شهقت المرأة "أنت مبلَّل؟". نظر إليها زوجها ببلاهة، ثم تحسّس معطفه وقال: "نعم... حسناً، لقد أمطرت السماء منذ قليل".
تفحّصته بعين ضيّقة: "أين أمطرت تحديداً؟".
"هناك، في الشارع المقابل"، أشار الرجل في اتجاه الجنوب مرتبكاً.
"لا لم تمطر هناك!".
"وما أدراكِ؟".
سحبته من يده قائلةً: "تعال معي لتُريني هذا المطر".
سار بجانبها، لم يحاول تخطّيها. كانت غاضبةً تسير كعاصفة ومعطفها يتطاير حول جسدها الضخم. وصلا إلى الشارع المقابل حيث أشار، فقالت منتصرةً: "حسناً، أين المطر؟".
- أؤكّد لك أنّها أمطرت هنا منذ قليل، قبل أن آتي إليك!
صمتت تماماً، واشتعل خدّاها من شدّة الانفعال، ثم رفعت حقيبتها وضربته بها على رأسه وسارت مبتعدةً وهي تسبّه بكل الألفاظ البذيئة التي تعرفها.
وقف الرجل وحيداً ينظر حوله. تحسّس معطفه عدّة مرات في حيرة. سار بمحاذاة المباني القديمة ثم وقف يتحسّس معطفه ثانيةً. في الظلام، لمح ضوءاً برتقالياً دائرياً يتحرّك بمفرده في الهواء. اقترب أكثر، فوجدها سيجارة مشتعلةً في يد أحدهم. "مساء الخير"، قال لصاحب السيجارة وهو يثبّت ياقة معطفه حول رأسه. لا يرى من الرجل سوى كفّه الممسكة بالسيجارة، لكنّه سمع حشرجةً قادمةً من حلقومه، تبعها سؤاله: "هل تشعر بالبرد؟". أجاب: "قليلاً، لقد أمطرت السماء هنا وبلّلتني تماماً".
نهض صاحب السيجارة، فرآه الرجل الأوّلُ أخيراً. اقترب منه متفحّصاً: "حقا؟".
- ماذا؟
- لقد قلتَ إنها أمطرت هنا منذ قليل؟
- نعم، أعتقد ذلك. هل رأيت المطر؟
سحب الرجل نفساً عميقاً من سيجارته ثم نفث الدخان في الهواء وأجاب: "معطفي أيضاً مبلّل، لكن لم أر مطراً هنا!".
- ماذا تعتقد إذن؟
هرش الرجل رأسه: "لا أعرف. لم أفكر في هذا... لكن، لماذا يشغلك هذا الأمر؟".
- رأتني زوجتي مبلَّلاً، وحين أخبرتُها بأمر المطر غضبت وضربتني على رأسي بحقيبتها.
- لماذا تخبرها بالحقيقة؟
أطرقَ الرجل الأول رأسه خجلاً: "قلتُ لك، لقد ضربتني... إنها امرأة كثيرة السّباب".
ضحك ذو السيجارة: "يالك من أحمق! أحبّ المرأة كثيرة السّباب". سحب نفَساً أخر من سيجارته وقال: "إنها لم تُمطر هنا. أنا أعرف مصدر البلل".
نظر الأوّلُ متسائلاً، فمشى الثاني خطوات قليلة إلى الأمام، وطلب منه أن يتبعه. صعدا سوياً أحد المباني المجاورة، ثم توقّفا أمام باب خشبي متهالك. طرق صاحب السيجارة الباب، ففتحت أمرأة أربعينية بعد وهلة، بوجه نصف نائم وشعر منكوش. سألها، بعد أن اعتذر عن الازعاج: "نحن مبلَّلان بالكامل. نودُّ أن نعرف هل ألقيتِ ماء غسيلك إلى الشارع منذ قليل؟".
أغلقت المرأة الباب بعنف، فتبادل الرجلان نظرات حائرة. علّق الأول: "كما لو أنّنا لصّان!". بعد أن استدارا لينزلا الدرج، سمعا صوت المرأة تصرخ في شخص ما، ثم صوت ارتطام شيء صلب بالأرض. قال الثاني: "يبدو ككرة خشبية".
- انتظر، ما هي الكرة الخشبية؟
- لا أعرف، لكن صوت الارتطام يشبهها.
- لكن كيف تعرف أن الصوت يشبهها إن كنت لا تعرفها؟
فُتح الباب ثانية، وأطلّ منه رجل نحيف. نظر إليهما ونظرا إليه. سألهما: "كيف أساعدكما؟". جاء صوتُ المرأة الغاضبة من الداخل: "ألم أطلب منك مراراً ألّا ترمي ماء الغسيل إلى الشارع؟ والآن، ها أنت تجلب لي هذه الحثالة إلى باب البيت". تبع حديثَها صوتُ ارتطام آخر. هذه المرّة كان طبقاً خزفياً بالتأكيد. نظر الرجل النحيف إليهما بابتسامة تشي بالحرج: "معذرةً... إنها تتحدّث أثناء نومها. لم ألق أي ماء إلى الشارع".
