23 اغسطس 2024
ماذا تعني التسوية السياسية في اليمن؟
التسويات السياسية قدر الحروب وخاتمتها المتوقعة والطبيعية تاريخياً، وطاولة المفاوضات هي معركة المنهزم الأخيرة، في أي حرب طوال التاريخ، لكن بعض هذه التسويات، أحياناً، حينما تكون هناك أطرافٌ لا تريد هزيمةً حقيقية للمنهزم، لكونه بلا قضية ومجرد ورقة سياسية، مستخدمة لهذا الطرف أو ذاك. وبالتالي، تسعى هذه الأطراف إلى تسوية وضعه، وإعادة الاعتبار له، تحت مسمى إعلان الاستسلام، وهذا ما تصنعه كواليس السياسة دائماً.
هذا النوع من الكواليس هو ما بات يخشاه اليمنيون كثيراً، في هذا المرحلة بالذات، مخافة تكرار تجاربهم المريرة مع مثل هذه التجربة الفاشلة، والدائمة في تاريخ اليمنيين عقوداً طويلة، منذ ما بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول حتى ثورة 11 فبراير/شباط 2011، وكلها محطاتٌ سياسيةٌ كانت يتم فيها الذهاب إلى سلامٍ كاذبٍ يؤجل الصراع، ويضاعف تكاليفه وتضحياته أكثر لمحطاتٍ آتيةٍ أكثر عنفاً.
تجربة اليمنيين مريرةٌ، إلى حد كبير، ولم يعودوا قادرين وقابلين بتكرارها اليوم، فبعد ثورة سبتمبر، والتي أعقبتها ما عرفت بالحرب الملكية الجمهورية (1962ـ 1970)، وما عرف بالمصالحة الوطنية، والتي بموجبها تمت عودة فلول الدولة الإمامية العميقة إلى قلب دولة جمهورية سبتمبر، بل وتمكين الملكيين من قيادة دفة هذه الجمهورية، تحت راية "حمير" الجمهوري ونشيده وطيره، وهم الذين حاربوها وجمعوا العالم كله لحصار صنعاء، لإسقاط هذه الجمهورية، لكنهم فشلوا أمام صمود أبطال سبتمبر ونضالهم.
بيد أن ما عجزوا عن تحقيقه عسكرياً استطاعوا تحقيقه سياسياً بمؤتمر المصالحة الوطنية الملكية الجمهورية، برعاية المملكة العربية السعودية حينها عام 1970، تلك الاتفاقية المشؤومة التي بموجبها عاد الإماميون ليخططوا لهذه اللحظة الأليمة التي يعيشها اليمنيون، اليوم، حرباً ودماراً طاول الجميع، بما فيهم المملكة العربية السعودية التي تقدم تضحيات كثيرة اليوم.
عاد الملكيون، بموجب تلك المصالحة الوطنية، إلى كل أجهزة الدولة التي لم يكن حينها سواهم يمتلكون خارطة إفراغ مضمونها من الداخل، وهو ما تمثل، لاحقاً، بفشل جمهورية سبتمبر، وتحولها إلى شيء أقرب إلى النكته منه إلى الحقيقة، بفعل المشروع الإمامي الذي كان ينخر فكرة سبتمبر وأهدافها، ويفرّغها من قيمها ومضامينها، بممارساتٍ كهنوتيةٍ قرويةٍ متخلفةٍ حولت اليمن الجمهورية إلى إقطاعيةٍ مناطقيةٍ، يدير ظاهرها المشايخ ويحكمها الإماميون من الداخل.
وكل ما فعلته ثورة سبتمبر حينها أنها طردت الإمامة من باب الثورة، لكنها عادت من شباك المصالحة والتسوية السياسية، وهو السيناريو الذي تكرّر مع جمهورية وحدة مايو/أيار 1990، التي أفضت إلى حربٍ أهليةٍ بين شريكي الوحدة، بعد تسوية سياسيةٍ شهيرةٍ، عرفت بوثيقة العهد والاتفاق، والتي وقع عليها في عمّان في 18 يناير/ كانون الثاني 1994، برعاية الملك الحسين بن طلال، وكانت القضايا التي تناولتها الوثيقة بالحل نفسها قضيا المصالحة الوطنية، وهي التي أدت إلى تفجر ثورة 11 فبراير/ شباط2011، وغدت بعد ذلك مادة للحوار الوطني الذي تم الانقلاب عليه، وصولاً إلى هذه اللحظة التي دشنت بانقلاب 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
يعاني اليمن من أزمة مستعصية، دأبتُ على وصفها بالعُقدة اليمنية، على منوال العُقدة اليزنية التي يطلقها المؤرخون اليمنيون على فترة الزعيم التاريخي اليمني، سيف بن ذي يزن، والذي سعى إلى طرد الأحباش من اليمن، بالاستعانة بالفرس، مؤسساً بذلك عقدةً تاريخيةً، مضافاً إليها الٌعقدة الحديثة المتمثلة "بالزيدية السياسية"، وهي التي تفرعت إلى هاشمية سياسية في العهد الإمامي وقبيلة سياسية في العهد الجمهوري، وكلها في قلبها تكمن عقدة الزيدية السلالية التي تختزل اليمن في سلالةٍ، ورقعةٍ جغرافية وحيدة.
