"أنا أعلم معنى الفقر، لن أنسى أبداً أين بدأ كل شيء، فهذا الأمر جعلني أصل إلى ما أنا عليه الآن"، هكذا يردد الملاكم الفيليبيني ماني باكياو. خلال حياته في الحلبات قاتل دائماً كالأبطال الذين كنا نقرأ عنهم في القصص الخرافية المصورة، عاش في دوامة سريعة لا يمكن ربما للعين أن تراها، كان في كل مرة يطلق العنان لإبداعه في عالم خيالي، وبذلك كنت إذا عشقته تصل إليه عبر حواسك قبل عقلك.
كان باكياو مختلفاً، ذلك الملاكم الذي يضحك برهةً ثم يهرول إلى الحلبة ليتحول بعدها لقتال أقوى الخصوم حتى لو كان بعضهم يشبه الحجارة الصلبة، حينها كان يتغير بهدف إنجاز المهمة بأفضل صورة ممكنة، ليعود بعد الفوز والمستوى المذهل ذلك الشخص الطبيعي المتواضع، وكأنه يجسد شخصية سوبر مان في أوج قوته أثناء العمل وإنقاذ الناس ثم بعد انتهاء كل شيء يعود إلى الإنسان العادي كلارك كينت.
يعتبر هذا الملاكم كتاباً كبيراً يمكن الغوص به بالفعل، خلال نزاله أمام خورخي إيلكسير جوليو في ممفيس كان باكياو جاهزاً ككل مرة، وحتى حين دمّر ليدوابا ليهلو، أو حين تعادل مع أغابيتو سانشيز بسبب خطأ فني، كان دائماً مذهلاً بتلك الضربات القوية التي تسحر أي شخص، وفي اللقاء أمام جوليو سقط الأخير مرتين في الجولة الثانية، الضربات التي كان يوجهها الفيليبيني كانت كالقذيفة غير المرئية، وكأنها تنطلق من منصة لإطلاق الصواريخ.
في إحدى المرات كانت الجماهير الحاضرة في القاعة؛ والتي بلغ عددها 15,327 شخصاً قادمةً لمشاهدة الحدث الرئيسي بين لويس وتايسون، وكان نزال باكياو حينها مجرد أمرٍ عابر للتسلية فقط من أجل مرور الوقت إلى حين وصول موعد القتال الأكبر، لكن وبحركاته ولكماته جذب الأنظار إليه سريعاً، كيف كان من الممكن لهذا الرجل البالغ وزنه 120 باوندا أن يولّد مثل قوة هذه اللكمات الساحقة.
في ذلك الوقت كان جوليو في القمة، لم يكن قد خسر طوال 47 مواجهة متتالية، وربما ظن قبل النزال أن الأمر سيكون سهلاً لكنه صُدم بعد ذلك بخصم لا يتعب، لا ينفك عن ضربه.
تدريب قاسٍ
كان باكياو في الماضي يتدرب لساعات طويلة وفي وقت مبكر، وفي حال زرت المكان الذي انطلق منه الأسطورة في صغره، ستجده في شارع ثانوي ضيق للغاية ربما كان النادي الأكثر تواضعاً في العالم، منطقة التمارين ومعدات رفع الأثقال المتهالكة، داخل مربع ضيق لا يكاد يكفي لشخصين، لم تكن فيه مراوح أو نوافذ حتى، منخفض السقف معدوم الهواء، وكأنك في منطقة استوائية، حرّ شديد ورطوبة وحشية، أما الهواء فكان مشبعاً برائحة العرق، وحتى رائحة البول القادمة من المراحيض في الأعلى.
حين يخرج الملاكم من داخل تلك الغرفة إلى الباحة الخارجية التي تحتوي على تكييف بارد، يشعر بفرق الحرارة، تستطيع الشعور بركبتيك ترتجفان، يصبح الأمر صعباً حتى في التنفس، وسرعان ما تشعر بالدوار والغثيان، غريب كيف يبقى أولئك الملاكمون الذين يواظبون على التمارين هناك على قيد الحياة في ظروف صعبة خارجة عن إرادتهم.