قال صاحب السيجارة وهو يستدير لينزل: "لا عليك. بالتأكيد لقد أمطرت السماء. سننزل لنستطلع الأمر". دخل الرجل النحيف إلى الشقّة وخرج مسرعاً ومعه معطفه. قال وهو يلحق بهما إلى الأسفل: "حقّاً؟ أمطرت السماء الليلة؟ دعاني أستطلع الأمر معكما".
وقف ثلاثتُهم في الشارع. لا يبدو أن سيجارة الرجل الثاني ستنتهي قريباً. قال الأوّل: "حسناً، هكذا تأكّدنا أنها أمطرت بالفعل". قال الثاني: "لا، لم نتأكّد بعد. الأرض جافّة تماماً، ونحن مبلَّلان. لا بد أن يكون هناك سبب آخر لذلك"، ثم نظر إلى الرجل النحيف موجّهاً حديثه إليه: "هل ألقيتَ ماء غسيلك؟".
"لا لم أفعل. لماذا قصدت شقّتنا تحديداً؟".
أجاب متهكّماً: "لأني أرى زوجتك تفعل ذلك دائماً".
- لا أظن. لا بد أنك مخطئ، انظُر لشبّاكنا بالأعلى، هل يوجد أيُّ غسيل على حباله؟
نظر الأوّل والثاني للأعلى، لكنهما لم يريا شيئاً بسبب الظلام. سأل الأول: "أين شبّاكك تحديداً؟".
أشار الرجل الثالث بيده إلى أعلى: "إنه الأزرق المقشّر من الجنب هناك، ثالث شبّاك جهة اليمين".
قال الأوّل متذمّراً: "وهل سأراه في ليلة حالكة كهذه!".
سأل الثاني: "إذن أنت لم تلق الماء من شبّاكك؟".
وقف الثالث أمامهما ورفع يده اليمنى لأعلى، ثم أخفضها قليلاً، لتبقى كفُّه بجانب رأسه، وقال بأداء مسرحي: "أقسم لكما بأنني لم أُلق أيَّ ماء من الشبّاك، ولم يكن لدينا غسيلٌ أصلاً".
نظر إليه الرجلان صامتَين، ثم قطع صاحب السيجارة الصمت: "ونحن نصدّقك".
قال الأوّل: "لماذ تقول نحن؟".
- لأن علينا تصديقه.
- لو كانت زوجتي هنا، لم تكن لتصدّقه.
- نحمد الله أنّها ليست هنا إذن.
نظر الأول إلى السماء، وتنهّد: "حسناً. لقد أمطرت السماء هنا منذ قليل".
قال الثاني بعد أن سحب نفساً قصيراً: "اسمع يا رجل، هذا أمر في غاية الغرابة. لا يمكنك أن تظهر هكذا فجأة لتُقنعني أنَّ السماء أمطرت بينما هي لم تمطر".
قال الأوّل محتدّاً: "لكنك مبلَّل تماماً مثلي، ألديك تفسير أخر؟".
- لا. لكنه أمر غريب أن تُمطر دون أن نرى مطراً.
"دعونا نسأل الله"، قاطعهما الرجل النحيف الذي كان يضع يديه في جيبَي معطفه. نظرا إليه بدهشة. قال الأوّل: "لن يجيبنا".
- لماذا؟
- لم يجبني حين سألته عن مرض ابني.
صمتوا ثانيةً، وسحب الرجل الثاني نفَساً من سيجارته. لم يكن يتحدّث إلّا بعد أن يأخذ نفساً منها، كأنه يسحب منها كلمات لا دخاناً. فكّر الأول أنها ملهمته. قال: "مرض ابنك يتطلّب الكثير من الشرح، لكن أمر المطر بسيط". أضاف موجّهاً كلامه إلى الرجل الثالث: "كيف نسأله؟".
- لم يحدث أن سألته عن شيء من قبل.
- أنت تقول إنها أمطرت، وأنت تقول إنك لم تلق أي ماء من الشبّاك. وأنا لا أثق بكما، دعونا نذهب إلى الرجل ذي السقف.
سأله الرجل النحيف: "من؟".
سار الرجل الثاني بخطوات واسعة ناحية نهاية الشارع، وتبعه الثالث بفضول، بينما تأخّر الأول قليلاً. لم يكن يعرف ماذا يفعل، لكنه تبعهما لأنه يحتاج أن يعود بمبرّر أقوى ليهدّأ غضب زوجته.
وصلوا إلى آخر بيت في الشارع؛ بيت طويل أقصى اليسار، من خمسة طوابق. صعدوا الدرج بأقل جلبة ممكنة. تساءل الأوّل بينه وبين نفسه عن الناس، لماذا جميعهم في أسرّتهم هكذا، أين ذهب السهر وتمضية الليل في الشوارع؟
وصلوا أخيرا إلى باب بُنّي متآكل من الأسفل. طرق الثاني الباب بعد أن سحب نفساً طويلاً من سيجارته، كأنه يأخذ الكلام كلّه دفعةً واحدة. فتح البابَ رجلٌ ضخم ببطن منتفخة. نظر إليهم في دهشة ثم سأل الرجل النحيف: "ألستَ جارنا هنا؟". تدخّل صاحب السيجارة: "وأنا أيضاً جاركم".
