بدأت، أول من أمس الأحد، مهلة الشهر الدستورية التي مُنحت للرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة التونسية الجديدة هشام المشيشي، خلفاً للمستقيل إلياس الفخفاخ.
وساد مواقف الأحزاب التونسية الكثير من التردد، الذي تحوّل إلى ترحيب بارد بالرجل وأمنيات له بالتوفيق في تشكيل الحكومة، ما يعكس قلقاً بالغاً وغموضاً حول ما ستؤول الأحداث إليه، والتي ستكشفها هذه الأيام بعد أن يصرّح المشيشي بنواياه.
وليس أدلّ على هذا التوجس من موقف "حركة النهضة"، التي عقدت اجتماعاً استثنائياً للمكتب التنفيذي ترأسه راشد الغنوشي، الأحد، ولم تعلِن عنه إلا مساء أمس الاثنين، وتضمن سطرين فقط، حملا تهنئة للمشيشي ودعوة لتوسيع دائرة المشاورات مع الأحزاب والمنظمات الوطنية، ووضع برنامج وطني للإنقاذ لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الصعبة.
وبدوره، أصدر "التيار الديمقراطي" بياناً هنأ فيه المشيشي بتكليفه بتشكيل الحكومة، مؤكداً أنه سيحدّد موقفه الرسمي بعد لقاء رئيس الحكومة المكلّف. وأكد الحزب في بيانه أنه يرجو أن يعمل المشيشي في تشكيل حكومته، في إطار الدستور والنظام الديمقراطي، على تحقيق الظروف الموضوعية التي تسمح لها بالعمل بجدية بعيداً عن المصالح الضيقة لأي طرف والتنازلات الناجمة عن التخويف بعدم التصويت لها أو إسقاطها لاحقاً، معتبراً أن هذا التوجه من شأنه أن يمكن الحكومة من الخروج بالبلاد من الأزمة الخانقة التي تمرّ بها.
وتم التداول بنفس الموقف تقريباً من أغلب مكونات الساحة السياسية، باستثناء "حركة الشعب" التي كانت أول من رحّب بتعيين المشيشي، وعبّر مجلسها الوطني عن "ارتياحه لتكليف هشام مشيشي بتشكيل الحكومة المقبلة"، مؤكداً استعداد الحركة "للتعاطي إيجابياً" مع المشاورات المزمع إطلاقها خلال الأيام المقبلة.
أجمعت كل الأحزاب تقريباً على كفاءة المشيشي وتجربته المهمة، ولكن هذا التوجس يعكسه الغموض حول رؤيته، ورؤية الرئيس قيس سعيّد لمشروع الحكومة الجديد
وأكد المجلس في بيان له أن "شرط نجاح مشاورات تشكيل الحكومة ونجاعتها هو التزام كل الأطراف، وفي مقدمتها رئيس الحكومة المكلف، بجملة المعايير التي أثبتت جديتها ووجاهتها خلال الفترة الأخيرة، وتتمثل في الالتزام بالدور الاجتماعي للدولة والدفاع عن السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني، وتفعيل دور تونس على الصعيد الإقليمي، خصوصاً في العلاقة بالملف الليبي".
ودعت الحركة إلى "الحرص على إرساء توافقات مثمرة وبناءة على قاعدة إعلاء المصلحة الوطنية بعيداً عن كل أشكال المحاصصة والابتزاز"، حسب نص البيان، ولكن قيادات الشعب فسّرت في تصريحات صحافية هذا الموقف بإبعاد "النهضة" عن الحكومة.
وأجمعت كل الأحزاب تقريباً على كفاءة المشيشي وتجربته المهمة، ولكن هذا التوجس يعكسه الغموض حول رؤيته، ورؤية الرئيس قيس سعيّد لمشروع الحكومة الجديد، وإن كان لهذا الثنائي مقترحات مفاجئة للساحة السياسية بنفس مفاجأة تعيين المشيشي، من بينها مثلاً حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب تضع الجميع أمام ضرورة المصادقة عليها، أو تمكين الرئيس سعيّد من حلّ البرلمان.
وقال القيادي في "حركة النهضة" ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، في تصريح صحافي، إن المشيشي "ابن الإدارة والدولة التونسية، وبالتالي لا توجد اعتراضات على شخصه، وإن كانت هناك تحفظات على المنهجية التي تعاطى بها السيد رئيس الجمهورية في اختيار الشخصية الأقدر، وفق مقتضيات الدستور التونسي الذي يقتضي تشاوراً مع الأحزاب السياسية".
