نحن في قلب شتاء استثنائي. نحن الآن في شهر آذار 2010. نسمعُ كل يوم الغناءَ يصعد وينتشر. جارتنا تستخدم مكبرات صوت كالتي تُستخدم في النوادي الليلية. صحيحٌ أنها تخفّض الصوت، لكنه يظلّ فعالاً يدخل جسدكَ ويملأ أذنيكَ. إنه قريبٌ نافذٌ إلى درجةٍ تحسّ أن دمكَ يتراقص في العروق.
"ماريانا" لديها مختارات موسيقية عالمية من اليابان إلى البيرو، ومن روسيا وكندا إلى أستراليا ونيوزيلندا. كلها ألحانٌ راقصة. كلها شبابية. "عودك رنان، لفيروز" هي الأغنية الأكثر احتشاماً من خزين ماريانا الموسيقي.
ما إن تبدأ الموسيقى حتى يشعر المرءُ برغبة الرقص، أو على الأقل هزّ الرأس، أو النقر بالأصابع وخفْق القدم. أنا مُتيقّنٌ أنّ الهضبة الصغيرة التي نسكن على قمتها، والطريق إليها، وبيوتنا الأربعة، والغابة القريبة كلها أدمنتْ على موسيقى ماريانا، كما أدمنّاها نحن.
منذ الصباح والثلج يهمي بسكون عجيب. ندف الثلج تسقط متهادية بلا عجلة. مشهد كما لو أنه في لوحة. هدوء. سكون. للشهر الثالث على التوالي تثلج. تثلج وتثلج. تتوقف لساعات ثم تشرع من جديد. الثلج أمتارٌ. لا يستطيع بعض الناس مغادرة بيوتهم إلا من الطابق الثاني. ثلج. ثلج.
يقطع السكونَ مرورُ سيارات إزالة الثلج في الطريق العام. تصخبُ في الجوار لدقائق وتنصرف. يعود السكون. سكون عميق. ثم تأتي ماريانا من مناوبتها الليلية، وتبدأ الموسيقى على الفور. وأسمعها خلال الموسيقى توقظ "سليم" بصوت عال.
أقف في إطار النافذة البللورية الكبيرة محدّقاً بهذا البياض الناصع وجسدي يتراقص غصباً عنّي في الموسيقى. وأَجفلُ على صرختها.
ـ أنت. محمّد. تعال وتريّض قليلاً.
أراها تحتي تماماً في الحديقة، في ثياب خاصة لإزالة الثلج وبيدها مجرفتان. لا ريب أنها رأتني سارحاً وليس بين يدي ما يُشغلني. اللعنة. أما كان في وسعي أن أجلس بعيدًا عن هذه الواجهة الزجاجية!
تحدّق بي منتظرة الجواب. لا عذر لي الآن.
اقرأ أيضاً: حنان الشيخ.. الأدب ليس للترفيه والتسلية
تقذف الثلج بعيداً وتتحدث. تصمت قليلاً ثم ترافق الغناء المنبعث من المكبّرات. والغناء يأتي خَلَلَ الثلج كما لو أنه من مادّة ملموسة تجعل الجسد يرتجّ تلك الارتجاجات الخفيفة اللذيذة. أستند على مجرفتي وأعدّ لها 35 قذفةً بالدقيقة، ومجرفتها متروسة دوماً. بينما لا أستطيع أنا ورغم الجهد سوى 15 قذفة، ومجرفتي ناقصة.
ماريانا طويلة. لا بدّ أنها تتعدى 180 سنتمتراً. كتفاها عريضان، وثدياها ضخمان، وأردافها أصغر من أرداف رجل. أوّل تعرّفنا إليها شغلنا السؤال؛ كيف تكون نرويجية وشعرها أسود فاحمٌ؟ وكما لو أنها معتادة على نظرات حبّ الاستطلاع هذه، سردتْ تاريخها العائلي باختصار وإيجاز وصرامة.
أبوها باكستاني نزا على أمها النرويجية وهرب إلى بلاده بعد أن ولدتها أمها.
فاجأتنا باستخدامها "فعلاً" في اللغة النرويجية لا يستخدمه إلا الشبان الوقحون، وألطف ترجمة له الفِعلُ العربي "نزا".
سألتها بغتة السؤال الذي ظلّ يهمسُ في داخلي
ـ ألا تفكرين بالسفر إلى باكستان والبحث عنه.
ـ لا.
