في التاريخ لا شيء يستمر أو يدوم. في الأرجنتين، وأميركا اللاتينية كذلك. لم يستمرّ حكم آل كيرشنر الطويل، ففوز ماوريسيو ماكري، برئاسة البلاد، يوم الأحد، يحمل في طيّاته الكثير من الأسئلة المستقبلية، ومنها ما يتعلق بدور الأرجنتين، ثاني أكبر دولة في جنوبي القارة، تجاه محيطها اللاتيني.
يُمكن لكريستينا كيرشنر أن تخلي الساحة بعد ثمانية أعوام، سعت خلالها لمتابعة عهد زوجها الراحل نستور (2003 ـ 2007). فشلت أحياناً ونجحت أحياناً أخرى، لكنها تركت بصمة مهمة في الأرجنتين، التي خرجت ببطء من إفلاس عام 2002. فعلياً، قد يكون انحسار اليسار الأميركي الجنوبي في السلطة، قد بدأ بعد وفاة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، مصاباً بمرض السرطان، في عام 2013.
كانت شخصية تشافيز الشعبوية، مصدر حراك يساري شامل في أميركا اللاتينية. سمحت بوصول شخصيات مثل إيفو موراليس في بوليفيا، وديلما روسيف في البرازيل، وآل كيرشنر في الأرجنتين. استمدّ قوته من حاجة شعوب تلك البلدان إلى قائدٍ من صفوفها، وإلى معاداته الولايات المتحدة. لكن ليس تشافيز وحده من ساهم بنهضة اليسار في العقل الجماعي لشعوب تؤمن بأفكار إرنستو تشي غيفارا، إذ عزّز وصول الأسقف الأرجنتيني خورخي ماريو بيرغوغليو إلى سدة البابوية في الفاتيكان، وحمله اسم البابا فرنسيس، آمال "اليسار المسيحي" المتجلّي في "لاهوت التحرير".
تاريخ ماكري معظمه رياضي، على الرغم من ترؤسه بلدية العاصمة بوينس أيرس من عام 2007 وحتى نجاحه الرئاسي. الرئيس الـ53 للأرجنتين، كان رئيساً لأبرز الأندية الأرجنتينية والعالمية: بوكا جونيورز. قاد النادي في عهده (1996 ـ 2007)، إلى إنجازات قلّ نظيرها. ولمَن يعرف أميركا اللاتينية والأرجنتين تحديداً، يُدرك أهمية كرة القدم في البلاد، وارتباطها جذرياً بالوجدان الجماعي للشعب. استند ماكري إلى نجاحاته الكروية، وإلى صداقته مع أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا، لتعبيد طريقه الرئاسي، وفق برنامج قد يتيح للمحافظين السيطرة لفترة طويلة، أو يسقطون عند أول مفترق.
ماكري، المهندس، الذي فاز بالدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وذلك للمرة الأولى في الأرجنتين منذ فترة طويلة، يُدرك أنه أمام تحدٍ كبير، له ولحزبه "الاقتراح الجمهوري". أمامه عوائق عدة، تبدأ من التضخم المالي الذي بلغ نسبة 30 في المائة، وسط استحواذ قطاع الطاقة والنقل على 20 في المائة سنوياً من الدعم الحكومي في الإنفاق العام. كما أن مجموعة من الدائنين الأرجنتينيين يطالبون الحكومة بـ1.5 مليار دولار. وتُعرقل هذه المدفوعات البلاد عن تمويل نفسها.
في هذا الصدد، يقول أحد الاقتصاديين، باتريسيو غوستو، إنه "بفضل هذا الخلاف مع الدائنين المحليين، ستتمكن الأرجنتين من تلقي التمويل الأجنبي مجدداً، وسيكون من الممكن دخول استثمارات جديدة في البلاد"، وهو ما تحتاج إليه البلاد لتخطي عقبات سوق "ميركوسور" (السوق الأميركية اللاتينية المشتركة) وإجراءاتها البيروقراطية، نحو أفق أوسع.
ينوي ماكري إنهاء التدابير الحمائية، سواء بإلغاء الضرائب على تصدير الحبوب، أو إلغاء إجراءات مراقبة الحصول على القطع الأجنبي، التي شكّلت عماد النمو الارجنتيني في سنوات ما بعد الإفلاس، علی يد آل كيرشنر. ولتحقيق هذا الأمر لا بدّ لماكري وحزبه وتحالف "كامبيموس" (التغيير)، من إقامة تحالفات في صفوف البرلمان، حيث يشكل أنصار "الحركة البيرونية" الأكثرية النيابية.
بالتأكيد، إن تداعيات فوز ماكري لن تقف عند حدود البرازيل التي تجري انتخاباتها، مبدئياً، في عام 2018، ما لم يُطح روسيف قبلاً. وقد تصل إلى قلب فنزويلا، لتدعم المعارضة معنوياً في معركتها مع مادورو، في انتخابات الرئاسة 2018. وعدا روسيف ومادورو، فإن موراليس في بوليفيا، تنتظره انتخابات رئاسية في عام 2019، وخوان مانويل سانتوس في كولومبيا في عام 2018، ورافايل كوريّا في الإكوادور في عام 2017، وأويّانتا هومالا في البيرو، في عام 2016، وهوراسيو كارتيس في الباراغواي في عام 2018، وتاباريه فاسكيز في الأوروغواي في عام 2019، وميشيل باشيليه في تشيلي في عام 2017. وحدهما الرئيسين الكولومبي والباراغوياني يمينيان، وباقي الرؤساء هم يساريو الهوى.
قد تسمح التغيّرات بتقدّم الليبراليين في أميركا اللاتينية، في صورة منقحة عن اليمين الأوروبي. يبقى الفارق في أن صعود اليمين في القارة العجوز نابع من أسباب قومية وإثنية وحتی دينية أحياناً، بينما يأتي صعود اليمين الأميركي اللاتيني في ظل مصاعب اقتصادية تشهدها بلدانه.
اقرأ أيضاً: مصير رئيسة الأرجنتين على إيقاع قاضٍ وإيران وحزب الله