ولم يستثنِ ماكرون قضية "الأمن السيبراني"، خصوصاً أنّ حملته الانتخابية تعرضت لهجمات إلكترونية، ولم يشأ أن يوجه الاتهام لروسيا، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، مفضِّلاً لغة الحوار مع كل الأطراف من أجل إرساء قواعد دولية يحترمها الجميع.
وشاء الرئيس الفرنسي أن تكون منظمة اليونسكو، بسبب دورها والسمعة التي تتمتع بها هي مكان إطلاق "نداء من أجل الأمن في الفضاء السيبراني"، وهو "نداء من أجل السلام الرقمي"، خلال "منتدى حوكمة الإنترنت" الذي نظمته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، ومقرها في باريس.
ويشدد هذا النداء على أن "الفضاء السيبراني أصبح يلعب، من الآن فصاعداً، دوراً رئيسياً في كل مناحي حياتنا وأن من مسؤولية عدد كبير من الفاعلين، كل في ميدانه الخاص، أن يجعله أكثر مدعاة للثقة وأكثر أمناً واستقراراً".
ويعلن الموقعون على هذا النداء، الذي حَظِيَ بدعم العديد من الدول ومن الشركات التكنولوجية الخاصة ومنظمات المجتمع المدني، "دعمهم لفضاء سيبراني مفتوح، وأكثر استقراراً، ومفتوح وسلميّ، وقد أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة هذه الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية".
وكان بين الموقّعين 50 دولة بينها دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا، وأكثر من 150 شركة تكنولوجية بينها "فيسبوك" و"غوغل" و"ميكروسوفت"، إلا أنّ الولايات المتحدة وروسيا والصين لم توقّع على البيان.
وينصّ البيان على "أن القانون الدولي، ومنه ميثاق الأمم المتحدة في مجموعه، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العُرفي، ينطبق على استخدام تكنولوجيات المعلومة والاتصال من قبل الدول".
ويشدد "بيان باريس" على "التأكيد على أن الحقوق التي يتمتع بها الأشخاص، خارج الشبكة يجب أيضا حمايتها على الشبكة، وأن القانون الدولي لحقوق الإنسان ينطبق على الفضاء السيبراني".
كما يؤكد على أن "القانون الدولي يشكل، مع المعايير الطوعية لسلوكٍ مسؤولٍ للدول في زمن السلم وإجراءات تطوير الثقة وتعزيز القدرات وتطويرها في إطار الأمم المتحدة، أساسَ السلام والأمن الدوليين في الفضاء السيبراني".
ولمواجهة الاستخدامات السلبية لهذا الفضاء، يدين البيان "الأنشطة السيبراية الشريرة في زمن السلم، وخاصة تلك التي تهدد أفرادا وبنى تحتية نقدية، أو تلك، التي من تأثيرها، تتسبّب في خسائر هامة، عشوائية أو منهجية"، و"يرحب بالدعوات إلى تحسين حمايتها".
كما يعبر عن "الارتياح، أيضاً، للجهود التي تبذلها دول وفاعلون غير دولتيين، من أجل مساعدة، بطريقة محايدة ومستقلة، لضحايا الاستخدام الشرير لتكنولوجيات المعلومة والاتصال، سواء جرى في زمن صراع مسلح أو غيره".
ويعترف بيان باريس بأن "التهديد الذي تشكله الجريمة السيبرانية يفرض مضاعفة الجهود من أجل تطوير سلامة المنتوجات التي نستخدمها، وتعزيز دفاعاتنا في مواجهة مجرمين، وتسهيل التعاون بين كل الأطراف المعنية، سواء داخل حدودها الوطنية أو خارجها. وتعتبر معاهدة بيدابيست حول الجريمة السيبرانية، في هذا الإطار، وسيلة أساسية".
ويعترف البيان، كذلك، بـ"مسؤوليات الفاعلين الأساسيين في القطاع الخاص من أجل تطوير الثقة والأمن والاستقرار في الفضاء السيبراني" و"يشجع المبادرات الرامية إلى زيادة سلامة العمليات والمنتجات والخدمات الرقمية".
