شكّلت مقاطع الفيديو التي صوّرها السوريون، منذ 15 آذار/ مارس 2011 حتى اليوم، أرشيفاً ضخماً لأهم وأعنف حدث شهده البلد منذ أكثر من نصف قرن. فما من مدينة سورية إلا واحتضن ترابها جثة شاب قُتل وبيده هاتفه المحمول. منذ بدايات الحراك الشعبي، راح المتظاهرون يوثقون كل واقعة، لأن عالم اليوم، والتاريخ، لا يأخذان الحقيقة على محمل الجدّ إن لم تكن مرفقة بالوثائق.
هكذا، أضحت مواقع الشبكة العنكبوتية تغصّ بآلاف مقاطع الفيديو، التي تنقل تفاصيل حكاية كيفما قرأتها عرفت متنها: شعب صنع حدثَه، وأصر على توثيقه، ليقابَل بعنف الدكتاتورية وإجرامها، ما دفعه إلى توثيق.. مقتله، أيضاً.
يعيدنا الفيلم التسجيلي "ماء الفضة"، لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، مرة أخرى إلى هذه الأسئلة حول قدرة الكاميرا، بل السينما، على المواجهة، وأهميتها كفعل مقاوم في عصر يوصف بعصر الصورة بامتياز. الشريط الذي بُث قبل أيام في عرض خاص على قناة "آرتيه" الفرنسية الألمانية، كان قد سجّل حضوراً لافتاً في الدورة الأخيرة من مهرجان "كان"، ومطلع الشهر الحالي في مهرجان "تورنتو" السينمائي.
يُشرع الفيلم السوري الأسئلة على ألف صورة وصورة، كانت عمادَه، وعماد الواقع السوري أيضاً. ألف صورة وصورة تشكّل مرجعاً لا بد من العودة إليه دائماً عند مطالعة أرشيف الثورة. هكذا، يسرد "ماء الفضة"، في جزئه الأول، المعتمد في معظمه على مقاطع "يوتيوب"، سيرة الحراك الشعبي وانطلاقته. استعادة لمشاهد المظاهرات ومقاطع التعذيب والقصف. كما يؤسس لعلاقة نشأت بين المخرج، محمد، ومقاطع الفيديو التي أدمن مشاهدتها.
يروي صاحب "صندوق الدنيا" الحكاية بصوته، ويقسمها إلى عدة أجزاء مُعنونة. فمن "ماراثون" الثورة السورية الذي تنقّلت "فعالياته" بين مدن البلد، إلى "سبارتاكوس" حيث انشقاق وليد القشعمي عن جيش النظام (وهو أول عسكري سوري يعلن انسحابه من قوات الأسد ليصطفّ مع الثوار)، وصولاً إلى "دوما مونامور" الذي يستعيد فيه استشهاد الشاب فؤاد بلة الذي سبق وتعرف إليه المخرج قبل سنوات عشية عرض فيلم "هيروشيما مونامور" في النادي السينمائي الخاص بـ"المركز الثقافي الفرنسي" في دمشق.
تتقدّم سردية الفيلم نحو رحلة المخرج السوري إلى فرنسا، مدينة "كان" تحديداً، في 9 أيار/ مايو 2011، ليشارك في ندوة حول السينما والدكتاتورية أقيمت على هامش مهرجانها. هكذا، حمل محمد صور أبناء بلده، وما يمكن أن تقوله سينمائياً، إلى المهرجان، قائلاً إن السينما السورية بدأت مع اللحظة التي خرج فيها السوريون إلى الشوارع ووثقوا بالكاميرات ثورتهم. بعد ذلك، لن يتمكن المخرج من العودة إلى بلده، ليبقى في باريس، متابعاً منها النيران التي كانت تشتغل في بلده يوماً بعد آخر.
في ظل الصراع النفسي الذي يحياه محمد في منفاه، ترسل إليه فتاة رسالة عبر فيسبوك، تسأله إن كان يحب الحكايا. إنها وئام سيماف بدرخان، الفتاة التي ستصبح لاحقاً شريكته في صناعة الفيلم. تُهِرّب وئام أو سيماف (ويعني اسمها، بالكردية، ماء الفضة) كاميرا إلى حمص، لتصوّر مشاهد من هناك، وترسلها إلى محمد، في ما يمكن تسميته بمادة الفيلم، أو حكاية جزئه الثاني.
يزداد، يوماً بعد الآخر، قلق أسامة على سيماف التي تعيش في حمص، حيث تنقطع أخبارها أياماً عدة، قبل أن تعود لتنقل له أخبار المدينة التي تتعرّض لحصار خانق. يتشاركان، عبر مراسلاتهما، الأسى، والمناجاة، وصور الخراب المتزايد في عاصمة الثورة. حياة كاملة تصنعها سيماف في حمص، فتشكّل صفّاً مدرسياً لرعاية الأطفال في ظل الدمار الذي يزداد يوماً بعد آخر، ليصبح هو والأطفال أبطال الفيلم.
ترصد سيماف بعدستها لحظات قاسية من حصار حمص: خروج أهالي المدينة المحاصرة، ومشاهد الأحياء المدمرة بالكامل، وكذلك مناظر الجوع والتشوّه التي تلمّ ليس بالبشر وحسب، بل حتى بالحيوانات. تصاب سيماف بشظيّة في قدمها، ومن ثم تتعافى، ليزداد إصرارها على البقاء في حمص. فتحاول خلق أي مظاهر للحياة في المدينة، إلا أنها تضطر لاحقاً إلى الخروج مع آخر الخارجين من مدينة لم يبق فيها سوى رائحة الموت.
يبدأ الفيلم وينتهي بعرض فيديوهات التعذيب والتنكيل داخل الثكنات العسكرية وأقبية المخابرات. هو مبحث مهم يُسلَّط الضوء عليه في شريط "ماء الفضة": غاية تسريب هذا النوع من الفيديوهات؟
لا يتوانى الشريط عن محاولة تقديم اقتراحات قد تساعد في إيجاد إجابات عن السؤال السابق. إحدى هذه الاقتراحات يمكن استشفافها من بناء الشريط بصرياً؛ ترتيب المشاهد وتتاليها، حيث يظهر الصراع على أنه صراع سينمائي بامتياز: "سينما القاتل" لا تستطيع تعطيل "سينما القتيل" (كما يسميهما أسامة محمد في الفيلم). وفي سبيل الصراع السابق، تعمّد الفيلم عرض مقاطع "بوتيوب" غير رسمية تمثّل القاتل، وإن كان مضمونها فائق الوحشية ومؤذياً على الصعيد النفسي، لكنها الدليل الوحيد الذي يعكس حقيقة القاتل، و"سينماه"...