لم يخرج بعد الإعلام الفرنسي من صدمته. الاعتداء على مجلة "شارلي إيبدو" قبل عشرة أيام أدخله في مرحلة جديدة. هو "11 سبتمبر/أيلول الفرنسي" كما يحلو للمغردين الفرنسيين تسميته. فعلاً هو 11 سبتمبر/أيلول بكل المقاييس، أقلّه في الصحافة الفرنسية. سقطت كل الملفات، وقرّرت الصحف، بعد استيعاب حجم ما حصل، إعادة اكتشاف الإسلام، إعادة اكتشاف المسلمين، وقبل كل شيء إعادة اكتشاف العلاقة الملتبسة، والدموية بين فرنسا (ومعه الغرب الاستعماري) والعالم العربي والأفريقي، الإسلامي تحديداً.
من هم المهاجرون؟
"هذا ليس الوجه الحقيقي للإسلام" تخبرنا الصحف بشبه إجماع. كلها أيضاً نشرت بشكل شبه يومي الأسبوع الماضي مقالات عن أحمد المرابط، الشرطي المسلم الذي قتل في الاعتداء على الصحيفة. صحيفة "ليبراسيون" اختارت مقالة عاطفية لوصف جنازة أحمد. "نعشه الملفوف بالعلم الفرنسي"، تكرر الصحيفة أكثر من مرة. كذلك فعلت "لو موند" التي تحدّثت عن بطولة أحمد وعن حملة je suis ahmed "أنا أحمد" التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي...
لكن مع انتهاء اللحظات العاطفية، انتقلت الصحف في اليومين الماضيين إلى مناقشة الملفات الشائكة: ملف الهجرة، الحدود المفروضة، الشروط، إقفال باب الهجرة، تعليم الفرنسيين من أصول عربية... كل الملفات التي بقيت لسنوات مقفلة في انتظار انفجار كبير. وجاء هذا الانفجار.
لم تحسم الصحف خيارها في موضوع الهجرة. فتحت صفحاتها لكل الآراء. أعطت أعمدة ومقالات لمهاجرين مسلمين ليخبروا عن انتمائهم لفرنسا. "أكثر من أي وقت مضى يجب أن نحارب الإسلاموفوبيا" تكتب "لو موند". لكن كل المطبوعات، من "لو موند" إلى "لو فيغارو" و"لو بوان"، تعيد بحيادية تامة نشر ما قاله الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وتوجيهه سهام الانتقاد إلى المهاجرين من أصول عربية وأفريقية، من أبناء الديانة المسلمة "يجب أن نتعمّق في دراسة موضوع الهجرة". وتبعته مجموعة من التصريحات السياسية التي حملت توجيه اتهامات مباشرة للمسلمين.
كما أنها أعادت طرح أسئلة شائكة عن "السبب في شعور بعض المسلمين بعدم الانتماء لفرنسا" كما فعلت "لو فيغارو".
التضامن قبل كل شيء
لكن كل ذلك، وكل هذه الأسئلة طرحت وسط شعار واحد هو "الالتفاف حول شارلي إيبدو". فالصحافة الفرنسية كلها، من دون استثناء، أظهرت تعاطفاً مع الصحيفة الساخرة في محنتها. ليس فقط "لو موند" و"لو فيغارو" و"ليبراسيون" بل حتى صحف اليمين المتطرف واليسار المتطرف. إلى جانب الصحف والمواقع الإعلامية ذات التوجه الإنساني كـ "بوليتيس" و"ميديا بارت".
بعض هذه الصحف عبر عن موقف مبدئي من حرية التعبير والصحافة في فرنسا، وهو موقف الصحافة الكبيرة في فرنسا. بينما وجدت فيها صحف اليمين المتطرف (المقربة من "الجبهة الوطنية" ومن يقف على يمينها)، فرصة لتصفية الحساب مع المسلمين والإسلام في فرنسا، وحتى مع الطبقة السياسية الفرنسية التي تريد القبول بالإسلام كدين أوروبي، كما فعلت أنجيلا ميركل في ألمانيا.
