ما دار من حديث حول رغبة لدى الائتلاف الشعبوي الجديد، "رابطة الشمال" و"حركة النجوم"، للسيطرة على الحكم في إيطاليا بعد حصولهما على الأكثرية البرلمانية في انتخابات 4 مارس/ آذار الماضي، أثار القلق في ألمانيا تجاه الوضع المستقبلي لبلد أساس في منطقة اليورو، والذي لم يسبق له أن شهد حكومة معادية لأوروبا في مرحلة ما بعد الحرب. كل ذلك انتهى مرحلياً، مع تعيين الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، المناصر لأوروبا، كارلو كوتاريلي، رئيساً لحكومة تكنوقراط، بانتظار أن تتم الموافقة عليها برلمانياً، وقيادة البلاد في الانتخابات الإيطالية المبكرة في الخريف المقبل.
الحسابات الألمانية قبل تعيين كوتاريلي، انطلقت من الناحية الاقتصادية، إذ إن من شأن تهديد إيطاليا، بقيادة الشعبويين، بخرق القواعد الأوروبية التي وقّعت عليها عند الانضمام إلى الاتحاد النقدي، أن يستولد المشاكل للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ويزيد من الشرخ بين الدول الثلاث الأساس في منطقة اليورو، إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ما سيتسبب بانقسام وغياب التكامل للمشروع الكبير للاتحاد الأوروبي.
وباتت ميركل أمام واقع جديد، لأن الوضع الإيطالي أكثر تعقيداً مما كان عليه في عام 2011 في ذروة أزمة اليورو، لأن الثلاثي المذكور خاض الأزمة معاً، وبوجود حكومة شعبوية في إيطاليا، سيكون الأمر صعباً. كما سيدفع ذلك إلى تأجيل بتّ ميركل باقتراحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعية للإصلاحات في أوروبا. والسبب أن أي طرف لن يكون مستعداً للتعاون مع شريك يلعب بشكل علني ويهدد بكسر القواعد. بالتالي تبقى برلين متخوفة إلى حين إجراء الانتخابات الإيطالية المبكرة، ومدى جنوح روما مجدداً لحكومة شعبوية. وتبدي برلين قلقها من أن الشلل في العملية السياسية سيقود ألمانيا إلى تحمّل المزيد من المخاطر من دول منطقة اليورو، وهذا التطور الخطير ستكون له عواقب وخيمة بالنسبة لألمانيا في حال انسحاب ايطالي محتمل من اليورو.
وكان الأمين العام للمجلس الاقتصادي وولفغانغ شتايغر، قد اعتبر في تعليق له لمجلة "فوكس"، أن "ما يحصل في إيطاليا هو بداية خطر حريق يمكن أن يشكل نهاية بالنسبة لليورو، لأن الشعبويين في روما يريدون اللعب في مستقبل العملة المشتركة. وهذه معضلة حقيقية، لأن البلاد لديها الكثير من الديون القديمة، وستبقى تلك الملفات عالقة في ظلّ هذه الأزمة، والمخاطر على السندات الحكومية آخذة في الارتفاع. وكلما كانت أسعار الفوائد أعلى من النسبة المئوية للنمو الاقتصادي يزداد عبء الديون. وهذا ما خفض الاستثمار العام من نحو ثلاثة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2 في المائة في الآونة الأخيرة، والأهم هو تخفيض الإنفاق على التعليم".
وأي رحيل محتمل لإيطاليا من منطقة اليورو ستكون له تداعيات ومخاطر كبيرة على دافعي الضرائب الألمان وسيؤدي إلى انهيار اليورو وسيتسبب بانخفاض في أرباح الشركات، ما سيؤثر سلباً على الأجور، انطلاقاً من استفادة الاقتصاد الألماني من اليورو أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا.
بدوره، حذّر رئيس وزراء ولاية بافاريا، ماركوس سودر، في حديث مع صحيفة "باساور نويه برسه"، قائلاً إنه "يجب القيام بكل شيء لإدخال إيطاليا في العقلانية المالية"، ومنبهاً من "مخططات الإرث اليميني الجديد والذي من الممكن أن يهدد منطقة اليورو بأكملها، لأن رابطة الشمال وحركة النجوم الخمس يريدان وضع حد لسياسة التقشف في إيطاليا المثقلة بالديون، والدخول على نطاق واسع في المواجهة مع الاتحاد الأوروبي. كما والدخول في مشاريع لها تكاليف باهظة الثمن تسبب قلقاً للاتحاد الأوروبي والأسواق المالية".
وعن الأسباب التي أوصلت إيطاليا إلى هذه المرحلة، رأى بعض المحللين أن "الفشل الكامل للطبقة السياسية ظهر بعد أن التهمتها فضائح الفساد الضخمة وبعدما لم تتمكن من الاستفادة من فرص جديدة للقيام بإصلاحات، وخصخصة بعض القطاعات إلى عدم الكفاءة لديها للنهوض بالبلاد، إلى مشكلة هجرة. كما أنه ليس من السهل إغلاق حدود إيطاليا مثل الدنمارك أو النمسا، والبلاد تقع على البحر الأبيض المتوسط ويتحكم الموقع الجغرافي بسياسة الهجرة فيها، ولم تتمكن روما من تنظيم الهجرة ولم تلقَ أي دعم جدّي من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها البلاد منذ عشر سنوات، فقدت فيها إيطاليا ربع إنتاجها الصناعي منذ عام 2008. ويعيش حالياً أكثر من 4 ملايين مواطن تحت خط الفقر، ومئات الآلاف منهم يغادرون البلاد سنوياً، وبات الشعب يشعر بأنه متروك لمصيره. الأمر الذي مهّد لحصول رابطة الشمال على 17 في المائة من أصوات الناخبين، وحالياً تعطيها استطلاعات الرأي 25 في المائة، رغم حملها لمصطلحات الشعبوية والكره للأجانب التي تخفي أكثر مما تفسر".
ويمكن لألمانيا الشعور بالطمأنينة بعض الشيء، فالرئيس ماتاريلا حليف أساسي لأوروبا، ورفض إفساح المجال لحكومة شعبوية، بفعل حق النقض الذي مارسه ضد وزير الاقتصاد المقترح، باولو سافونا، المعارض لأوروبا. وأدى رفض ماتاريلا إلى اعتذار مرشح الشعبويين، جيوزيبي كونتي، وخروجه من دائرة تشكيل الحكومة. وبدا وكأن ماتاريلا كان يستعدّ لهذه الخطوة، فسارع لتعيين كوتاريلي، الموصوف بأنه "رجل صندوق النقد الدولي"، والمقبول أوروبياً، على أن يقود حكومة تكنوقراط حتى موعد الانتخابات المقبلة. لكن ذلك دونه عقبات، فماتاريلا فرض نفسه، بموجب المادة 92 من الدستور، التي تتيح له استخدام حق النقض في تشكيل الحكومة، وهو ما يعني إمكانية استخدامه حق النقض مجدداً في الحكومة المقبلة في حال أصرّ الشعبويون على رفض أوروبا. وهو ما دفع بزعيم "حركة النجوم الخمس" لويجي دي مايو، إلى افتتاح معركته الخاصة، والقاضية بـ"عزل الرئيس الإيطالي".