ومن هذا المنطلق، كانت ولا زالت كل أزمات اليمن وبواعثها الموضوعية تكمن في وجود سياق أيديولوجي مذهبي كهذا، يرتكز على نظريةٍ سياسيةٍ عقائديةٍ عصبويةٍ غيبية، لا مجال فيها لأي نقاش أو اجتهاد مع نص بشري، عرف، في أدبياتهم، بالحق الإلهي المقدّس، فيما هي فكرة بشرية مجردة، تمخضت عن اجتهادٍ شخصيٍّ لطامح سياسي بالحكم، ممثلاً، كما في أدبيات الزيدية السياسية، بالإمام لهادي يحيي بن الحسين الرسي، الذي قدم إلى اليمن هارباً من الديلم في عام 284 هجرية، لاجئاً سياسياً بلغة اليوم.
بإغفال هذه الخلفية التاريخية المهمة من تاريخ اليمن القديم والمعاصر وتعقيداتها، عدا عن عدم
إدراك تعقيدات هذه اللحظة الإقليمية والدولية المعقدة وخلفياتها في مراكز البحث والتفكير الغربي على مدى المائة سنة الماضية، وخرائطها الاستراتيجية، لن يفضي أي حل إلى حلٍّ سياسيٍّ مقنع، لما سيترتب عليه هذا الحل من حفاظٍ على جوهر المشكلة وإدامتها، والذهاب نحو حلحلة بعض النتائج المترتبة عن الجذر الأساسي للأزمة، والمتمثل يمنياً بنظرية الحق الإلهي في الحكم، وإقليمياً المطامع القومية الإمبراطورية لإيران، ودولياً بالتوجه نحو تقسيم المقسم إثنياً ومذهبياً، بحسب خرائط المرحلة الثانية لسايكس بيكو، بموجب خرائط برنار لويس الشهيرة.
انطلاقاً من هذا كله، لم تعد عملية السلام في اليمن شأناً يمنياً محلياً وداخلياً، بقدر وجاهة هذا الطرح، لكن المشكلة اليوم تكمن في تداخل المشهد المحلي اليمني والخليجي والعربي، وعودته إلى نقطة البداية، قبيل تشكل الدولة الوطنية، دولة ما بعد الاستعمار، وهي تلك اللحظة التي تم فيها الاستفراد بالمنطقة واستعمال مشرط سايكس بيكو تقسيماً وتجزيئاً، وإنما الخوف اليوم أن هذا النمط من المشاريع بدا اليوم أكثر تدميراً وجموحاً من خلال مخرجات هذه المرحلة الأكثر عبثيةً وفوضى.
إن معنى التسوية السياسية، اليوم، وفقاً لأبسط تصور ممكن يتخمض عنه الحل، لا يعني، في أسوأ احتمالياته، سوى انتصار المشروع الإيراني الذي تمكّن، بخلاياه المتعددة طائفياً وسياسياً من دفع المنطقة كلها إلى هذا الوضع الأكثر عبثية، وهو الذي في مأمنٍ من كل هذه الصراعات التي يقتل فيها العرب دون غيرهم، وتمزّق بلادهم وتدمر، فيما هو في الأخير سيحصد نتائج أي اتفاقٍ بالاعتراف بحقه الاحتفاظ بمصالحه الاستراتيجية، والتي في مقدمتها أنه أصبح يمتلك قوىً ونفوذاً في كل البلدان العربية. وفي النموذج اللبناني خير دليل، حيث لم يعد هناك دولة، وإنما هيكل دولةٍ، يقودها حزب الله، ويتحكّم فيها كيفما يشاء.
