صحيح أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تمكن في قمة العشرين في الأرجنتين، من كسر المقاطعة الأخلاقية والسياسية المفروضة عليه، واستطاع إغراء 5 رؤساء دول بالاجتماع معه، غالباً بفضل استثمارات بلده المالية الكافية لإقناع الدول الغربية بتجاوز قيم ومعايير حقوق الإنسان، إلا أن قضية اغتيال الإعلامي جمال خاشقجي ظلت حاضرة بقوة في اليوم الأول للقمة، أمس الجمعة، والتي تختتم اليوم، السبت. فمعظم المسؤولين الدوليين الذين وافقوا على الاجتماع مع سلمان، وهم فلاديمير بوتين رئيس روسيا صاحبة أحد أسوأ سجلات حقوق الإنسان والحريات الصحافية، ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي ورئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ونظيره التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء الهند ناريندا مودي، إنما التقوا به أو سيفعلون ذلك مع إصرارهم على إسماع المسؤول السعودي كلاماً واضحاً عن ضرورة كشف الحقيقة في ما يتعلق بجريمة خاشقجي، مثلما أعلن عدد منهم، مثل ماي وماكرون. أما اللقاء الذي كان منتظراً بين أردوغان وبن سلمان، فقد استبقته أنقرة بخطوة قضائية تُرجمت بإصدار محكمة إسطنبول قراراً قضائياً بتوقيف 18 سعودياً، من بينهم أعضاء فريق الاغتيال الـ15، من دون تحديد هوية الأشخاص الثلاثة الآخرين، مع ترجيح أن يكون من بينهم المستشار في الديوان الملكي سعودي القحطاني ونائب مدير الاستخبارات أحمد العسيري. وجاء قرار حاكمية الصلح والجزاء المناوبة في محكمة إسطنبول، بناء على طلب من الادعاء العام بتوقيف من اشترك بجريمة قتل خاشقجي، متضمنا 18 سعودياً، "وإلقاء القبض عليهم في أي مكان يمكن رؤيتهم فيه"، وذلك بعدما كان الادعاء العام التركي قد قدم طلباً إلى السلطات السعودية باستعادة المتهمين لمحاكمتهم في تركيا، بحسب ما كشفه الإعلام التركي. وصدر هذا الطلب، بحسب القرار الصادر، بعد التأكد من وصول 15 موظفاً حكومياً سعودياً على متن طائرتين خاصتين، ودخول قسم منهم إلى مقر القنصلية قبل دخول خاشقجي إليها.
وكان الادعاء العام التركي قد صرح بأن خاشقجي قتل خنقاً بعد دخوله بفترة قصيرة للقنصلية، وجرى تقطيع جثته وإخفاؤها و"محوها"، فيما لم يحصل الجانب التركي على رد إيجابي حول الطلبات المقدمة لاعتقال قتلة خاشقجي، في حين اكتفى الجانب السعودي بتوجيه الاتهام لـ11 شخصاً فقط من أصل 18 متهماً، وطالب بإعدام خمسة منهم.
وفي بوينوس آيرس، ارتأى المنظمون أن يجلس بن سلمان إلى جانب فلاديمير بوتين، أحد أبرز المدافعين عنه في القضايا الدموية المتهم بها المسؤول السعودي. واحتفت وسائل الإعلام السعودية بتسجيل مصور قصير يُظهر الحفاوة الاستثنائية عندما تبادل بوتين وبن سلمان السلام بالأيدي بحرارة أقرب إلى التهنئة من الرئيس الروسي لولي العهد السعودي بابتسامات عريضة.
وبعد لقاء ماكرون مع بن سلمان، قبل انطلاق أعمال القمة ظهراً بتوقيت الأرجنتين، أعلن الإليزيه أن الرئيس الفرنسي نقل رسالة "حازمة جداً" لولي العهد السعودي بشأن قضيتي خاشقجي وحرب اليمن. كذلك أعلنت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون "يرى أن الأمر (جريمة خاشقجي) يحتاج لاشتراك خبراء دوليين في التحقيق". وفي تسجيل مصور لدردشة ماكرون وبن سلمان، وهما واقفان، قبل انطلاق القمة، سُمع ماكرون يقول للمسؤول السعودي بالإنكليزية ما حرفيته "أنت دائماً لا تستمع لما أقوله لك..."، فيرد بن سلمان ضاحكاً "بالتأكيد سأستمع...". ثم أمكن سماع ماكرون يقول لبن سلمان "أنا قلق" ليرد عليه الأخير "لا تقلق"، قبل أن يصبح الصوت غير واضح ويختمه بن سلمان بتقديم جزيل الشكر للرئيس الفرنسي الذي يختتم الدردشة بالقول "أنا رجل أتمسك بكلامي".
كذلك استبقت ماي الاجتماع مع بن سلمان بالقول إنها ستكون "حازمة" عندما تتحدث مع الأمير السعودي. وأشارت في حديث لشبكة "سكاي نيوز" إلى أنها ستتحدث مع ولي العهد السعودي "لكن العلاقة مع السعودية هي التي ستتيح لي الجلوس معه والحديث بحزم عن وجهات نظرنا في القضيتين". وأضافت أنها ستبلغه بأن التحقيق في قتل خاشقجي يجب أن يكون كاملاً ونزيهاً وأن تتم محاسبة المسؤولين. وفي ما يتعلق باليمن، قالت ماي إنها ستحث بن سلمان على إيجاد حل سياسي. وقالت "نعتقد أن الوقت حان. هناك فرصة لإيجاد حل... للتوصل إلى حل سياسي، لأن هذه هي الطريقة التي نضمن بها مستقبلاً ينعم بالأمن والسلام لشعب اليمن".