ولأن الأمر يهمّ أطرافاً متعددة، يعبر عن "الارتياح للتعاون بين السلطات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني من أجل تطوير معايير جديدة للأمن السيبراني تتيح للبنى التحتية وللمنظمات تحسين أنظمتها في الحماية السيبرانية". كما يعترف البيان بأن "كل الفاعلين يستطيعون تقديم دعمهم لفضاء سيبراني سلمي من خلال تشجيع الكشف المسؤول والمُنسَّق لِمَوَاطِن الضعف".
ويشير مطلقو البيان إلى "ضرورة تطوير تعاون واسع في الميدان الرقمي وفي جهود تعزيز قدرات كل الفاعلين، وتشجيع المبادرات التي تتيح زيادة مرونة ومهارات المستخدِمين".
ويعترفون بوجود فاعلين ومختلِفين، ولهذا ينادي البيان بـ"ضرورة مقاربة مُعزَّزَة لفاعلين متعددين، وضرورة بذل مجهودات إضافية من أجل الحدّ من المخاطر التي تهدد استقرار الفضاء السيبراني، وإرساء المزيد من الموثوقية والقدرة والثقة".
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يعلن البيان عن تصميم مُطلِقيه على "العمل الجماعي، داخل هيئات موجودة وعن طريق منظمات ومؤسسات وميكانزمات ومسارات مناسبة، من أجل تعاون مشترك، وإرساء أعمال تعاون، من أجل منع الأنشطة السيبرانية الشريرة التي تهدد أفرادا وبُنى تحتية نقدية، أو تلك التي تسبّب لها خسائر هامة، عشوائية أو منظمة، ومعالجتها. ومن أجل منع الأنشطة التي تهدد، بشكل غير مقصود، وبشكل واسع، توافر أو سلامة القلب العمومي للإنترنيت".
ووعياً بالتهديدات التي يتعرض لها هذا الفضاء، يشدد البيان على "تطوير القدرات على منع تداخلات من فاعلين أجانب موجَّهَة لزعزعة المسارات الانتخابية، بواسطة أنشطة سيرانية شريرة. ومنع سرقة الملكية الفكرية، بواسطة تكنولوجيات المعلومة والاتصال، وخاصة، الأسرار الصناعية أو معلومات تجارية سرية، بِنِيَة منح بعض الشركات أو القطاعات التجارية، مزايا تنافسية". وأيضا على "تطوير وسائل لمنع انتشار وسائل شريرة وممارسات معلوماتية بهدف إلحاق الضرر. وعلى زيادة سلامة المسارات والمنتجات والخدمات الرقمية- طيلة دورة حياتها ومن طرف لآخر من سلسلة الإمداد". دون نسيان "دعم الأعمال الرامية إلى تطوير نظافة معلوماتية متقدمة من أجل كل الفاعلين".
كما يطالب البيان بـ"اتخاذ الإجراءات من أجل منع الفاعلين غير الدولتيين، بمن فيهم داخل القطاع الخاص، من القيام بأعمال سيبرانية هجومية جواباً على هجوم يكونون ضحيةً له، من أجل حسابهم الخاص، أو من أجل حساب فاعلين غير دولتيين آخَرين".
وأخيراً يطالب البيان بـ"دعم قبول واسع النطاق وتنفيذ معايير دولية لسلوكٍ مسؤول، إضافة إلى إجراءات تطوير الثقة في الفضاء السيبراني".
ويأتي نداء ماكرون من أجل الحوار والاتفاق حول معايير مشتركة في وقت تتزايد فيه مخاطر الفضاء السيبراني، ويزداد فيه لجوء دول كثيرة لدمج هذا المجال، الذي تزداد أهميته، يوما بعد آخر، في عقيدتها العسكرية. ومما يزيد من صعوبة هذا الوضع الخلاف الحاصل في معالجة هذا المستجد، بين الدول الغربية وبين دول الشرق، روسيا والصين، وبعض الدول الصاعدة.
وتجدر الإشارة إلى أنه سيتم تتبع نتائج توصيات نداء باريس، في "منتدى باريس حول السلام، 2019، وأيضاً "منتدى برلين حول حوكمة الإنترنت"، في نفس السنة.