ماذا بقي من "العالم العربي"؟
بعد نحو أربعين ساعة على انفجار بيروت، كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يزور مسرح الانفجار في منطقة المرفأ، يتفقد الأضرار الجسيمة، ويوجّه النقد للمسؤولين المحليين، ويعبر عن تضامنه مع اللبنانيين، واعداً بمساعدات عاجلة. وبالفعل، أدار ماكرون، بعد يومين على زيارته هذه، مؤتمرا للمانحين، بالتعاون مع الأمم المتحدة عبر تقنية الفيديو، وبمشاركة عدد من قادة الدول، وتعهد المجتمعون بتقديم 300 مليون دولار من المساعدات العاجلة، وشاركت في المؤتمر، إضافة إلى فرنسا، ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا والاتحاد الأوروبي (غابت عنه روسيا والصين)، ومن الدول العربية الكويت، وتعهدت بـ30 مليون دولار، وقطر التي تعهدت بـ 50 مليون دولار.
سمع ماكرون، في أثناء زيارته بيروت، دعواتٍ صريحة من بعض الأهالي تطالب بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان، ما حمل بعضَهم على شن حملاتٍ على منصات التواصل، ضد من "من يحلمون بعودة الاستعمار"، من دون التوقف عند المدلول الرمزي لهذه المطالبة التي صدرت في أجواء الصدمة والذهول، والتي تنبئ بأن عهد الاستقلال ليس أفضل في نتائجه من حقبة الانتداب، ودليل ذلك تتابع الكوارث على هذا البلد، وإلى درجة أن سواد الناس باتوا مهدّدين بالجوع والموت العشوائي. وقد لوحظ أن الرجل نالته حفاوة كبيرة شعبية ورسمية، وتطلعت إليه جميع الأنظار سائلة المسارعة إلى الإنقاذ. (رئيس الجمهورية ميشال عون حدّد موعدا منتظرا قبل حلول فصل الشتاء لوصول المساعدات المأمولة). لقد بدت فرنسا راعيةً بالفعل لبنان، والفضاء العربي لهذا البلد ضيق ومنخفض. وإن اجتماعا طارئا لجامعة الدول العربية لم يتم، لإسعاف هذا البلد الذي كان بين ستّ دول عملت على إنشاء الجامعة عام 1945. وقد تمت الاستعاضة عن ذلك بزيارة إلى بيروت، أدّاها الأمين العام أحمد أبو الغيط، أعرب فيها عن تضامن عاطفي وحماسي قلّ نظيره.
المصالح الفعلية والاعتبارات الأمنية على مختلف المستويات هي ما يوجّه العلاقات بين الدول، وليس العواطف والمشاعر "القومية"
هل بقي هناك عالم عربي؟ عالم عربي واحد؟ يصعب رؤية ذلك بالعين المجرّدة، فسنة إثر سنة تتناثر الدول العربية وتتباعد مثل جُزرٍ في محيط زلازل. ما يسترعي الانتباه، في هذا الصدد، أن مؤتمر القمة الدوري قد تم إرجاؤه هذه السنة من أواخر مارس/ آذار إلى ما بعد ثلاثة أشهر، على أن يعقد في الجزائر، وذلك بسبب جائحة كورونا. وحين حلّ الموعد الجديد في أواخر يونيو/ حزيران، لم يعقد المؤتمر، وهو أمر مفهوم لأن الجائحة تفشّت، غير أنه بالكاد قد أتى أحد على ذكر الموعد الذي حل وانقضى من دون أن يتحقق، علماً أنه كان يمكن أن يعقد عن بُعد، كما مؤتمرات أخرى، فإذا كان أرفع لقاء عربي ينقضي موعده ولا يتحقق، من دون أن يتوقف أحد عند ذلك، فهل بقي هناك عالم عربي واحد حقا؟
إنها لمن المفارقات حقّا أنه كي يعرف المتابع ما يجري في بلاد العرب، فلا بد أن يتابع ليس بالضرورة أخبار هذا البلد العربي أو ذاك (باستثناء المآسي والإخفاقات الداخلية)، بل أن يتابع التحرّكات الإيرانية والتركية والإسرائيلية، لدول الجوار الإقليمي. وفي الحلقة الدولية الأوسع، تحرّكات أميركا وروسيا وفرنسا، فهذه الدول وغيرها هي الحاضرة والفاعلة في مجرى الأحداث والتحرّكات في لبنان وسورية والعراق واليمن وليبيا، وحتى بعض دول شمال أفريقيا العربية ودول أخرى. وبات الجمهور العربي يعرف تفاصيل المشهد السياسي في إيران وتركيا والدولة العبرية بأكثر مما يتابع ما يجري داخل الدول العربية "الكبيرة"، فالأنظار العربية تتجه إلى الخارج، وليس إلى الداخل الذي لا يُغري بالمتابعة، ولا يحمل أملاً أو وعداً.