ولا يمكن أن نغفل أن إظهار الدعم لـ "شارلي إيبدو"، بأي طريقة كانت، لفظية أو مادية، يُثمِر مادياً بشكل غير متوقع. فصحيفة "ليبراسيون" التي استضافت للمرة الثانية الطاقم الجديد لـ "شارلي إيبدو" في مقرها الباريسي، استفادت من هذا الكرم والإيثار، فنفدت مبيعاتها، بعدما كانت مهددة، هي الأخرى، بأزمة مالية، وكانت تتأهب لتسريح العشرات من صحافييها.
عودة إلى الاعتداء
في الساعات الأولى التي أعقبت الجريمة الإرهابية ضد "شارلي إيبدو"، أكد صحافيون من مختلف التوجهات السياسية والأيديولوجية على ضرورة فعل كل شيء لعودة الصحيفة إلى الوجود، وإلا "فإن الإرهاب الأعمى سيكون هو المنتصر". ولهذا أكد الرئيس فرانسوا هولاند أن "شارلي إيبدو حيّة، وستحيا".
في ظل سيادة شعار "كلنا شارلي" فوق كل الشعارات، ورفعه إلى مصاف النشيد الفرنسي، وتنظيم مظاهرات ضخمة في باريس وغيرها تصدح به، كان كل شيء قد حُسِمَ. ومن هنا جاء العدد الجديد للصحيفة، بإشراف طاقمها الجديد، وما تبقى من الإدارة السابقة، وقد حُسم موضوع نجاحه. ظهر عضوان من الإدارة الجديدة وهما يُشهران، أمام وسائل الإعلام، بالغلاف الجديد للعدد. وقد كانت الماكينة الإعلامية كلها مستعدة لتسويق العدد.
لم يكن الأمر قابلاً للتصديق. الأكشاك غاصة بقراء لم يَرَهُم البائعون من قبل، أبداً. كلهم يريدون شراء "شارلي إيبدو". لا يمكن للمرء أن يضع على قميصه شارة "أنا شارلي"، ولا يشتري، أو يحاول شراء الصحيفة. تجاوزت المبيعات خمسة ملايين، والجمهور يطلب المزيد، وفي ظل هذه الدينامية الرائجة صعدت مبيعات كل صحيفة تولي للموضوع أهمية، "ليبراسيون"، "لو كانار أنشينيه"، "لو فيغارو" وغيرها...
في انتظار انتهاء الهستيريا
إذاً عادت "شارلي إيبدو" للصدور وتحوّل شعار "أنا شارلي" إلى شعار الجمهورية الفرنسية، وقد رفع في كل مكان، حتى على واجهة معهد العالم العربي في باريس وفي المدارس والثانويات (وقد تسبب في احتقانات كثيرة، عددت وزيرة التربية الوطنية أكثر من 200 حدث). ولم يكن ممكناً رؤية "الوحدة الوطنية" في فرنسا من دون تنازلات الحكومة لليمين الساركوزي. ولم يعد اليمين الفرنسي يحتكر شؤون الأمن والهجرة، فاليسار الحاكم أصبح أكثر تقبلاً للتشدد، وهو ما سيظهر في اقتراحات قادمة للرئيس الفرنسي على دول الاتحاد الأوروبي.
وإذا كان المسلمون في فرنسا هم أكبر خاسر في ما وقع، حسب اعتراف الرئيس الفرنسي، في خطاب ألقاه في معهد العالم العربي، فإنهم لم يعودوا يملكون إلا الصمت والصبر وتجاهل مختلف الاستفزازات، وتحمل كل الاعتداءات العنصرية والإسلاموفوبيا، التي تسببت، لحد الآن في أكثر من ستين اعتداء على مساجد وقتل فرنسي مسلم.
والغريب أن صحيفة "لو موند" الرصينة انتظرت أكثر من أسبوع من وقوع الاعتداء حتى تلتفت إلى المسلمين في فرنسا الذين أهينوا من رسومات الصحيفة. فكتبت عن "فرنسا التي لا تعتبر نفسها شارلي". ذكرت فيه أن كثيراً من الفرنسيين الذين تظاهروا مؤخراً لا يؤيدون شعار "أنا شارلي". والتفتت الصحيفة إلى الكثير من الطلبة والتلاميذ الذين يرفضون الإجماع السائد. وكتبت الصحيفة أن الأحياء التي لم تتظاهر يوم الأحد الماضي تعبر عن عدم تفهمها لنشر صور النبي.