كانت تلك الصالة التي تحسنت ظروفها في وقت لاحق قليلاً لشخص يدعى موري لينيز، وهو كان يقول إن الرائحة والرمل في الأرض يعرضان الملاكمين والمقاتلين لظروف صعبة تساعدهم في المستقبل، في عقولهم تبنى فكرة أن التدريب في هذا المكان سوف يجلب الحظ، بحسب ما يقول شريكه ليتو مونديجار.
قدمت تلك الصالة عدداً هائلاً من الأبطال وحاملي الألقاب بمن فيهم سلافاريا إيبربيتو، لويسيتو إسبينوزا، رولاندو نافاريتي، دودي بوي بينالوزا، بيدرو أديكي، ماكولاس تاسي وبطبيعة الحال باكياو، وحين بدأ الأخير مسيرته بين المحترفين، كان ورود نازاريو مدير أعماله، ومونديجار لعب دور المروج للسلسة من العروض الأسبوعية، وكان يطلق عليها اسم "ضربة بضربة" وقد ظهر فيها الكثير من الملاكمين الفيليبينيين وعرضت في جميع أنحاء البلاد.
ومضات من المسيرة
يتمتع الفيليبينيون بضربات شديدة على غرار أسلوب الـ"كاميكازي ستايل" وبفضل قوته الهجومية الهائلة وضرباته القاضية تحوّل ماني إلى نجم الشباك الأول، وبالفعل بات الأكثر شعبية في بلاده، وعرف الجميع أنه مقاتل غير عادي، صاحب "زوبعة هجومية" مع تلك الابتسامة الصبيانية والشخصية التي كان من الصعب مقاومتها، مع مرور السنوات بات نجماً عالمياً، حين أنهى مسيرة أوسكار دي لاهويا في عام 2008.
على الرغم من نجاحه في الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك، كان لا بد لتلك القصة التي بدأت في بلده أن تنتهي أيضاً هناك، فذلك الصبي الفقير الذي خاطر بنفسه من أجل حياة أفضل وفرصة ليصبح شخصاً عظيماً كان يستحق المجد.
يذكر شخص يدعى ليرنر وهو صحافي أميركي عاش في الفيليبين لأكثر من 20 عاماً انطلاقة ماني الحقيقية، ويقول إنهما كانا يجلسان لوقت طويل، يغوصان في الحديث، حول ذهابه إلى الولايات المتحدة الأميركية، كان باكياو يستمع إليه ويسأله عن إمكانية إعجاب الجماهير به وبأسلوبه، وفي مرة سأله الصحافي: "هل من الممكن أن تتعامل مع جميع المقاتلين الكبار هناك في حال حصلت على فرصة لذلك؟"، يقول ليرنر عن ذلك الموقف، "لن أنسى أبداً ابتسامته الواسعة التي ارتسمت على وجهه وأجابني: تيد لن أتوقف عن اللكم حينها لن أعود للأسفل أبداً".
في العام التالي بعد هذا الحديث سافر ماني إلى الولايات المتحدة وهناك بدأ يتطلع للوصول إلى قمة هذه الرياضة، وبالفعل لم يتوقف عن اللكم ولم يتراجع أبداً. ويقول فريد ستينبورغ الذي عمل كشريك دعائي معه لأكثر من عشر سنوات: "لقد كان يخاف تجربة أشياء جديدة خارج الحلبة، هو لم يكن يجيد الإنكليزية بشكل جيد لكنه كان مصمماً على تعلمها، لم يكن يشعر بالحرج من ذلك، وكان يسأل من يعلمه في حال لم يفهم شيئاً، وبعد حين بات يحاول الإجابة باللغة الإنكليزية وحين ظهر مع جيمي كيميل على تلفاز ABC بدا واثقاً من نفسه".
