته مستعدة للاستثمار في مواجهة إيران، وبأن طريق ردع طهران لا يمر بالضرورة عبر حل عادل للقضية الفلسطينية.
كان مؤتمر "فالصو" بحد ذاته تمريناً على إضاعة الوقت، لكن ما حدث من عروض جانبية على هامشه هو بيت القصيد، لا سيما الرقص حول التطبيع العربي مع إسرائيل مدخلاً لردع إيران. تختزل فكرة المؤتمر الركائز الثلاث التي تستند إليها مقاربة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الشرق أوسطية: ضغوط دبلوماسية واقتصادية على طهران، حلف عربي - إسرائيلي ضد إيران، مفتاحه تسوية ما إسرائيلية - فلسطينية، وتمكين إسرائيل في قصف التحرّكات الإيرانية في سورية. بعد خروج العسكر ورجال الأعمال المعتدلين من الإدارة
الأميركية، أصبح التيار المحافظ الصوت الوحيد في المكتب البيضاوي، وأضحى ترامب يتخبّط بين رغبته في الانسحاب من مناطق النزاع (سورية وأفغانستان)، وميله إلى إنهاء التوتر مع روسيا وكوريا الشمالية من جهة، ورغبته في التشدّد في إيران وفنزويلا لأسبابٍ داخليةٍ انتخابيةٍ من جهة أخرى.
هذا الرئيس الذي جاء إلى السلطة بدون عقيدة لا يزال مهووسا بفكرة نقض إرث سلفه باراك أوباما في الشرق الأوسط، لا سيما الاتفاق النووي الإيراني. وكان أوباما قد جاء بفكرة أن أميركا لن تخوض معركةً مع إيران، نيابة عن حلفائها العرب، وأنه يجب فصل الاتفاق النووي عن أنشطة طهران الإقليمية. يحمل ترامب مقاربة مغايرة، وهي صياغة تحالف عربي - إسرائيلي ضد إيران، مع عدم الفصل بين الاتفاق النووي وسياسات إيران الإقليمية.
هناك بدون شك حرب نفسية قائمة حاليا بين واشنطن وطهران، لكن النبرة العالية بينهما لا تتماشى مع الميدان، حيث تنسحب أميركا من سورية في ظل استمرار المهادنة بين الطرفين في كل من العراق ولبنان وفلسطين. أميركا في ظل ترامب معزولة دوليا في محاولتها فرض عقوبات على طهران، لجلبها إلى طاولة المفاوضات، لحوارٍ تريده واشنطن ثنائيا، ويشمل برنامج الصواريخ البالستية وتدخلات إيران الإقليمية وتعديلات على الاتفاق النووي الحالي. وبما أن النظام الإيراني لن يقبل بهذا الاستدعاء الأميركي، على الرغم من الاستنزاف المالي
الذي يتعرّض له، فإن خطة البدل عن ضائع هي أن تقود إسرائيل حملة الردع الأميركية ضد إيران، باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على المواجهة بعد تخلي واشنطن عن "قوات سورية الديمقراطية". وبالتالي، على حلفاء واشنطن العرب الوقوف مع إسرائيل، والقبول بتمرير تسويةٍ، حتى لو لم تكن ترضي تطلعات الفلسطينيين.
وهذه ليست المرة الأولى التي تربط فيها واشنطن بين التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وقضية إقليمية تخدم مصالحها، فقد كان الرئيس جورج بوش الأب قد ربط بين القضية الفلسطينية وحرب الخليج الأولى، وكان الثمن دخول الجيش السوري لإنهاء الحرب في لبنان، وإحكام السيطرة عليه. والآن، يقترح ترامب القضية الفلسطينية كبش فداء لإنجاز الحلف العربي-الإسرائيلي المفترض.