وأخيرا تكتشف لوموند أن "الإجماع" لم يكن حقيقياً. وتقرر بمبادرة ملفتة نشر مقالات كتّاب ليسوا "شارلي"، من بينهم روني برومان وأحمد جاب الله وألن غريش وميشيل سيبوني...
حين ينحسر الانفعال ستبدأ الأسئلة الحقيقية.
من هم المهاجرون؟
"هذا ليس الوجه الحقيقي للإسلام" تخبرنا الصحف بشبه إجماع. كلها أيضاً نشرت بشكل شبه يومي الأسبوع الماضي مقالات عن أحمد المرابط، الشرطي المسلم الذي قتل في الاعتداء على الصحيفة. صحيفة "ليبراسيون" اختارت مقالة عاطفية لوصف جنازة أحمد. "نعشه الملفوف بالعلم الفرنسي"، تكرر الصحيفة أكثر من مرة. كذلك فعلت "لو موند" التي تحدّثت عن بطولة أحمد وعن حملة je suis ahmed "أنا أحمد" التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي...
لكن مع انتهاء اللحظات العاطفية، انتقلت الصحف في اليومين الماضيين إلى مناقشة الملفات الشائكة: ملف الهجرة، الحدود المفروضة، الشروط، إقفال باب الهجرة، تعليم الفرنسيين من أصول عربية... كل الملفات التي بقيت لسنوات مقفلة في انتظار انفجار كبير. وجاء هذا الانفجار.
لم تحسم الصحف خيارها في موضوع الهجرة. فتحت صفحاتها لكل الآراء. أعطت أعمدة ومقالات لمهاجرين مسلمين ليخبروا عن انتمائهم لفرنسا. "أكثر من أي وقت مضى يجب أن نحارب الإسلاموفوبيا" تكتب "لو موند". لكن كل المطبوعات، من "لو موند" إلى "لو فيغارو" و"لو بوان"، تعيد بحيادية تامة نشر ما قاله الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وتوجيهه سهام الانتقاد إلى المهاجرين من أصول عربية وأفريقية، من أبناء الديانة المسلمة "يجب أن نتعمّق في دراسة موضوع الهجرة". وتبعته مجموعة من التصريحات السياسية التي حملت توجيه اتهامات مباشرة للمسلمين.
كما أنها أعادت طرح أسئلة شائكة عن "السبب في شعور بعض المسلمين بعدم الانتماء لفرنسا" كما فعلت "لو فيغارو".
التضامن قبل كل شيء
لكن كل ذلك، وكل هذه الأسئلة طرحت وسط شعار واحد هو "الالتفاف حول شارلي إيبدو". فالصحافة الفرنسية كلها، من دون استثناء، أظهرت تعاطفاً مع الصحيفة الساخرة في محنتها. ليس فقط "لو موند" و"لو فيغارو" و"ليبراسيون" بل حتى صحف اليمين المتطرف واليسار المتطرف. إلى جانب الصحف والمواقع الإعلامية ذات التوجه الإنساني كـ "بوليتيس" و"ميديا بارت".
بعض هذه الصحف عبر عن موقف مبدئي من حرية التعبير والصحافة في فرنسا، وهو موقف الصحافة الكبيرة في فرنسا. بينما وجدت فيها صحف اليمين المتطرف (المقربة من "الجبهة الوطنية" ومن يقف على يمينها)، فرصة لتصفية الحساب مع المسلمين والإسلام في فرنسا، وحتى مع الطبقة السياسية الفرنسية التي تريد القبول بالإسلام كدين أوروبي، كما فعلت أنجيلا ميركل في ألمانيا.
ولا يمكن أن نغفل أن إظهار الدعم لـ "شارلي إيبدو"، بأي طريقة كانت، لفظية أو مادية، يُثمِر مادياً بشكل غير متوقع. فصحيفة "ليبراسيون" التي استضافت للمرة الثانية الطاقم الجديد لـ "شارلي إيبدو" في مقرها الباريسي، استفادت من هذا الكرم والإيثار، فنفدت مبيعاتها، بعدما كانت مهددة، هي الأخرى، بأزمة مالية، وكانت تتأهب لتسريح العشرات من صحافييها.