ويضيف ستينبورغ: "في ذلك العرض مع كيميل، طلب منه أن يغني فظن البعض أنها نكتة، لكن ماني أخذ الأمر على محمل الجد، فأمتع الجميع، حتى إنه تحدث عن الأفلام وبعض المواقف السياسة، لا يوجد شيء مستحيل بالنسبة له".
تحوّل جوهري
بعد تلك المرحلة بدأ باكياو يتطور مع مرور الوقت سواء كملاكم وحتى كشخص، وفي نهاية 2010، بدا وأنه بات يخسر قليلاً من الضراوة التي كان يتمتع بها، خاصة حين كان يرى أن النزال في متناول اليد، وخلال بعض اللقاءات أمام ميغيل كوتو وأنطونيو ماغاريتو، كان باكياو ينظر إلى الحكم وكأنه يتوسل إليه أن يوقف المذبحة التي قد تحصل على الحلبة كي لا يلحق بأحد الضرر أكثر من ذلك.
يعتقد بعض المراقبون أن ماني أصبح رحيماً أكثر بسبب تغيّر في حياته الخاصة، حين غادر الكنسية الكاثوليكية وانضم إلى البروتستانتية الإنجيلية، فتخلى عن علاقاته النسائية والشرب والقمار، ذلك الملاكم الذي كان يقضي ساعات الليل بلعب البلياردو وحضور سباقات الديكة، تحوّل إلى شخصٍ يجلس في البيت ويقرأ في الكتاب المقدس. وكان من المستحيل الفصل بين حياة المقاتل الخاصة وشخصيته في الحلبة من حيث الأسلوب والنظرات، وبرأي البعض بات باكياو أقل إثارة في النزالات بعد تخليه عن أسلوب حياته القديم. وحول هذا الموضوع يقول بروس ترامبلير: "تعاطفه مع الخصوم ازداد، فمعتقدات ماني الدينية والإيمان الزائد جعلاه أكثر إنسانية، على الرغم من أن فيريدي روك كان دائماً يذكّره أن هذه الرياضة لعبة لنشر الضرر".
مهما كانت الحقيقة فباكياو كان يتقدم في السن يوماً بعد آخر، فبعد سنوات طويلة في الحلبات تقريباً وصل إلى الذروة، على الرغم من أن أحداً لن ينساه حين كان يافعاً. لكن لمعرفة ما حصل في الماضي لا بد من العودة إلى الصحافي ليرنر: "بالنسبة لي كان ماني في أفضل حالاته عام 2000 تقريباً، وحين نجا من ذلك النزال الوحشي أمام الأسترالي نضال حسين في عام 2000، بات المقاتل الأول في آسيا، وخلال الإبادة التي قام بها في 2001 في النزال الأول في الولايات المتحدة الأميركية أمام ليدوابا، شعرت بشراسة أنفاسه، وحين أفكر في أفضل نزال له بنظري كان حين دمّر ماركو أنطونيو باريرا في عام 2003".
باكياو والسياسة
ننتقل سنوات إلى الأمام وتحديداً لشهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2003، يومها كان باكياو في مانيلا وسبق ذلك الانتصار على أنطونيو باريرا، بعدها حصل حفل كبير في قصر مالاكانانغ، وهو المنزل التقليدي للرئيس الفيليبيني، كان حدثاً ضخماً للغاية، تحدثت عنه صحف الفيليبين كلّها.
وزّعت حينها الأحزمة على الملاكمين في المؤتمر الصحافي، كانت الصور تنهال من كلّ حدب وصوب في صالة التدريب وحتى في الفندق والغرف وكذلك الحلبة، يومها وصل باكياو والتقى الرئيسة غلوريا أرويو، وكان بين الحضور رئيس البلدية ليتو اتينزا، هذا الأمر أظهر مدى أهمية الملاكم.