وخطة السلام الأميركية التي تسمّى، لسخرية الأقدار، "صفقة القرن"، هي أول خطة في تاريخ حل النزاعات لم يتفاوض أطراف النزاع على مسوّدتها، ولم تتم استشارتهم أو اطلاعهم على تفاصيلها. يتباهى صهر الرئيس والطفل المعجزة، جاريد كوشنير، بأنه أخفى عن الجميع في واشنطن هذه الوصفة السرية لحل النزاع، الوصفة التي لم يكتشفها أحد قبله. وليس هناك رادع في واشنطن لتعديل هذه المقاربة بعدما أقصى كوشنير الجميع عن إدارة هذا الملف، لا سيما وزارة الخارجية، كما تخلى الكونغرس عن أي دور رقابي، على عكس جهوده لتقييد ترامب في ملفات خارجية أخرى. ولكن بذور فشل خطة كوشنير هي في المعادلة الإقليمية نفسها التي تستند إليها. تريد إسرائيل أن ينسى بعض العرب القضية الفلسطينية، ويلتفّوا حولها لردع إيران. وينتظر بعض العرب إسرائيل بشغفٍ لتعبر جسر التسوية مع الفلسطينيين، ليبدأ الردع
المشترك لطهران. وبالتالي، ليس مطلوبا من الفلسطينيين الانخراط في هذا التحالف العربي – الإسرائيلي – الأميركي فقط، وإنما أيضا الدفع من كيسهم لبلورته عبر القبول بدولة فلسطينية برتبة بلدية. وستفشل خطة كوشنير حتما؛ تحدّي الفلسطينيين ليس المجاهرة بمهمة إفشالها، بل تفادي محاولة تحميلهم المسؤولية الكاملة لهذا الفشل.
وليست خطورة خطة كوشنير في فشلها الحتمي، بل بتداعياتها المحتملة على الداخل الفلسطيني. بعد سيطرة "حماس" على قطاع غزة في يونيو/ حزيران 2007، كانت مقاربة الرئيس جورج بوش الابن معاقبة القطاع، وتمويل الضفة الغربية، بحجة إعطاء الفلسطينيين تجربة نموذجية في حال اختيارهم طريق السلام. وما يقوم به ترامب الآن هو عكس ما قام به بوش الابن، أي معاقبة الضفة بقطع التمويل في مقابل توفير المشاريع لقطاع غزة، أي تعزيز الانقسام الفلسطيني أو على الأقل عدم الدفع نحو خطوات عملية لتحقيق المصالحة الفلسطينية.
في المحصلة، جاء مؤتمر "فالصو" بمثابة تذكير لإدارة ترامب بأن لديها في هذا العالم خصوم أكثر مما لديها حلفاء. ولهذا لا يمكنها أن تذهب بعيدا في استراتيجيتها الشرق أوسطية، وتذكير النظام الإيراني بأن الوقت الذي يمر ليس لصالحه، وتشريع السلاح في المنطقة لحماية مصالحه سيرتد في النهاية على استقراره الداخلي. ولا بد من الإقرار بأن لا العربَ ولا الأميركيين مستعدون للوقوف في الصفوف الأمامية لمقارعة إيران وحلفائها، ولا إسرائيل ولا إيران تريدان المواجهة أو ترغبان في تحمّل تبعاتها، و"صفقة القرن" لا أفق لها، مهما زاد التشويق بشأن إعلانها. إذاً، مؤتمر "فالصو" ليس نقطة تحوّل وليس حلف بغداد، والثمن الإسرائيلي لردع إيران يجب أن لا يكون من كيس الفلسطينيين.
الأميركية، أصبح التيار المحافظ الصوت الوحيد في المكتب البيضاوي، وأضحى ترامب يتخبّط بين رغبته في الانسحاب من مناطق النزاع (سورية وأفغانستان)، وميله إلى إنهاء التوتر مع روسيا وكوريا الشمالية من جهة، ورغبته في التشدّد في إيران وفنزويلا لأسبابٍ داخليةٍ انتخابيةٍ من جهة أخرى.
هذا الرئيس الذي جاء إلى السلطة بدون عقيدة لا يزال مهووسا بفكرة نقض إرث سلفه باراك أوباما في الشرق الأوسط، لا سيما الاتفاق النووي الإيراني. وكان أوباما قد جاء بفكرة أن أميركا لن تخوض معركةً مع إيران، نيابة عن حلفائها العرب، وأنه يجب فصل الاتفاق النووي عن أنشطة طهران الإقليمية. يحمل ترامب مقاربة مغايرة، وهي صياغة تحالف عربي - إسرائيلي ضد إيران، مع عدم الفصل بين الاتفاق النووي وسياسات إيران الإقليمية.