بدوره، قال رئيس الأرجنتين ماوريسيو ماكري إن الاتهامات ضد ولي العهد السعودي في ما يتصل بارتكاب جرائم حرب وقتل جمال خاشقجي "ربما تطرح للنقاش خلال القمة". وقال ماكري قبل انطلاق القمة: "في ما يتعلق بولي العهد الذي يحضر القمة، فإن السعودية عضو دائم في مجموعة العشرين وبالتالي فإنه يحضر القمة. المشكلة التي أثرت على العالم مطروحة على الطاولة وربما تثار خلال اجتماعات ثنائية وربما لا... أو على جدول أعمال قمة العشرين". كانت منظمة هيومن رايتس ووتش التي طالبت القضاء الأرجنتيني بفتح تحقيق ضد بن سلمان، قد اعتبرت أن الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها المسؤول السعودي لا تحول قانونياً دون فتح تحقيق ضده.
وفي إطار متصل، ذكرت وكالة الإعلام الروسية نقلاً عن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أمس الجمعة، أنه يجري الإعداد حالياً لزيارة يقوم بها الرئيس بوتين للسعودية من دون تحديد موعد للزيارة، قبل أن يكشف بيسكوف أن بوتين سيلتقي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب "سريعاً" من دون جدول أعمال مسبق مثلما سيفعل مع قادة آخرين في قمة مجموعة العشرين، وذلك بعدما ألغى ترامب، يوم الخميس، فجأة اجتماعاً مقرراً مع نظيره الروسي في إطار مراضاة حزبه الجمهوري الذي يطالبه بالتشدد إزاء موسكو على خلفية التوتر في بحر أزوف مع أوكرانيا.
في غضون ذلك، أعرب الاتحاد الأوروبي، تلميحاً، عن رغبته في أن يستغل قادة العالم قمة الأرجنتين لمواجهة ولي العهد السعودي بشأن تهديدات للصحافيين وكذا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول تصرفات بلاده في أوكرانيا. وقال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، أمس الجمعة، في قمة مجموعة العشرين، إنه على الزعماء الآخرين مناقشة "الحروب التجارية، والوضع المأساوي في سورية واليمن، والعدوان الروسي في أوكرانيا". ولم يسمِّ توسك خاشقجي، بيد أنه أكد على أهمية "السلامة الأساسية للصحافيين"، وهو ما فسرته وكالات الأنباء العالمية بأنه إشارة واضحة إلى السعودية على خلفية جريمة قتل خاشقجي.
ورغم أن اللقاء بين بن سلمان وأردوغان كان مرجحاً، إلا أن وكالة الأناضول التركية شبه الحكومية عادت أمس في تقرير لها، لتقول إن أردوغان "ينظر في طلب محمد بن سلمان بعقد لقاء بينهما". وفي تصريحات صحافية يوم الثلاثاء، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، إن "ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، طلب في اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لقاءه في العاصمة الأرجنتينية، على هامش قمة العشرين، ورد عليه أردوغان، بالقول سنرى"، بينما كان الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، قد أوضح أنه لا مانع من اللقاء بين الرجلين. أما ترامب فأعلن أنّه "لن يلتقي ولي عهد السعودية لعدم الإعداد للقاء" وليس لعدم رغبته في ذلك. وقال في تصريحات صحافية قبيل ذهابه إلى الأرجنتين: "كنت سألتقي به، لكننا لم نقم بذلك".
كذلك لم يحمل جدول أعمال المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أي إشارة إلى لقاء محتمل مع ولي عهد السعودية، بينما تم التأكيد على عقدها مباحثات ثنائية مع قادة الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والهند، حسبما نقل موقع إذاعة "دوتشه فيله" الألماني. واعتبر جيمس إم دورسي، الباحث في الشرق الأوسط في جامعة "نانيانغ" التكنولوجية في سنغافورة، أنّ "مجموعة العشرين هي الاختبار النهائي بالنسبة لولي العهد، وسوف تسلط الضوء على الفجوة الموجودة بينه وبين الزعماء". ومثلت تلك القمة مناسبة أولى، إذ يوجد كل من بن سلمان ورئيس وزراء كندا جاستين ترودو في مكان واحد، بعد الأزمة التي نشبت بين أوتاوا والرياض على خلفية تغريدة كندية اعتبرتها السعودية تدخلاً في شؤونها الداخلية، في أغسطس/ آب الماضي، حول أوضاع حقوق الإنسان في المملكة.
وفي واشنطن، كشف السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه" وافقت الآن على إطلاعه على إحاطتها بشأن جريمة قتل خاشقجي. وقال غراهام: "لقد اتصلت وكالة المخابرات المركزية وهذا أمر جيد"، مضيفاً: "قالوا إنهم سيطلعونني، وقلت إنني أقدر ذلك". ولا يوجد موعد مؤكد حتى الآن، لكن غراهام قال إنه سيكون "قريباً". وفي هذه المرحلة، قال إنه يعتقد أن الإحاطة هي فقط بالنسبة له، لكنه "يأمل" أن يتمكن الآخرون من الحصول على إحاطة إعلامية مماثلة إذا كانوا يريدون ذلك. وكان غراهام أبرز الغاضبين من أن الإحاطة الإعلامية السعودية/ اليمنية، التي ألقاها وزيرا الخارجية والدفاع، مايك بومبيو، وجيمس ماتيس، أمام الكونغرس، يوم الأربعاء، لم تتضمّن وكالة المخابرات المركزية، وهدد بوقف تصويته على البنود الأساسية حتى يتلقى إحاطة.