28 أكتوبر 2024
ما بعد دير الزور
بغضّ النظر عن الهجوم المضاد الذي شنّه تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة البوكمال في شرق سورية، وبغض النظر عن المدة لانتهاء المعارك في دير الزور، تعتبر المحافظة ساقطةً بالمعنى العسكري بين المحورين، الروسي والأميركي. وإذا ما كانت محاربة التنظيم في المحافظة اعتبرت نموذجاً للتنسيق العسكري بين المحورين، فإن مرحلة ما بعد دير الزور ستكون مجهولة، فربما تكون بداية لصراع عسكري آخر، وبداية لاضطراب التحالفات المحلية - الإقليمية - الدولية القائمة حالياً بفعل الضرورة المصلحية لمجمل الأطراف، أو ربما تكون بداية لستاتيكو عسكري شبه مستدام. وفيما تبدو محافظة إدلب ساحة خصبة للصراع المقبل، برزت محافظة الرقة لتكون ساحة أخرى للصراع المنتظر بين الفرقاء. وإدلب هي ساحة الصراع الأسهل، نظراً لاتفاق جميع الأطراف على التخلص من "هيئة تحرير الشام"، كونها مصنفةً ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، ليقتصر التباين في الطريقة التي ستتم بها عملية إنهاء الهيئة في المحافظة.
حتى الآن، أعطي الضوء الأخضر لتركيا لاتباع استراتيجية هادئة، قوامها سحب البساط رويداً رويداً من تحت أقدام الهيئة، مستفيدة من حالة التمزق التي بدأت تضربها منذ فترة، للوصول
إلى مرحلة محاصرة القوة الراديكالية في الهيئة، وتحييدهم عن المشهد العسكري. وللمقاربة التركية عدة أهداف، أهمها أن أنقرة لا تريد القضاء عسكرياً على الهيئة، وخسارة قوة كبيرة بهذا الحجم، وإنما تريد إحداث تمرد هادئ، وتطويع هذه القوة بما ينسجم مع المرحلة الحالية التي تمر بها الأزمة السورية. لكن إذا ما فشل المخطط التركي، فإن العمل العسكري أمر لا مفر منه، وقد أعلنها صراحة وزير الدفاع التركي، نور الدين جانيكلي، "هدف تركيا في محافظة إدلب هو إحلال السلام والاستقرار فيها، وأن أنقرة تلجأ إلى كل الوسائل، قبل الخيار العسكري، لتحقيق هذا الهدف".
بيد أن التفاهم التركي – الروسي قد يصطدم برفض النظام السوري له، خشية تحول تركيا إلى قوة ضاربة في الشمال الغربي من سورية، إلا أن العقبة الرئيسية التي تعترض دمشق تكمن في أن هجوماً عسكرياً على إدلب سيكون ذا تكلفة عسكرية كبيرة، وسينعكس سلباً على خططها المستقبلية في تحجيم الدور الكردي. ولذلك يبدو أن النظام سيترك مصير إدلب للروس القادرين على ضبط الإيقاع العسكري التركي وحدوده، من أجل التفرّغ للحضور الكردي الذي بدأ منذ أشهر يأخذ أبعاداً استراتيجية في الداخل السوري.
المشكلة التي يواجهها النظام مع "الاتحاد الديمقراطي" و"قوات سورية الديمقراطية" ذات شقين: أنه لا يستطيع شن هجوم عسكري ضد هذه القوات من دون غطاء روسي، لا يمكن توفيره من دون التفاهم مع الولايات المتحدة. وأنه لا يستطيع ترك الأمور على ما هي عليه، ورؤية الأكراد يعزّزون وجودهم العسكري والسياسي والإداري والديمغرافي في الشمال السوري. ولذلك لجأ المحور الروسي إلى الدبلوماسية الناعمة، من خلال حوارات سرية تجريها شخصيات روسية وسورية مع الأكراد. لكن هذه الحوارات ترافقت بلهجةٍ لا تخلو من تهديد، كتصريحات مسؤولي النظام، ثم تصريح علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، بإعلانه أن قوات النظام السوري ستتقدم قريباً لانتزاع مدينة الرقة من "قوات سورية الديمقراطية"، ثم الموقف الروسي الذي جاء من بوابة حميميم التي أعلنت أن الحل العسكري هو الخيار الوحيد للتعامل مع المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد. ومجمل هذه التصريحات هي استعراض للقوة، ورسالة للأكراد وداعميهم الأميركيين بضرورة التوصل إلى تفاهم يرضي الطرفين.