هناك بدون شك حرب نفسية قائمة حاليا بين واشنطن وطهران، لكن النبرة العالية بينهما لا تتماشى مع الميدان، حيث تنسحب أميركا من سورية في ظل استمرار المهادنة بين الطرفين في كل من العراق ولبنان وفلسطين. أميركا في ظل ترامب معزولة دوليا في محاولتها فرض عقوبات على طهران، لجلبها إلى طاولة المفاوضات، لحوارٍ تريده واشنطن ثنائيا، ويشمل برنامج الصواريخ البالستية وتدخلات إيران الإقليمية وتعديلات على الاتفاق النووي الحالي. وبما أن النظام الإيراني لن يقبل بهذا الاستدعاء الأميركي، على الرغم من الاستنزاف المالي
وهذه ليست المرة الأولى التي تربط فيها واشنطن بين التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وقضية إقليمية تخدم مصالحها، فقد كان الرئيس جورج بوش الأب قد ربط بين القضية الفلسطينية وحرب الخليج الأولى، وكان الثمن دخول الجيش السوري لإنهاء الحرب في لبنان، وإحكام السيطرة عليه. والآن، يقترح ترامب القضية الفلسطينية كبش فداء لإنجاز الحلف العربي-الإسرائيلي المفترض.
وخطة السلام الأميركية التي تسمّى، لسخرية الأقدار، "صفقة القرن"، هي أول خطة في تاريخ حل النزاعات لم يتفاوض أطراف النزاع على مسوّدتها، ولم تتم استشارتهم أو اطلاعهم على تفاصيلها. يتباهى صهر الرئيس والطفل المعجزة، جاريد كوشنير، بأنه أخفى عن الجميع في واشنطن هذه الوصفة السرية لحل النزاع، الوصفة التي لم يكتشفها أحد قبله. وليس هناك رادع في واشنطن لتعديل هذه المقاربة بعدما أقصى كوشنير الجميع عن إدارة هذا الملف، لا سيما وزارة الخارجية، كما تخلى الكونغرس عن أي دور رقابي، على عكس جهوده لتقييد ترامب في ملفات خارجية أخرى. ولكن بذور فشل خطة كوشنير هي في المعادلة الإقليمية نفسها التي تستند إليها. تريد إسرائيل أن ينسى بعض العرب القضية الفلسطينية، ويلتفّوا حولها لردع إيران. وينتظر بعض العرب إسرائيل بشغفٍ لتعبر جسر التسوية مع الفلسطينيين، ليبدأ الردع
وليست خطورة خطة كوشنير في فشلها الحتمي، بل بتداعياتها المحتملة على الداخل الفلسطيني. بعد سيطرة "حماس" على قطاع غزة في يونيو/ حزيران 2007، كانت مقاربة الرئيس جورج بوش الابن معاقبة القطاع، وتمويل الضفة الغربية، بحجة إعطاء الفلسطينيين تجربة نموذجية في حال اختيارهم طريق السلام. وما يقوم به ترامب الآن هو عكس ما قام به بوش الابن، أي معاقبة الضفة بقطع التمويل في مقابل توفير المشاريع لقطاع غزة، أي تعزيز الانقسام الفلسطيني أو على الأقل عدم الدفع نحو خطوات عملية لتحقيق المصالحة الفلسطينية.
في المحصلة، جاء مؤتمر "فالصو" بمثابة تذكير لإدارة ترامب بأن لديها في هذا العالم خصوم أكثر مما لديها حلفاء. ولهذا لا يمكنها أن تذهب بعيدا في استراتيجيتها الشرق أوسطية، وتذكير النظام الإيراني بأن الوقت الذي يمر ليس لصالحه، وتشريع السلاح في المنطقة لحماية مصالحه سيرتد في النهاية على استقراره الداخلي. ولا بد من الإقرار بأن لا العربَ ولا الأميركيين مستعدون للوقوف في الصفوف الأمامية لمقارعة إيران وحلفائها، ولا إسرائيل ولا إيران تريدان المواجهة أو ترغبان في تحمّل تبعاتها، و"صفقة القرن" لا أفق لها، مهما زاد التشويق بشأن إعلانها. إذاً، مؤتمر "فالصو" ليس نقطة تحوّل وليس حلف بغداد، والثمن الإسرائيلي لردع إيران يجب أن لا يكون من كيس الفلسطينيين.