في تلك الحقبة كانت البلاد تقترب من الانتخابات، كان باكياو يقف وحزامه مربوط على خصره، فرفع يده اليسرى، وأخذت الرئيسة الذراع ورفعتها أكثر إلى الأعلى، وقف الجميع هناك أمام مشهدٍ لا يتكرر، تحول الحضور إلى جيش صغير يضم عناصر التلفزيون ووسائل الإعلام المطبوعة، لتسجل تلك اللحظة للأجيال القادمة. كانت أرويو تسعى في ذلك الوقت للترشح لولاية ثانية، لتخطف أكبر تأييد ممكن، أما باكياو فكان رجلاً سياسياً محنكاً ويمتاز بالدهاء الشديد.
ومع وصولنا إلى عام 2016 وبعد كل هذه النجاحات في عالم الملاكمة، رفض باكياو تمثيل الفيليبين في دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة في ريو دي جانيرو بسبب التركيز على واجباته السياسية الجديدة، فالنجاح في هذا المجال باعتباره عضواً في مجلس الشيوخ هو إلى حد كبير موضوع عميق في هذه المرحلة، هو الآن تحت دائرة الضوء مثل كل سياسي آخر فقد ترك حزبه السابق وانضم لحزب الرئيس الجديد رودريغو دوتيرتي، وسيكون أمراً مثيراً للاهتمام أن نرى كيف سيتعامل ماني مع المواقف التي تتعارض مع مبادئه، فالبعض يتساءل عن إمكانية سيره مع التيار الحالي في حال أراد الوصول إلى منصب أعلى أو أنه سيقف ضد بعض القرارات، وحول هذا الموضع يرى آخرون أنه سيرحل عن الفيليبين.
بغض النظر عما يحدث في الساحة السياسية، فباكياو مكانه محفوظ كأحد أبرز الملاكمين في التاريخ، قلائل لعبوا في أكثر من وزن وحققوا إنجازات مثله، هو الذي واجه الكثير من الملاكمين على غرار تشاتشاي ساساكول، خوان مانويل ماركيز، ريكي هاتون وتيموثي برادلي، إضافة لخصموم مثل أوسكار لاريوس، خورخي سوليس، ديفيد دياز، جوشوا كلوتي وبراندون ريوس.
نعم خسر باكياو بعض النزالات وأشهرها أمام فلويد مايويذر جونيور، ولكن هذا الأمر عادي للغاية مقارنة بقصة حياته، لقد عاش الكثير من المخاطر وقصته عبرة للذين يفقدون الأمل أحياناً.
اقــرأ أيضاً
يعتبر هذا الملاكم كتاباً كبيراً يمكن الغوص به بالفعل، خلال نزاله أمام خورخي إيلكسير جوليو في ممفيس كان باكياو جاهزاً ككل مرة، وحتى حين دمّر ليدوابا ليهلو، أو حين تعادل مع أغابيتو سانشيز بسبب خطأ فني، كان دائماً مذهلاً بتلك الضربات القوية التي تسحر أي شخص، وفي اللقاء أمام جوليو سقط الأخير مرتين في الجولة الثانية، الضربات التي كان يوجهها الفيليبيني كانت كالقذيفة غير المرئية، وكأنها تنطلق من منصة لإطلاق الصواريخ.
في إحدى المرات كانت الجماهير الحاضرة في القاعة؛ والتي بلغ عددها 15,327 شخصاً قادمةً لمشاهدة الحدث الرئيسي بين لويس وتايسون، وكان نزال باكياو حينها مجرد أمرٍ عابر للتسلية فقط من أجل مرور الوقت إلى حين وصول موعد القتال الأكبر، لكن وبحركاته ولكماته جذب الأنظار إليه سريعاً، كيف كان من الممكن لهذا الرجل البالغ وزنه 120 باوندا أن يولّد مثل قوة هذه اللكمات الساحقة.