- عفواً لا أتذكّرك! هل كنت مسافراً؟
- لا، أنا في الشارع طوال الوقت. أسكن بجوار المخبز.
- أهلا بكما، لكن من هذا؟
قال الرجل الرابع ذلك وأشار إلى الرجل الأول. نظر إليه الرجل النحيف، ثم سأل صاحبَ السيجارة: "صحيح، من هذا؟".
نظر صاحب السيجارة بدوره إلى الرجل الأوّل وقال: "لا أعرفه. إنه رجل يبحث عمّن بلّل معطفه".
سأل الأولُ الرابع: "هل أمطرَت منذ قليل؟".
أجاب هذا وقد اندهش من السؤال: "وما أدراني إن أمطرت أم لم تمطر؟".
سأل الأوّلُ الثاني غاضباً: "ألم تقل إنه يعرف؟".
أجب بسرعة: "لا، لم أقل ذلك".
سأل الرجلُ النحيف: "إذن، لِمَ نحن هنا، دعونا نبحث عن السبب في مكان آخر".
جاء صوت امرأة من وراء الباب: "أَبَدأ موسم المطر؟ هل أمطرت الليلة؟".
اشتعل وجه الرجل ذو السقف وحاول تهدئة الموقف قائلاً، وقد أدخل رأسه إلى الشقّة: "اصمتي يا امرأة. من ذكر المطر هنا؟".
- نعم، لقد بدأ موسم المطر، وسنغرق كالموسم الفائت. كم مرّةً طلبتُ منك إصلاح السقف؟
سحب الرجل ذو السقف معطفه وخرج مسرعاً وأغلق الباب وراءه. لكن هشّاشة الباب لم تمنع صوت المرأة من الوصول إليهم. ضحك صاحب السيجارة ضحكةً مكتومة وقال في سرّه: "يا لكم من حمقى. كم أحب المرأة كثيرة السباب". ساروا - أربعتهم - بمحاذاة حجرة الرجل ذي السقف؛ حجرة صغيرة مبنيّة بالطوب الأحمر فوق سطح البيت، كان سقفاً ضعيفاً مكوّناً من عدّة طبقات من الصفيح. قال الأخير: "الأرض جافّة. متى أمطرت بالضبط؟".
قال الرجل النحيف: "لا أعرف، هذا من قال إنها أمطرت"، وأشار إلى الرجل الثاني الذي قال وهو يسحب نفساً من سيجارته: "هذا من قال إنها أمطرت"، وأشار إلى الرجل الأوّل الذي قال بدوره: "لم تصدّق زوجتي ذلك. لكن، لماذا نحن هنا؟".
قال الرجل ذو السقف: "ألم تفهموا بعد؟ انظروا إلى هذا السقف. إذا أمطرت، فمن سيُدرك ذلك أسرع منه؟".
بدا الأمر منطقياً للجميع، فأكمل الرجل: "لكنّنا لم نبتل في الداخل".
سأله الأول: "لماذا لا تُصلح السقف وتتجنّب لوم زوجتك؟".
- يا لك من أحمق! هل نمتَ قبلاً تحت سقف من الصفيح بينما تمطر السماء؟
- لم أفعل. لكني رأيت غضب الزوجات.
قال ذلك وتحسّس رأسه الملتهب من أثر الضربة.
- الأمر أشبه بالسحر. نقرات المياه على الصفيح واهتزازاته بفعل الريح أجمل من أي جنس قمت به من قبل. إنها أمرأة شمطاء لا تفهم شيئاً.
سرحوا جميعاً، بينما أكمل الرجل ذو السقف: "دعونا نصعد إلى السقف لنرى إن كان هناك أثر لأي ماء فوقه".
صعد هو أوّلاً. فعل ذلك بصعوبة بسبب احتكاك بطنه المنتفخ بدرجات السلّم الخشبي، ثم تبعه الرجل النحيف فصاحب السيجارة الذي علق سيجارته بين شفتيه حتى وصل للأعلى، وأخيرا الرجل الأول. أشار إليهم الرجل ذو السقف أن يسيروا أقصى اليسار حتى لا يسقطوا في منتصف حجرته. أمسك بذراع كل واحد منهم ليساعده في العبور. "يا إلهي، إنكما مبلّلان، كيف حدث لكما ذلك؟".
وصلوا إلى حافة السطح وجلسوا متقاربين وأرجلُهم معلّقة بالهواء. الشارع الطويل تحت أقدامهم والليل يحيط بهم. أخرج الرجل الثاني علبة سجائره من جيب معطفه الداخلي ووزّع سجائر على الآخرين. قال ذو السقف: "الشتاء ما زال في بدايته". سحَب نفساً من سيجارته بلذّة وقال "أفضل جنس، أليس كذلك؟". لم يجب أحد، كانوا شاردين داخل المشهد الليلي الصامت.
بينما قال الرجل الأول بصوت منخفض: "أنا متأكّد بأنّ السماء أمطرت في هذا الشارع منذ قليل".
* كاتبة من مصر