ماذا لو كنتُ يهودياً؟

13 نوفمبر 2015

طلب العدالة تضامناً مع فلسطين في لندن (15 أكتوبر/2015/الأناضول)

+ الخط -
لندن في بداية الثمانينيات. كنت عائداً من الجامعة في قطار الأنفاق في يوم ثلاثاء، حوالي الحادية عشرة ليلاً، ذلك أنني كنت أذهب إلى محاضرات مسائية مرتين في الأسبوع. لا تكون القطارات عادة في تلك الساعة في خلال أيام الأسبوع مزدحمة. كنت وحيداً في العربة، وفي محطة فينزبري بارك، دخل إلى عربتي شاب أسود، يبدو أنه من جزر الهند الغربية، جامايكا ربما، وبصحبته امرأة بيضاء، بياضها أقرب إلى جنوب أوروبا. إسبانية ربما. كان يبدو على وجه المرأة كدمات حديثة، وآثار دماء على سروالها. الشاب الأسود يحمل ورقة بيضاء من تلك الأوراق التي يلف فيها السمك المقلي والبطاطا، وهو طبق إنكليزي مشهور. الشاب يأكل بنهم شديد، ويحكي في الوقت نفسه، والمرأة لا تقول له سوى "بوركيه؟ بوركيه؟" أي لماذا لماذا؟ تأكدت أنها إسبانية.
وصل القطار إلى محطة فيكتوريا، ونودي على المسافرين الذين يريدون السفر إلى محطات ما بعد فيكتوريا، وأنا منهم، بأن يغادروا هذا القطار، وينتظروا قطاراً آخر على الرصيف نفسه. غادر المسافرون جميعاً القطار، وانتظرنا على رصيف المحطة. حاولت المرأة الإسبانية الخروج من المحطة، لكن الشاب الأسود أمسكها بعنف واضح، ومنعها. لم تكن تصرخ كأنها لا تريد أن يتطور الأمر أكثر. يراقب المسافرون المنتظرون ما يحصل بينهما. لم يتدخل أحدٌ. عادة في المجتمعات الغربية لا يتدخل الناس في شؤون بعضهم، حتى لو أدى الأمر إلى القتل. في لحظةٍ، نظرت إلى الشاب الأسود، وعلى الرغم من نفوري من طريقته العنيفة بالتعامل مع المرأة، الاّ أنني أشفقت عليه في قرارة نفسي، فقد كنت متأكداً أنه، في حال حضور الشرطة، سوف يعتقلونه، وربما يودع السجن حتى ولو كان غير مذنب، ففي تلك السنوات، حدثت مواجهات عنيفة بين السكان السود في الأحياء الجنوبية من لندن، وتحديداً في منطقة بركستون التي كنت أقيم فيها، والشرطة، بسبب التهميش والسلوك العنصري تجاههم من الشرطة.
اقتربت من الرجل وأمسكته بكتفيه، وكنت أعرف أنني أدخل مغامرة غير محسوبة النتائج، وصرخت فيه: أيها الأحمق، سوف تلقي الشرطة القبض عليك في كل الأحوال. اترك المرأة وشأنها واذهب. في تلك اللحظة وأنا أمسكه من كتفيه، أفلتت المرأة من قبضته، وسحبتها من يدها امرأة بيضاء لمحتها، وكنت أعرف أنها من الناشطات النسويات الراديكاليات. أسرعت المرأتان بالاختفاء نحو الخارج. وهنا، جنّ جنون الرجل الذي اتهمني بالتواطؤ ضده، وراح يصرخ في وجهي: أيها القذر، يا نصف أبيض، قلبك أبيض. أيها اليهودي القذر السافل. أنا فلسطيني، وسوف أقتلك. لديّ رشاش، وسوف أنهي حياتك، أيها اليهودي.
هنا بدأت أضحك، فقد ظنّ هذا الشاب الجامايكي الأسود أنني يهودي، بسبب نظارتي الطبية الصغيرة ربما، أو ربما بسبب ملامحي التي لم يستطع أن يضعها في قالب مألوف لديه، فأنا لا أشبه مواطني جزر الهند الغربية، ولا الأفارقة، ولست أبيض، ولون بشرتي لم تعطه من الخيال سوى أنني نصف أبيض ويهودي. وأنا أحاول أن أهدئ غضبه قليلاً، وصلت الشرطة. وهكذا كان المشهد بشخوصه: رجل أسود بالكامل واضح أنه المطلوب، وأنا، والمسافرون، ومعظمهم من ذوي البشرة البيضاء. أمسكت الشرطة بالجامايكي، ووضعوا الأصفاد بيديه مباشرة. وبدأوا يحققون مع الواقفين على الرصيف واحداً واحداً، ولم يقتربوا مني ألبتة، على الرغم من أنه كان واضحاً أنني كنت أتحدث معه.
لدقائق، كنت بالنسبة للجامايكي يهودياً ونصف أبيض، وهذا أمر مذموم بالنسبة للأسود الكامل، وكان هو فلسطينياً وهدّدني بالقتل لأنني يهودي. أمّا الشرطة البيضاء فتعاملت معي كرجل أسود بالكامل، قد أنحاز للمعتدي الأسود لو أخذوا إفادتي، والمرأة الناشطة النسوية أخذت موقفاً متجاهلاً مني، لأنني ذكر، والمسافرون كانوا ينظرون إلى المشهد بحيادية باردة.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.