وعبّر عبد السلام عن أمله في ألا تصل الأوضاع إلى انتخابات مبكرة بفشل تشكيل حكومة المشيشي، ولكن "إذا تبيّن أنّه ليس من الممكن تشكيل حكومة قوية وفاعلة، سنذهب إلى انتخابات تعيد تشكيل المشهد السياسي وتكلف الحزب الأقدر على تشكيل الحكومة".
وبخصوص المتداول عن فشل النظام السياسي الحالي ومقترحات تغييره، قال عبد السلام: "لا يمكن تصور حياة ديمقراطية وسياسية سليمة بمعزل عن الأحزاب السياسية، والتصورات الشعبوية التي تنتقد الأحزاب السياسية وترى فيها أصل المشكل هي تصورات خاطئة ومكلفة ولا تفيد المرحلة الراهنة والقادمة".
ويذهب عبد السلام إلى عمق الخلاف الموجود بين عدد من الأحزاب والرئيس سعيّد، الذي يحاول في كل مرة أن يقفز فوق منظومة الأحزاب، ويقلّل من أهميتها، ويعتبر أنه آن الأوان لتغييرها لتتناسب مع رغبة الشعب وإرادته الحقيقية، من دون أن يوضح هذا المشروع ولا آلياته. ويلمح عبد السلام إلى أن حزبه لا يخشى حلّ البرلمان وإعادة الانتخابات، أي أن هذا التهديد المبطن الذي يرفعه سعيّد في كل مرة لا يخيف الحركة، وهو حديث بدأ يدور في كواليس "النهضة" وقياداتها الوسطى، من أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة قد يكون هو الحل الحقيقي الذي سيضع حداً لهذه السلسلة التي قد تتكرّر أكثر من مرة، إما بسحب الثقة من الحكومة أو استقالة رئيسها.
في المقابل، دعا وزير الحكم المحلي في حكومة الفخفاخ والقيادي في "النهضة" لطفي زيتون إلى إيقاف "الحملات المجانية ضد المشيشي، وفسح المجال له لفتح مشاورات جدية مع كل الأطراف المعنية بمصلحة البلاد العليا من أجل الانتهاء من تشكيل حكومة إنقاذ في أقرب الآجال".
وأكد في تدوينة عبر صفحته على "فيسبوك" أن "رئيس الجمهورية، الأستاذ قيس سعيّد، هو الضامن الأول لاحترام الدستور الذي يستأمنه على المصالح العليا للدولة ونظامها الجمهوري الديمقراطي في ظروف صعبة جداً اقتصادية واجتماعية وسياسية". ودعا زيتون إلى احترام اختيار رئيس الدولة، وكل الفرقاء السياسيين إلى مساعدته في اختيار حكومة وطنية تضم كفاءات عالية لإنقاذ البلاد وتحقيق طموحات المواطنين في التنمية والرفاهية.
اختار السيد رئيس الجمهورية الاستاذ #قيس_سعيد الضامن الاول لاحترام الدستور الذي يستأمنه على المصالح العليا للدولة ونظامها...
Posted by Lotfi Zitoun لطفي زيتون on Sunday, July 26, 2020
ويشكل هذا الموقف لزيتون صوتاً مختلفاً داخل "النهضة" يعتبر أن الحلّ الحقيقي هو في الحدّ من الخلاف مع سعيّد، وبناء علاقة جديدة معه، والتقليص من حرب الصلاحيات بين رؤوس الدولة ومؤسساتها، لأنه نجح لوقت طويل مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ويمكن أن ينجح الآن أيضاً بشرط بناء أرضية ثقة جديدة بين مختلف الأطراف، وهو ممكن ومتاح وأفضل للوضع الصعب الذي تعيشه البلاد.
من جهته، اكتفى المشيشي بعد تكليفه بالتعهد بتكوين حكومة "تستجيب لتطلعات كل التونسيين، وتعمل على الاستجابة لاستحقاقاتهم المشروعة التي طال انتظارها طيلة هذه السنين"، وهو بهذا يرفع السقف عالياً أمام ساحة تشقها الخلافات، وستكشف الأيام، وربما الساعات المقبلة، خلفية هذه الحكومة التي ينوي تشكيلها.