عودة إلى الاعتداء
في الساعات الأولى التي أعقبت الجريمة الإرهابية ضد "شارلي إيبدو"، أكد صحافيون من مختلف التوجهات السياسية والأيديولوجية على ضرورة فعل كل شيء لعودة الصحيفة إلى الوجود، وإلا "فإن الإرهاب الأعمى سيكون هو المنتصر". ولهذا أكد الرئيس فرانسوا هولاند أن "شارلي إيبدو حيّة، وستحيا".
في ظل سيادة شعار "كلنا شارلي" فوق كل الشعارات، ورفعه إلى مصاف النشيد الفرنسي، وتنظيم مظاهرات ضخمة في باريس وغيرها تصدح به، كان كل شيء قد حُسِمَ. ومن هنا جاء العدد الجديد للصحيفة، بإشراف طاقمها الجديد، وما تبقى من الإدارة السابقة، وقد حُسم موضوع نجاحه. ظهر عضوان من الإدارة الجديدة وهما يُشهران، أمام وسائل الإعلام، بالغلاف الجديد للعدد. وقد كانت الماكينة الإعلامية كلها مستعدة لتسويق العدد.
لم يكن الأمر قابلاً للتصديق. الأكشاك غاصة بقراء لم يَرَهُم البائعون من قبل، أبداً. كلهم يريدون شراء "شارلي إيبدو". لا يمكن للمرء أن يضع على قميصه شارة "أنا شارلي"، ولا يشتري، أو يحاول شراء الصحيفة. تجاوزت المبيعات خمسة ملايين، والجمهور يطلب المزيد، وفي ظل هذه الدينامية الرائجة صعدت مبيعات كل صحيفة تولي للموضوع أهمية، "ليبراسيون"، "لو كانار أنشينيه"، "لو فيغارو" وغيرها...
في انتظار انتهاء الهستيريا
إذاً عادت "شارلي إيبدو" للصدور وتحوّل شعار "أنا شارلي" إلى شعار الجمهورية الفرنسية، وقد رفع في كل مكان، حتى على واجهة معهد العالم العربي في باريس وفي المدارس والثانويات (وقد تسبب في احتقانات كثيرة، عددت وزيرة التربية الوطنية أكثر من 200 حدث). ولم يكن ممكناً رؤية "الوحدة الوطنية" في فرنسا من دون تنازلات الحكومة لليمين الساركوزي. ولم يعد اليمين الفرنسي يحتكر شؤون الأمن والهجرة، فاليسار الحاكم أصبح أكثر تقبلاً للتشدد، وهو ما سيظهر في اقتراحات قادمة للرئيس الفرنسي على دول الاتحاد الأوروبي.
وإذا كان المسلمون في فرنسا هم أكبر خاسر في ما وقع، حسب اعتراف الرئيس الفرنسي، في خطاب ألقاه في معهد العالم العربي، فإنهم لم يعودوا يملكون إلا الصمت والصبر وتجاهل مختلف الاستفزازات، وتحمل كل الاعتداءات العنصرية والإسلاموفوبيا، التي تسببت، لحد الآن في أكثر من ستين اعتداء على مساجد وقتل فرنسي مسلم.
والغريب أن صحيفة "لو موند" الرصينة انتظرت أكثر من أسبوع من وقوع الاعتداء حتى تلتفت إلى المسلمين في فرنسا الذين أهينوا من رسومات الصحيفة. فكتبت عن "فرنسا التي لا تعتبر نفسها شارلي". ذكرت فيه أن كثيراً من الفرنسيين الذين تظاهروا مؤخراً لا يؤيدون شعار "أنا شارلي". والتفتت الصحيفة إلى الكثير من الطلبة والتلاميذ الذين يرفضون الإجماع السائد. وكتبت الصحيفة أن الأحياء التي لم تتظاهر يوم الأحد الماضي تعبر عن عدم تفهمها لنشر صور النبي.
وأخيرا تكتشف لوموند أن "الإجماع" لم يكن حقيقياً. وتقرر بمبادرة ملفتة نشر مقالات كتّاب ليسوا "شارلي"، من بينهم روني برومان وأحمد جاب الله وألن غريش وميشيل سيبوني...
حين ينحسر الانفعال ستبدأ الأسئلة الحقيقية.