قالتها صارمة. ثم توقفت عن قذف الثلج، وأخرجت نصف سيجارة من جيبها. آلياً أخرجت أنا أيضاً مصادفة نصف سيجارة، وسحبنا بالتزامن أنفاساً عميقة، وبالتزامن أيضاً نفثنا الدخان. وفي الوقت ذاته تقريباً غمسنا عقبي السيجارتين في الثلج. من دون تفكير قذفتُ أنا عقب سيجارتي من بين إصبعيّ الوسطى والسبابة، فانْقذف العقبُ بعيدًا في البياض اللانهائي. أما هي فأخرجت ورقة من جيبها ولفّت العقب، ثم أعادتها إلى الجيب. خجلتُ، وشرعت بقذف الثلج. بضع ضربات وضاق صدري. بتّ أسحب النفس سحباً، بينما راحت هي تملأ مجرفتها وتطوّح بكمية الثلج الكبيرة بعيداً كما لو أنها تقذف قطناً مندوفاً، مرافقةً الغناءَ بغناء ٍوبحركاتٍ في خصرها. ومن خلفنا أسمع صوت سليم وتثاؤبه. قبّلتْهُ ماريانا وضمّته ضمة شغف. لا أظنّه كان سيخجل كما خجل الآن لو أنني لم أكن عربياً مثله.
سليم مغاربي. لا أحد يعرف اسمه الحقيقي. هو صديق ماريانا وحبيبها، وزوجها لو لم ترفض السلطاتُ. فهو محكوم بالإبعاد عن البلاد ثلاث مرات، لكنه وبتدبير من ماريانا ما زال هنا. سليم قصير لا يتجاوز الـ 165 سنتمتراً. نحيف لا يزيد عن الخمسين كيلو. عَمل السبعة وذمّتها قبل أن يرسو عند ماريانا ويهدأ. ظريف لطيف خدوم.
دقائق أخرى ويأتي الجميع من مدارسهم وعملهم، فنحفر معاً دربنا الصاعد إلى بيوتنا تحت قيادة ماريانا. أجل نحفر، لأن الطبقة السفلى تحت الثلج كانت جليداً صلباً، تلزمه القوة لتكسيره أولاً، ولقذفه بعيداً ثانياً.
و"الثلج من الجانبين... أعلى وأعلى... أعلى ارتفاعاً من سليم" تغنّي ماريانا مقلّدة أغنية معروفة.
وفجأة التفتنا إلى تمنّع "سليم" لنراه محمولاً بين ذراعي ماريانّا، وهي تفتل وتفتل مع قطعة موسيقية روسية.
سليم يدفع بيديه ويرفس بقدميه، وماريانا بكلّ قوّتها ترقصُ به وتحتويه.
(كاتب سوري)
"ماريانا" لديها مختارات موسيقية عالمية من اليابان إلى البيرو، ومن روسيا وكندا إلى أستراليا ونيوزيلندا. كلها ألحانٌ راقصة. كلها شبابية. "عودك رنان، لفيروز" هي الأغنية الأكثر احتشاماً من خزين ماريانا الموسيقي.
ما إن تبدأ الموسيقى حتى يشعر المرءُ برغبة الرقص، أو على الأقل هزّ الرأس، أو النقر بالأصابع وخفْق القدم. أنا مُتيقّنٌ أنّ الهضبة الصغيرة التي نسكن على قمتها، والطريق إليها، وبيوتنا الأربعة، والغابة القريبة كلها أدمنتْ على موسيقى ماريانا، كما أدمنّاها نحن.
منذ الصباح والثلج يهمي بسكون عجيب. ندف الثلج تسقط متهادية بلا عجلة. مشهد كما لو أنه في لوحة. هدوء. سكون. للشهر الثالث على التوالي تثلج. تثلج وتثلج. تتوقف لساعات ثم تشرع من جديد. الثلج أمتارٌ. لا يستطيع بعض الناس مغادرة بيوتهم إلا من الطابق الثاني. ثلج. ثلج.
يقطع السكونَ مرورُ سيارات إزالة الثلج في الطريق العام. تصخبُ في الجوار لدقائق وتنصرف. يعود السكون. سكون عميق. ثم تأتي ماريانا من مناوبتها الليلية، وتبدأ الموسيقى على الفور. وأسمعها خلال الموسيقى توقظ "سليم" بصوت عال.
أقف في إطار النافذة البللورية الكبيرة محدّقاً بهذا البياض الناصع وجسدي يتراقص غصباً عنّي في الموسيقى. وأَجفلُ على صرختها.
ـ أنت. محمّد. تعال وتريّض قليلاً.
أراها تحتي تماماً في الحديقة، في ثياب خاصة لإزالة الثلج وبيدها مجرفتان. لا ريب أنها رأتني سارحاً وليس بين يدي ما يُشغلني. اللعنة. أما كان في وسعي أن أجلس بعيدًا عن هذه الواجهة الزجاجية!