هل بقي هناك عالم عربي؟ عالم عربي واحد؟ يصعب رؤية ذلك بالعين المجرّدة، فسنة إثر سنة تتناثر الدول العربية وتتباعد
وقد انضمّت أخيرا جمهورية إثيوبيا للدول المتحكّمة بالمصير العربي، وقد باتت تتحكّم في شريان الحياة (نهر النيل) لبلدين عربيين كبيرين، مصر والسودان. وبينما تنجز إثيوبيا مرحلة أولى من مراحل التخزين على سد النهضة، فإن السودان يواجه، في الأثناء، فيضاناتٍ أدّت إلى مقتل العشرات وتشريد الآلاف. ولا تعبأ أديس أبابا بعلاقتها مع مصر والسودان، ولا مجمل العالم العربي، في تعنتها وتحكّمها بالنهر الأفريقي الذي تصفه بأنه إثيوبي.. وقبل ثلاثة عقود، كان بضعة ملايين من الإرتيريين يُشهرون التحدّي، وينتزعون من إثيوبيا بلد المائة مليون آنذاك، استقلالهم. وهذا هو أحد الفروق في مشهد التعامل مع هذه الجارة الأفريقية.
والآن، ثمّة محاولاتٌ لاستدخال مزيد من دور الجوار، مثل بلد متوسطي هو مالطا، على خط الصراع الدائر حول ليبيا، فيما تجري منذ فترة محاولاتٌ لاستدخال بلد متوسطي آخر، هو اليونان، على خط الصراعات البينية، وبحيث لا يبقى بلدٌ في الجوار، صغُر أم كبُر، من دون أن يكون له حظ في تقرير وجهة المجريات العربية.
لقد أصبح العالم العربي، في السنوات القليلة الماضية، أشبه بأفراد عائلة واحدة وكبيرة العدد، توزّعت بهم الأهواء والمصالح والمطامح والحسابات الفئوية والأنانيات، إضافة إلى التعثرات والإخفاقات، فما عادوا يطيقون بعضهم بعضا، ولا يأمنون لبعض، ويلتمس كل منهم الصداقة والتفاهم والتعاون مع الآخرين، أيا كانوا، بمن في ذلك أعداء قدامى وخصوم مستجدّون، على أن يجتمع عقدهم مجدّدا في ما بينهم.
العالم العربي لم يطوّر مفاهيم للأمن الجماعي، ولم يعقلن المصالح المشتركة، ويجمعها في إطار أو سياق تدرّجي
ويدرك المرء، مع سوق هذا المثل، أن المصالح الفعلية والاعتبارات الأمنية على مختلف المستويات، هي ما يوجّه العلاقات بين الدول، وليس العواطف والمشاعر "القومية"، أو حتى الارتباط بتاريخ مشترك، غير أن العالم العربي لم يطوّر مفاهيم للأمن الجماعي، ولم يعقلن المصالح المشتركة، ويجمعها في إطار أو سياق تدرّجي، كما فعلت دول آسيوية وأوروبية عقودا، وأصابت نجاحا كبيرا، فيما العقل السياسي السائد يترجّح كالبندول بين أقصى الأمور، فإما الوحدة العربية أو الإقليمية، القطيعة والتنابذ.. إما الزواج أو الطلاق (الخصومة)!
وها هي جائحة كورونا تتكفل بتقطيع ما بقي من أواصر ومن مستويات التواصل، وليس أدلّ على ذلك من مشهد عرب مغتربين في ديار عربية، تقطعت بهم السبل، ولا يسعهم المكوث حيث هم، ولا العودة إلى أوطانهم. فماذا بقي من العالم العربي الذي كان يبدو عالما واحدا قبل أقل من عشر سنوات؟