كما هي العادة في الحروب؛ سريعاً ما تبدأ أصوات في الدعوة إلى وقف إطلاق النار. ربما تخبو هذه الدعوات لبعض الوقت بسبب هيمنة ضجيج قذائف المدافع والطائرات، لكنها تستمر في كونها مطلباً إنسانياً ودولياً، خصوصاً أنه مع كل يوم إضافي ترتفع تكلفة الحرب التي قد تطاول مضاعفاتها دولاً مجاورة، أو تمّس مصالح دول كبرى، وعندها سيكون فرض وقف الحرب وإطلاق النار أمراً تقرره الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
ملامح حدوث ذلك في ليبيا تلوح في الأفق، لكن السؤال الأبرز هو: ماذا بعد وقف إطلاق النار؟ وتحديداً ماذا بشأن مطالب العودة لطاولة المفاوضات التي عادة ما تعقب وقف القتال. في المسألة الليبية، لن يكون في متناول الجميع، أو على الأقل كما يشتهي رعاة السلام في ليبيا، العودة للتفاوض على أساس ما قبل بدء حرب مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس، وتحديداً بناءً على اتفاق أبوظبي الذي رعته البعثة الأممية بين الأخير ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج في 27 فبراير/ شباط الماضي. فهذا الأمر باتت أوضاع الميدان ترفضه بشدة.
فكيف لمن يتبادلون إطلاق القذائف والصواريخ أن يجلسوا لتبادل وجهات النظر على التفاهمات السابقة ذاتها التي صيغت في غرف مقفلة في الإمارات، والأخيرة من أوّل الدول المتورطة في دفع حفتر للانقلاب على جهود الحلّ السياسي السلمي.
تحدّثت مصادر رسمية، لا بل السراج نفسه، عن بعض ما اتفق عليه في أبوظبي، ومن ضمن ذلك منح حفتر منصب القائد العام للجيش. وربما هذا لوحده يكفي اليوم لرفض الاتفاق من قبل أوسع الشرائح المؤثرة والأكثر حضوراً في البلاد، وهي شريحة المجموعات المسلحة في الغرب الليبي، خصوصاً أن حفتر نقض ما اتفق عليه، وقلب طاولة المفاوضات لصالح محاولة تحقيق طموحه العسكري، قبل أيام فقط من انطلاق ملتقى غدامس، برعاية الأمم المتحدة، الذي كان سيؤطر ما اتفق عليه في أبوظبي، ويمنح اللواء المتقاعد الشرعية من خلال مباركة وتصويت المشاركين في الملتقى.
كذلك، لم يعد السراج يمثّل طرفاً رئيسياً، ومثله حفتر، فالفجوة اتسعت كما لم يحدث سابقاً، ومبدأ بناء الثقة بين الأطراف انهار.
أمّا ملفات وأوراق المبعوث الأممي غسان سلامة، فتبعثرت إلى أسئلة، وانتقلت من التركيز على كيف ستكون آلية اختيار المشاركين في غدامس، وكيف ستكون الضمانات للقبول بنتائج الملتقى الجامع، إلى حصر عدد ضحايا الحرب، وكيفية مشاركة الأمم المتحدة في تقديم المساعدات للنازحين.
بلا شكّ، لن تقبل شرائح واسعة، تشارك اليوم في الدفاع عن عاصمة البلاد كرمز للتأكيد على مدنية الدولة ورفض عسكرتها، بجلوس السراج مع حفتر على أساس تفاهمات أبوظبي، بل لن تسمح له بالجلوس منفرداً. المشهد في جنوب طرابلس اليوم بدأ يتشكل على نحو شبيه بما حدث في أعقاب فبراير/ شباط 2011.