ما أخبار علي عقلة عرسان؟
ربما ظلمنا علي عقلة عرسان في ما مضى؛ فكثير من الكُتّاب اللبنانيين الملتاثين بكراهة السوريين، و"المهروقين" بالكتابة عن "الديمقراطية اللبنانية الفريدة"، جعلوا منه دريئة يصوِّبون إليها عنصريتهم، وحوَّلوه مثالاً للشخص الذي لا يزول عن الكرسي أبداً، ولا يحول عن موقعه إلا بالموت، أو بحادث سيارة، أو بالانزلاق فوق "قشرة موز" في الطريق. والواضح أن هؤلاء "الكُتّاب" عميان تماماً، ولا يشمّون روائح أفواههم، فلم يلحظوا أن نقيب المحررين اللبنانيين، ملحم كرم، تربع على كرسي النقابة منذ سنة 1961، وظل في موقعه حتى وفاته في سنة 2010، أي 49 سنة متواصلة، وهو ما لم يصل إليه أي كاتب عربي. وعلاوة على ذلك، لم يجد هؤلاء ضيراً في أن يستمر محمد البعلبكي نقيباً للصحافة اللبنانية، منذ سنة 1982 حتى اليوم، أي 32 سنة بكمالها (ولا ينتقص كلامي هذا من تقديرنا للنقيب محمد البعلبكي، وتاريخه المشهود في خدمة الحرية والكلمة الحرة معاً)، ولم يكتشفوا أن الكلام على الديمقراطية في لبنان كلام زائف، لا يستقيم بأي معيار، ولا يستوي على أي قوام. فالديمقراطية، في أبسط صورها، تفترض المساواة، ولا مساواة للمواطنين في النظام السياسي اللبناني، فلا يستطيع المواطن الماروني، مثلاً، أن يكون رئيساً لمجلس النواب المعقودة أبوابه للشيعة، ولا يستطيع المواطن السني أن يكون رئيساً للجمهورية، المطوَّب قصره للموارنة، ولا يستطيع المواطن الشيعي أن يكون قائداً للجيش، فدون ذلك خرط القتاد. ولبنان بنظامه البرلماني "الفريد" إنما هو كونفدرالية طوائف، وملاذ للقنافذ الطائفية التي يتكأكأ بعضها على بعض في فترات الازدهار. ويفتك الجميع بالجميع في فترات الانهيار. والديمقراطية تفترض، أيضاً، الحرية لجميع المواطنين المتساوين، لكن الحال في لبنان، منذ أصبح دولة "مستقلة" في سنة 1943، هي أن الحرية النسبية مرصودة للطوائف ولزعماء الطوائف، وللأحزاب الطائفية ورجال السياسة الطائفيين وأزلامهم ومحاسيبهم. أما ما عداهم فلا حرية لهم، والدليل ما ذاقه الشيوعيون والفلسطينيون والبعثيون والقوميون العرب من المرارات والاضطهاد والملاحقة والإيذاء والقتل، أحياناً، (جلال كعوش مثلاً) في دولة الاستقلال، إلى أن منحهم كمال جنبلاط الرخصة القانونية في 1968، وأنقذهم من العسف.
مشكلة المسكين علي عقلة عرسان، ومَن هم على غراره وطرازه، هي الموقع. وفي سبيل الموقع الذي يعادل وجوده، يصبح مستعداً لأن يكون صوتاً لسيده، أو سوطاً في يده. والمأساة أن السقوط يكون أكثر إيلاماً، حين يكون الموقع أعلى. ولعل ع. ع. ع. عندما صار رئيساً لاتحاد الكتاب العرب، توهم أنه أرفع كاتب في سورية؛ وعلى هذا المنوال، فهو أهم من أدونيس وسعد الله ونوس وحنا مينه وهاني الراهب وغيرهم، ولهذا، لم يتورع عن محاسبة أدونيس لحضوره مؤتمراً في غرناطة. وعلي عقلة عرسان الذي منحته الجامعة الإسلامية في دمشق (يسمونها الجامعة الفرفورية، نسبة إلى مؤسسها الشيخ عبد اللطيف فرفور) الدكتوراه، اتهمه عادل أبو شنب بالسطو على كتابه "مسرح عربي قديم – كراكوز"، ومع ذلك "انتخب" بالتعيين رئيساً لاتحاد الكتاب العرب في سنة 1977، ولم يحوِّل عجيزته عن الكرسي حتى سنة 2005. وفي هذه الحقبة، كانت نشوته الوحيدة توزيع ألقاب العروبة والوطنية وشهادات الإبداع على من شاء، ونزعها عمن يشاء. ومهما يكن الأمر، فإن علي عقلة عرسان إذا كان حقاً مثالاً لجدل المثقف والسلطان، فإن مستنسخات كثيرة منه موجودة في لبنان، وبعضها "مسوخات" حقيقية، تكتب وتحكي وتمشي على الأرض. فإذا كان الاستبداد يشوه الفرد ووعيه، فإن "ديمقراطية القنافذ" في لبنان تجعل بعض الكُتّاب والصحافيين مجرد لائكي كلام (طق حنك)، الأمر الذي يذكّرنا بالمثل الصيني: "حين يصبح لأشخاص صغار ظل طويل، فتلك إشارة إلى أن الشمس تغيب".