تحدّق بي منتظرة الجواب. لا عذر لي الآن.
اقرأ أيضاً: حنان الشيخ.. الأدب ليس للترفيه والتسلية
تقذف الثلج بعيداً وتتحدث. تصمت قليلاً ثم ترافق الغناء المنبعث من المكبّرات. والغناء يأتي خَلَلَ الثلج كما لو أنه من مادّة ملموسة تجعل الجسد يرتجّ تلك الارتجاجات الخفيفة اللذيذة. أستند على مجرفتي وأعدّ لها 35 قذفةً بالدقيقة، ومجرفتها متروسة دوماً. بينما لا أستطيع أنا ورغم الجهد سوى 15 قذفة، ومجرفتي ناقصة.
ماريانا طويلة. لا بدّ أنها تتعدى 180 سنتمتراً. كتفاها عريضان، وثدياها ضخمان، وأردافها أصغر من أرداف رجل. أوّل تعرّفنا إليها شغلنا السؤال؛ كيف تكون نرويجية وشعرها أسود فاحمٌ؟ وكما لو أنها معتادة على نظرات حبّ الاستطلاع هذه، سردتْ تاريخها العائلي باختصار وإيجاز وصرامة.
أبوها باكستاني نزا على أمها النرويجية وهرب إلى بلاده بعد أن ولدتها أمها.
فاجأتنا باستخدامها "فعلاً" في اللغة النرويجية لا يستخدمه إلا الشبان الوقحون، وألطف ترجمة له الفِعلُ العربي "نزا".
سألتها بغتة السؤال الذي ظلّ يهمسُ في داخلي
ـ ألا تفكرين بالسفر إلى باكستان والبحث عنه.
ـ لا.
قالتها صارمة. ثم توقفت عن قذف الثلج، وأخرجت نصف سيجارة من جيبها. آلياً أخرجت أنا أيضاً مصادفة نصف سيجارة، وسحبنا بالتزامن أنفاساً عميقة، وبالتزامن أيضاً نفثنا الدخان. وفي الوقت ذاته تقريباً غمسنا عقبي السيجارتين في الثلج. من دون تفكير قذفتُ أنا عقب سيجارتي من بين إصبعيّ الوسطى والسبابة، فانْقذف العقبُ بعيدًا في البياض اللانهائي. أما هي فأخرجت ورقة من جيبها ولفّت العقب، ثم أعادتها إلى الجيب. خجلتُ، وشرعت بقذف الثلج. بضع ضربات وضاق صدري. بتّ أسحب النفس سحباً، بينما راحت هي تملأ مجرفتها وتطوّح بكمية الثلج الكبيرة بعيداً كما لو أنها تقذف قطناً مندوفاً، مرافقةً الغناءَ بغناء ٍوبحركاتٍ في خصرها. ومن خلفنا أسمع صوت سليم وتثاؤبه. قبّلتْهُ ماريانا وضمّته ضمة شغف. لا أظنّه كان سيخجل كما خجل الآن لو أنني لم أكن عربياً مثله.
سليم مغاربي. لا أحد يعرف اسمه الحقيقي. هو صديق ماريانا وحبيبها، وزوجها لو لم ترفض السلطاتُ. فهو محكوم بالإبعاد عن البلاد ثلاث مرات، لكنه وبتدبير من ماريانا ما زال هنا. سليم قصير لا يتجاوز الـ 165 سنتمتراً. نحيف لا يزيد عن الخمسين كيلو. عَمل السبعة وذمّتها قبل أن يرسو عند ماريانا ويهدأ. ظريف لطيف خدوم.
دقائق أخرى ويأتي الجميع من مدارسهم وعملهم، فنحفر معاً دربنا الصاعد إلى بيوتنا تحت قيادة ماريانا. أجل نحفر، لأن الطبقة السفلى تحت الثلج كانت جليداً صلباً، تلزمه القوة لتكسيره أولاً، ولقذفه بعيداً ثانياً.
و"الثلج من الجانبين... أعلى وأعلى... أعلى ارتفاعاً من سليم" تغنّي ماريانا مقلّدة أغنية معروفة.
وفجأة التفتنا إلى تمنّع "سليم" لنراه محمولاً بين ذراعي ماريانّا، وهي تفتل وتفتل مع قطعة موسيقية روسية.
سليم يدفع بيديه ويرفس بقدميه، وماريانا بكلّ قوّتها ترقصُ به وتحتويه.
(كاتب سوري)