في ذلك الوقت كان جوليو في القمة، لم يكن قد خسر طوال 47 مواجهة متتالية، وربما ظن قبل النزال أن الأمر سيكون سهلاً لكنه صُدم بعد ذلك بخصم لا يتعب، لا ينفك عن ضربه.
تدريب قاسٍ
كان باكياو في الماضي يتدرب لساعات طويلة وفي وقت مبكر، وفي حال زرت المكان الذي انطلق منه الأسطورة في صغره، ستجده في شارع ثانوي ضيق للغاية ربما كان النادي الأكثر تواضعاً في العالم، منطقة التمارين ومعدات رفع الأثقال المتهالكة، داخل مربع ضيق لا يكاد يكفي لشخصين، لم تكن فيه مراوح أو نوافذ حتى، منخفض السقف معدوم الهواء، وكأنك في منطقة استوائية، حرّ شديد ورطوبة وحشية، أما الهواء فكان مشبعاً برائحة العرق، وحتى رائحة البول القادمة من المراحيض في الأعلى.
حين يخرج الملاكم من داخل تلك الغرفة إلى الباحة الخارجية التي تحتوي على تكييف بارد، يشعر بفرق الحرارة، تستطيع الشعور بركبتيك ترتجفان، يصبح الأمر صعباً حتى في التنفس، وسرعان ما تشعر بالدوار والغثيان، غريب كيف يبقى أولئك الملاكمون الذين يواظبون على التمارين هناك على قيد الحياة في ظروف صعبة خارجة عن إرادتهم.
كانت تلك الصالة التي تحسنت ظروفها في وقت لاحق قليلاً لشخص يدعى موري لينيز، وهو كان يقول إن الرائحة والرمل في الأرض يعرضان الملاكمين والمقاتلين لظروف صعبة تساعدهم في المستقبل، في عقولهم تبنى فكرة أن التدريب في هذا المكان سوف يجلب الحظ، بحسب ما يقول شريكه ليتو مونديجار.
قدمت تلك الصالة عدداً هائلاً من الأبطال وحاملي الألقاب بمن فيهم سلافاريا إيبربيتو، لويسيتو إسبينوزا، رولاندو نافاريتي، دودي بوي بينالوزا، بيدرو أديكي، ماكولاس تاسي وبطبيعة الحال باكياو، وحين بدأ الأخير مسيرته بين المحترفين، كان ورود نازاريو مدير أعماله، ومونديجار لعب دور المروج للسلسة من العروض الأسبوعية، وكان يطلق عليها اسم "ضربة بضربة" وقد ظهر فيها الكثير من الملاكمين الفيليبينيين وعرضت في جميع أنحاء البلاد.
ومضات من المسيرة
يتمتع الفيليبينيون بضربات شديدة على غرار أسلوب الـ"كاميكازي ستايل" وبفضل قوته الهجومية الهائلة وضرباته القاضية تحوّل ماني إلى نجم الشباك الأول، وبالفعل بات الأكثر شعبية في بلاده، وعرف الجميع أنه مقاتل غير عادي، صاحب "زوبعة هجومية" مع تلك الابتسامة الصبيانية والشخصية التي كان من الصعب مقاومتها، مع مرور السنوات بات نجماً عالمياً، حين أنهى مسيرة أوسكار دي لاهويا في عام 2008.
على الرغم من نجاحه في الولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك، كان لا بد لتلك القصة التي بدأت في بلده أن تنتهي أيضاً هناك، فذلك الصبي الفقير الذي خاطر بنفسه من أجل حياة أفضل وفرصة ليصبح شخصاً عظيماً كان يستحق المجد.