سيكون من الخطأ الكبير تكرار نموذج حزب الله اللبناني في اليمن، وتكرار سيناريو الطائف يمنياً، لأن ما جرى للبنان، وبعده العراق وسورية واليوم اليمن، لا يعني سوى منطق واحد أن المنطقة كلها، وفي القلب منها الخليج العربي ودوله، لن تكون في منأىً عن ارتدادات غياب الرؤى والاستراتيجيات في التعاطي مع ديناميكية المشاريع التفكيكية للمنطقة، والتي كان الاتفاق النووي الإيراني الأميركي أحد أهم تجلياتها. فأي تسويةٍ سياسيةٍ تضمن بقاء الانقلابيين، الحوثيين وحليفهم صالح، في أي عملية سياسية قادمة، من دون تجريدهم من كل إمكاناتهم العسكرية والسياسية ستكون عبثية، تحافظ عليهم وتشرعن انقلابهم، بالاعتراف بهم شريكاً فاعلاً وحقيقياً في أي عملية سياسية قادمة، كما تمنحهم الوقت والخبرة الكافية، لتفجير الوضع في أي لحظة قادمة يريدون.
هذا النوع من الكواليس هو ما بات يخشاه اليمنيون كثيراً، في هذا المرحلة بالذات، مخافة تكرار تجاربهم المريرة مع مثل هذه التجربة الفاشلة، والدائمة في تاريخ اليمنيين عقوداً طويلة، منذ ما بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول حتى ثورة 11 فبراير/شباط 2011، وكلها محطاتٌ سياسيةٌ كانت يتم فيها الذهاب إلى سلامٍ كاذبٍ يؤجل الصراع، ويضاعف تكاليفه وتضحياته أكثر لمحطاتٍ آتيةٍ أكثر عنفاً.
تجربة اليمنيين مريرةٌ، إلى حد كبير، ولم يعودوا قادرين وقابلين بتكرارها اليوم، فبعد ثورة سبتمبر، والتي أعقبتها ما عرفت بالحرب الملكية الجمهورية (1962ـ 1970)، وما عرف بالمصالحة الوطنية، والتي بموجبها تمت عودة فلول الدولة الإمامية العميقة إلى قلب دولة جمهورية سبتمبر، بل وتمكين الملكيين من قيادة دفة هذه الجمهورية، تحت راية "حمير" الجمهوري ونشيده وطيره، وهم الذين حاربوها وجمعوا العالم كله لحصار صنعاء، لإسقاط هذه الجمهورية، لكنهم فشلوا أمام صمود أبطال سبتمبر ونضالهم.
بيد أن ما عجزوا عن تحقيقه عسكرياً استطاعوا تحقيقه سياسياً بمؤتمر المصالحة الوطنية الملكية الجمهورية، برعاية المملكة العربية السعودية حينها عام 1970، تلك الاتفاقية المشؤومة التي بموجبها عاد الإماميون ليخططوا لهذه اللحظة الأليمة التي يعيشها اليمنيون، اليوم، حرباً ودماراً طاول الجميع، بما فيهم المملكة العربية السعودية التي تقدم تضحيات كثيرة اليوم.
عاد الملكيون، بموجب تلك المصالحة الوطنية، إلى كل أجهزة الدولة التي لم يكن حينها سواهم يمتلكون خارطة إفراغ مضمونها من الداخل، وهو ما تمثل، لاحقاً، بفشل جمهورية سبتمبر، وتحولها إلى شيء أقرب إلى النكته منه إلى الحقيقة، بفعل المشروع الإمامي الذي كان ينخر فكرة سبتمبر وأهدافها، ويفرّغها من قيمها ومضامينها، بممارساتٍ كهنوتيةٍ قرويةٍ متخلفةٍ حولت اليمن الجمهورية إلى إقطاعيةٍ مناطقيةٍ، يدير ظاهرها المشايخ ويحكمها الإماميون من الداخل.
وكل ما فعلته ثورة سبتمبر حينها أنها طردت الإمامة من باب الثورة، لكنها عادت من شباك المصالحة والتسوية السياسية، وهو السيناريو الذي تكرّر مع جمهورية وحدة مايو/أيار 1990، التي أفضت إلى حربٍ أهليةٍ بين شريكي الوحدة، بعد تسوية سياسيةٍ شهيرةٍ، عرفت بوثيقة العهد والاتفاق، والتي وقع عليها في عمّان في 18 يناير/ كانون الثاني 1994، برعاية الملك الحسين بن طلال، وكانت القضايا التي تناولتها الوثيقة بالحل نفسها قضيا المصالحة الوطنية، وهي التي أدت إلى تفجر ثورة 11 فبراير/ شباط2011، وغدت بعد ذلك مادة للحوار الوطني الذي تم الانقلاب عليه، وصولاً إلى هذه اللحظة التي دشنت بانقلاب 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
يعاني اليمن من أزمة مستعصية، دأبتُ على وصفها بالعُقدة اليمنية، على منوال العُقدة اليزنية التي يطلقها المؤرخون اليمنيون على فترة الزعيم التاريخي اليمني، سيف بن ذي يزن، والذي سعى إلى طرد الأحباش من اليمن، بالاستعانة بالفرس، مؤسساً بذلك عقدةً تاريخيةً، مضافاً إليها الٌعقدة الحديثة المتمثلة "بالزيدية السياسية"، وهي التي تفرعت إلى هاشمية سياسية في العهد الإمامي وقبيلة سياسية في العهد الجمهوري، وكلها في قلبها تكمن عقدة الزيدية السلالية التي تختزل اليمن في سلالةٍ، ورقعةٍ جغرافية وحيدة.