وفي الحقيقة، تعول دمشق وموسكو على تمديد الاستراتيجية الأميركية المتبعة مع المعارضة،
لتشمل الأكراد أيضاً، بمعنى أن الولايات المتحدة منعت فصائل المعارضة من مقاتلة النظام، وهي يمكن أن تفعل ذلك بين النظام و"قوات سورية الديمقراطية"، إذا ما شعرت أن ثمّة معركة قد تنطلق، خصوصاً أن الأكراد والولايات المتحدة يعون أن المحور الروسي هو الأقوى على الأرض، وقادر على خنق القوات الكردية، وإجراء حصار اقتصادي على مناطق الهيمنة الكردية، في ظل عداوة لدودة مع تركيا من الشمال والشمال الغربي، وخلاف حاد مع كردستان العراق في الشمال الشرقي، وهيمنة كاملة للنظام في الجنوب، من الحدود العراقية شرقاً إلى حماة غرباً. وبطبيعة الحال، يعمل المحور الروسي على استثمار الخيانة الأميركية لكردستان العراق التي قد تتكرّر بكل سهولة مع أكراد سورية.
في ضوء ذلك كله، لا يبدو أن مرحلة ما بعد دير الزور مقبلةٌ على تصعيد عسكري، على الأقل في المدى المنظور، ولم تكن مصادفة أن يغيب ملف إدلب والملف الكردي من البيان المشترك للرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في حين تم تمديد العمل بمبدأ "منع الصدام" بين القوات الأميركية والقوات الروسية وحلفائهما، ليس فقط في دير الزور، وإنما في كامل الجغرافيا السورية.
حتى الآن، أعطي الضوء الأخضر لتركيا لاتباع استراتيجية هادئة، قوامها سحب البساط رويداً رويداً من تحت أقدام الهيئة، مستفيدة من حالة التمزق التي بدأت تضربها منذ فترة، للوصول
بيد أن التفاهم التركي – الروسي قد يصطدم برفض النظام السوري له، خشية تحول تركيا إلى قوة ضاربة في الشمال الغربي من سورية، إلا أن العقبة الرئيسية التي تعترض دمشق تكمن في أن هجوماً عسكرياً على إدلب سيكون ذا تكلفة عسكرية كبيرة، وسينعكس سلباً على خططها المستقبلية في تحجيم الدور الكردي. ولذلك يبدو أن النظام سيترك مصير إدلب للروس القادرين على ضبط الإيقاع العسكري التركي وحدوده، من أجل التفرّغ للحضور الكردي الذي بدأ منذ أشهر يأخذ أبعاداً استراتيجية في الداخل السوري.
المشكلة التي يواجهها النظام مع "الاتحاد الديمقراطي" و"قوات سورية الديمقراطية" ذات شقين: أنه لا يستطيع شن هجوم عسكري ضد هذه القوات من دون غطاء روسي، لا يمكن توفيره من دون التفاهم مع الولايات المتحدة. وأنه لا يستطيع ترك الأمور على ما هي عليه، ورؤية الأكراد يعزّزون وجودهم العسكري والسياسي والإداري والديمغرافي في الشمال السوري. ولذلك لجأ المحور الروسي إلى الدبلوماسية الناعمة، من خلال حوارات سرية تجريها شخصيات روسية وسورية مع الأكراد. لكن هذه الحوارات ترافقت بلهجةٍ لا تخلو من تهديد، كتصريحات مسؤولي النظام، ثم تصريح علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، بإعلانه أن قوات النظام السوري ستتقدم قريباً لانتزاع مدينة الرقة من "قوات سورية الديمقراطية"، ثم الموقف الروسي الذي جاء من بوابة حميميم التي أعلنت أن الحل العسكري هو الخيار الوحيد للتعامل مع المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد. ومجمل هذه التصريحات هي استعراض للقوة، ورسالة للأكراد وداعميهم الأميركيين بضرورة التوصل إلى تفاهم يرضي الطرفين.
وفي الحقيقة، تعول دمشق وموسكو على تمديد الاستراتيجية الأميركية المتبعة مع المعارضة،
في ضوء ذلك كله، لا يبدو أن مرحلة ما بعد دير الزور مقبلةٌ على تصعيد عسكري، على الأقل في المدى المنظور، ولم تكن مصادفة أن يغيب ملف إدلب والملف الكردي من البيان المشترك للرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في حين تم تمديد العمل بمبدأ "منع الصدام" بين القوات الأميركية والقوات الروسية وحلفائهما، ليس فقط في دير الزور، وإنما في كامل الجغرافيا السورية.