يذكر شخص يدعى ليرنر وهو صحافي أميركي عاش في الفيليبين لأكثر من 20 عاماً انطلاقة ماني الحقيقية، ويقول إنهما كانا يجلسان لوقت طويل، يغوصان في الحديث، حول ذهابه إلى الولايات المتحدة الأميركية، كان باكياو يستمع إليه ويسأله عن إمكانية إعجاب الجماهير به وبأسلوبه، وفي مرة سأله الصحافي: "هل من الممكن أن تتعامل مع جميع المقاتلين الكبار هناك في حال حصلت على فرصة لذلك؟"، يقول ليرنر عن ذلك الموقف، "لن أنسى أبداً ابتسامته الواسعة التي ارتسمت على وجهه وأجابني: تيد لن أتوقف عن اللكم حينها لن أعود للأسفل أبداً".
في العام التالي بعد هذا الحديث سافر ماني إلى الولايات المتحدة وهناك بدأ يتطلع للوصول إلى قمة هذه الرياضة، وبالفعل لم يتوقف عن اللكم ولم يتراجع أبداً. ويقول فريد ستينبورغ الذي عمل كشريك دعائي معه لأكثر من عشر سنوات: "لقد كان يخاف تجربة أشياء جديدة خارج الحلبة، هو لم يكن يجيد الإنكليزية بشكل جيد لكنه كان مصمماً على تعلمها، لم يكن يشعر بالحرج من ذلك، وكان يسأل من يعلمه في حال لم يفهم شيئاً، وبعد حين بات يحاول الإجابة باللغة الإنكليزية وحين ظهر مع جيمي كيميل على تلفاز ABC بدا واثقاً من نفسه".
ويضيف ستينبورغ: "في ذلك العرض مع كيميل، طلب منه أن يغني فظن البعض أنها نكتة، لكن ماني أخذ الأمر على محمل الجد، فأمتع الجميع، حتى إنه تحدث عن الأفلام وبعض المواقف السياسة، لا يوجد شيء مستحيل بالنسبة له".
تحوّل جوهري
بعد تلك المرحلة بدأ باكياو يتطور مع مرور الوقت سواء كملاكم وحتى كشخص، وفي نهاية 2010، بدا وأنه بات يخسر قليلاً من الضراوة التي كان يتمتع بها، خاصة حين كان يرى أن النزال في متناول اليد، وخلال بعض اللقاءات أمام ميغيل كوتو وأنطونيو ماغاريتو، كان باكياو ينظر إلى الحكم وكأنه يتوسل إليه أن يوقف المذبحة التي قد تحصل على الحلبة كي لا يلحق بأحد الضرر أكثر من ذلك.
يعتقد بعض المراقبون أن ماني أصبح رحيماً أكثر بسبب تغيّر في حياته الخاصة، حين غادر الكنسية الكاثوليكية وانضم إلى البروتستانتية الإنجيلية، فتخلى عن علاقاته النسائية والشرب والقمار، ذلك الملاكم الذي كان يقضي ساعات الليل بلعب البلياردو وحضور سباقات الديكة، تحوّل إلى شخصٍ يجلس في البيت ويقرأ في الكتاب المقدس. وكان من المستحيل الفصل بين حياة المقاتل الخاصة وشخصيته في الحلبة من حيث الأسلوب والنظرات، وبرأي البعض بات باكياو أقل إثارة في النزالات بعد تخليه عن أسلوب حياته القديم. وحول هذا الموضوع يقول بروس ترامبلير: "تعاطفه مع الخصوم ازداد، فمعتقدات ماني الدينية والإيمان الزائد جعلاه أكثر إنسانية، على الرغم من أن فيريدي روك كان دائماً يذكّره أن هذه الرياضة لعبة لنشر الضرر".