ومن هذا المنطلق، كانت ولا زالت كل أزمات اليمن وبواعثها الموضوعية تكمن في وجود سياق أيديولوجي مذهبي كهذا، يرتكز على نظريةٍ سياسيةٍ عقائديةٍ عصبويةٍ غيبية، لا مجال فيها لأي نقاش أو اجتهاد مع نص بشري، عرف، في أدبياتهم، بالحق الإلهي المقدّس، فيما هي فكرة بشرية مجردة، تمخضت عن اجتهادٍ شخصيٍّ لطامح سياسي بالحكم، ممثلاً، كما في أدبيات الزيدية السياسية، بالإمام لهادي يحيي بن الحسين الرسي، الذي قدم إلى اليمن هارباً من الديلم في عام 284 هجرية، لاجئاً سياسياً بلغة اليوم.
بإغفال هذه الخلفية التاريخية المهمة من تاريخ اليمن القديم والمعاصر وتعقيداتها، عدا عن عدم
انطلاقاً من هذا كله، لم تعد عملية السلام في اليمن شأناً يمنياً محلياً وداخلياً، بقدر وجاهة هذا الطرح، لكن المشكلة اليوم تكمن في تداخل المشهد المحلي اليمني والخليجي والعربي، وعودته إلى نقطة البداية، قبيل تشكل الدولة الوطنية، دولة ما بعد الاستعمار، وهي تلك اللحظة التي تم فيها الاستفراد بالمنطقة واستعمال مشرط سايكس بيكو تقسيماً وتجزيئاً، وإنما الخوف اليوم أن هذا النمط من المشاريع بدا اليوم أكثر تدميراً وجموحاً من خلال مخرجات هذه المرحلة الأكثر عبثيةً وفوضى.
إن معنى التسوية السياسية، اليوم، وفقاً لأبسط تصور ممكن يتخمض عنه الحل، لا يعني، في أسوأ احتمالياته، سوى انتصار المشروع الإيراني الذي تمكّن، بخلاياه المتعددة طائفياً وسياسياً من دفع المنطقة كلها إلى هذا الوضع الأكثر عبثية، وهو الذي في مأمنٍ من كل هذه الصراعات التي يقتل فيها العرب دون غيرهم، وتمزّق بلادهم وتدمر، فيما هو في الأخير سيحصد نتائج أي اتفاقٍ بالاعتراف بحقه الاحتفاظ بمصالحه الاستراتيجية، والتي في مقدمتها أنه أصبح يمتلك قوىً ونفوذاً في كل البلدان العربية. وفي النموذج اللبناني خير دليل، حيث لم يعد هناك دولة، وإنما هيكل دولةٍ، يقودها حزب الله، ويتحكّم فيها كيفما يشاء.
سيكون من الخطأ الكبير تكرار نموذج حزب الله اللبناني في اليمن، وتكرار سيناريو الطائف يمنياً، لأن ما جرى للبنان، وبعده العراق وسورية واليوم اليمن، لا يعني سوى منطق واحد أن المنطقة كلها، وفي القلب منها الخليج العربي ودوله، لن تكون في منأىً عن ارتدادات غياب الرؤى والاستراتيجيات في التعاطي مع ديناميكية المشاريع التفكيكية للمنطقة، والتي كان الاتفاق النووي الإيراني الأميركي أحد أهم تجلياتها. فأي تسويةٍ سياسيةٍ تضمن بقاء الانقلابيين، الحوثيين وحليفهم صالح، في أي عملية سياسية قادمة، من دون تجريدهم من كل إمكاناتهم العسكرية والسياسية ستكون عبثية، تحافظ عليهم وتشرعن انقلابهم، بالاعتراف بهم شريكاً فاعلاً وحقيقياً في أي عملية سياسية قادمة، كما تمنحهم الوقت والخبرة الكافية، لتفجير الوضع في أي لحظة قادمة يريدون.