مهما كانت الحقيقة فباكياو كان يتقدم في السن يوماً بعد آخر، فبعد سنوات طويلة في الحلبات تقريباً وصل إلى الذروة، على الرغم من أن أحداً لن ينساه حين كان يافعاً. لكن لمعرفة ما حصل في الماضي لا بد من العودة إلى الصحافي ليرنر: "بالنسبة لي كان ماني في أفضل حالاته عام 2000 تقريباً، وحين نجا من ذلك النزال الوحشي أمام الأسترالي نضال حسين في عام 2000، بات المقاتل الأول في آسيا، وخلال الإبادة التي قام بها في 2001 في النزال الأول في الولايات المتحدة الأميركية أمام ليدوابا، شعرت بشراسة أنفاسه، وحين أفكر في أفضل نزال له بنظري كان حين دمّر ماركو أنطونيو باريرا في عام 2003".
باكياو والسياسة
ننتقل سنوات إلى الأمام وتحديداً لشهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2003، يومها كان باكياو في مانيلا وسبق ذلك الانتصار على أنطونيو باريرا، بعدها حصل حفل كبير في قصر مالاكانانغ، وهو المنزل التقليدي للرئيس الفيليبيني، كان حدثاً ضخماً للغاية، تحدثت عنه صحف الفيليبين كلّها.
وزّعت حينها الأحزمة على الملاكمين في المؤتمر الصحافي، كانت الصور تنهال من كلّ حدب وصوب في صالة التدريب وحتى في الفندق والغرف وكذلك الحلبة، يومها وصل باكياو والتقى الرئيسة غلوريا أرويو، وكان بين الحضور رئيس البلدية ليتو اتينزا، هذا الأمر أظهر مدى أهمية الملاكم.
في تلك الحقبة كانت البلاد تقترب من الانتخابات، كان باكياو يقف وحزامه مربوط على خصره، فرفع يده اليسرى، وأخذت الرئيسة الذراع ورفعتها أكثر إلى الأعلى، وقف الجميع هناك أمام مشهدٍ لا يتكرر، تحول الحضور إلى جيش صغير يضم عناصر التلفزيون ووسائل الإعلام المطبوعة، لتسجل تلك اللحظة للأجيال القادمة. كانت أرويو تسعى في ذلك الوقت للترشح لولاية ثانية، لتخطف أكبر تأييد ممكن، أما باكياو فكان رجلاً سياسياً محنكاً ويمتاز بالدهاء الشديد.
ومع وصولنا إلى عام 2016 وبعد كل هذه النجاحات في عالم الملاكمة، رفض باكياو تمثيل الفيليبين في دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة في ريو دي جانيرو بسبب التركيز على واجباته السياسية الجديدة، فالنجاح في هذا المجال باعتباره عضواً في مجلس الشيوخ هو إلى حد كبير موضوع عميق في هذه المرحلة، هو الآن تحت دائرة الضوء مثل كل سياسي آخر فقد ترك حزبه السابق وانضم لحزب الرئيس الجديد رودريغو دوتيرتي، وسيكون أمراً مثيراً للاهتمام أن نرى كيف سيتعامل ماني مع المواقف التي تتعارض مع مبادئه، فالبعض يتساءل عن إمكانية سيره مع التيار الحالي في حال أراد الوصول إلى منصب أعلى أو أنه سيقف ضد بعض القرارات، وحول هذا الموضع يرى آخرون أنه سيرحل عن الفيليبين.
بغض النظر عما يحدث في الساحة السياسية، فباكياو مكانه محفوظ كأحد أبرز الملاكمين في التاريخ، قلائل لعبوا في أكثر من وزن وحققوا إنجازات مثله، هو الذي واجه الكثير من الملاكمين على غرار تشاتشاي ساساكول، خوان مانويل ماركيز، ريكي هاتون وتيموثي برادلي، إضافة لخصموم مثل أوسكار لاريوس، خورخي سوليس، ديفيد دياز، جوشوا كلوتي وبراندون ريوس.
نعم خسر باكياو بعض النزالات وأشهرها أمام فلويد مايويذر جونيور، ولكن هذا الأمر عادي للغاية مقارنة بقصة حياته، لقد عاش الكثير من المخاطر وقصته عبرة للذين يفقدون الأمل أحياناً.