23 أكتوبر 2024
ما وراء اللغة
ما تزال مسألة استعمال اللغات الأجنبية في التخاطب بين قطاعاتٍ من الناس في بلادنا العربية، عوضاً عن اللغة العربية، تثير الأسئلة، فهي لم تعد تقتصر على اللغة التي ورثها جيل سابق من مرحلة الاستعمار، بخاصة في بلدان المغرب العربي الذي خضع للاستعمار الفرنسي، بتجلياته الثقافية أيضاً، ولا اللغة يعبّر بها "الشباب"، اليوم، عن ذواتهم ومشاعرهم وأفكارهم، ولا على تلك المستعملة في لوحات المحال التجارية وأسمائها، والتخاطب داخلها بين الزبائن والعاملين في الخدمة؛ بل إن استعمال عبارات وكلمات من الإنكليزية والفرنسية بات بمثابة "أداة تقييم"، أي مقياساً لمدى "كفاءة" (!) الفرد للعمل، وللحضور الاجتماعي، حتى لو لم يكن يتقن التعبير فعلياً باللغتين الإنكليزية والفرنسية. ولعل لدى كل واحدٍ في عالمنا العربي المولع بتقليد الغالب، وفق ما قاله ابن خلدون في مقدمته، أمثلةً كثيرة عن أشخاصٍ لا يفقهون شيئاً، ولا يجيدون أمراً، سوى تلبيس "العربية" تعبيراتٍ إنكليزية وفرنسية، وقد حققوا نجاحات وظيفية، وحجزوا مواقع لا يستحقونها، لمجرد قدرتهم على "الإبهار"، وتوفر من لديهم استعداد لـ"الانبهار".
ثمّة بين "المثقفين" من لا يجد في الأمر مشكلة. يقولون: المسألة الأساسية أن يكون كل شخص قادراً على التعبير عن ذاته وأفكاره، وليس مهماً اللغة التي يستعملها. طيب، ما دام الأمر "حقاً في التعبير"، فلماذا تحوّل استعمال الإنكليزية والفرنسية في بلداننا العربية أداةً تقييم للبشر؟ أليس معنى أن يرتبط استعمال اللغة بالحق في التعبير أن كل اللغات سواء؟ أليس معناها أن "العربية" مثل "الإنكليزية" و"الفرنسية"؟ لماذا، إذن، يكون استخدام اللغات الأجنبية دليلاً على التميّز والكفاءة، ويكون إتقان "العربية"، بقواعدها وصرفها، دليلاً على التأخر والرجعية (بالنسبة لهؤلاء المنبهرين طبعاً!)؟
لكن اللغات ليست سواء، في حقيقة الأمر، وإلا لاستعمل الأميركيون لغاتٍ أخرى إلى جانب الإنكليزية، في تخاطبهم فيما بينهم، لكنهم لا يفعلون، بل إنهم يستهزئون باللغات الأخرى، بما فيها الفرنسية والإسبانية، ويعتبرون من لا يتحدّث الإنكليزية "غير موجود" على خريطة العالم. وذلك انعكاس طبيعي لسيادتهم على الأمم الأخرى، الأمر الذي يتكرّر في التاريخ مع كل أمةٍ تسود، كما هو معلوم.
علينا التفريق بين ضرورة أن نتقن، نحن العرب، اللغتين، الإنكليزية والفرنسية، باعتبارهما من لغات للتواصل مع العالم من جهة، وضرورة أن لا نستلب لهما ولأصحابهما من جهة ثانية. قليلون جداً هم الذين يفرّقون، وكثيرون الذين لا يفرّقون، وهذا أحد تجليات أننا أمةٌ تفتقر إلى برنامج عمل للنهوض، همّه الانتقال من التخلف إلى التقدم.
لا يمكن أن يكون النهوض إلا أن يكون قومياً. ليس، بالضرورة، بالمعنى التقليدي للقومية الذي جرى اختطافه في العقود الماضية من قوى أيديولوجية، أورثتنا تأخراً وتشتتاً واحتلالاً، بل على الأقل بمعنى "التوافق القومي" أو "التنسيق القومي". هنا، تكمن رمزية اللغة، باعتبارها الجامع المشترك الأكبر بين العرب. لكن للغة أدواراً أخرى سوى مجرد "الرمزية". يمكن أن نستذكر هنا، على سبيل المثال، الدعوة المستمرة إلى تعريب التعليم، وهي دعوة يبرّرها أصحابها بأن قدرة الطالب على الاستيعاب بلغته الأم تفوق قدرته على الاستيعاب باللغات الأخرى، مهما كانت درجة إتقانه لها. إنها، إذن، مسألةٌ تتعلق بإتقان العمل، والإبداع فيه؛ وتتجاوز قشور السلوك الاجتماعي ومظاهره، لتمسّ آفاق المستقبل ومشاريعه النهضوية، إن وجدت.
ليست اللغة سياقاً مجرداً ومعزولاً. إنها بالتأكيد مؤشرٌ على ما في العقول من أفكار وقيم. لذا، يكون طبيعياً أن يتولد رابط بين ماهية لباس المرء وسلوكه وماهية لغته. فإذا كان من حق أي شخصٍ أن يعبر عن ذاته باللغة التي يريدها، أي يجدها أقرب إلى نفسه، فإن من المنطقي اعتبار الرأي الذي يُقال بالعربية، في عالمنا العربي، أكثر وجاهةً ومدعاة للاحترام، من ذاك الذي يُقال بالإنكليزية والفرنسية؛ لأنه يصدر بالتأكيد عن ارتباط أكبر بـ"الأمة".
ثمّة بين "المثقفين" من لا يجد في الأمر مشكلة. يقولون: المسألة الأساسية أن يكون كل شخص قادراً على التعبير عن ذاته وأفكاره، وليس مهماً اللغة التي يستعملها. طيب، ما دام الأمر "حقاً في التعبير"، فلماذا تحوّل استعمال الإنكليزية والفرنسية في بلداننا العربية أداةً تقييم للبشر؟ أليس معنى أن يرتبط استعمال اللغة بالحق في التعبير أن كل اللغات سواء؟ أليس معناها أن "العربية" مثل "الإنكليزية" و"الفرنسية"؟ لماذا، إذن، يكون استخدام اللغات الأجنبية دليلاً على التميّز والكفاءة، ويكون إتقان "العربية"، بقواعدها وصرفها، دليلاً على التأخر والرجعية (بالنسبة لهؤلاء المنبهرين طبعاً!)؟
لكن اللغات ليست سواء، في حقيقة الأمر، وإلا لاستعمل الأميركيون لغاتٍ أخرى إلى جانب الإنكليزية، في تخاطبهم فيما بينهم، لكنهم لا يفعلون، بل إنهم يستهزئون باللغات الأخرى، بما فيها الفرنسية والإسبانية، ويعتبرون من لا يتحدّث الإنكليزية "غير موجود" على خريطة العالم. وذلك انعكاس طبيعي لسيادتهم على الأمم الأخرى، الأمر الذي يتكرّر في التاريخ مع كل أمةٍ تسود، كما هو معلوم.
علينا التفريق بين ضرورة أن نتقن، نحن العرب، اللغتين، الإنكليزية والفرنسية، باعتبارهما من لغات للتواصل مع العالم من جهة، وضرورة أن لا نستلب لهما ولأصحابهما من جهة ثانية. قليلون جداً هم الذين يفرّقون، وكثيرون الذين لا يفرّقون، وهذا أحد تجليات أننا أمةٌ تفتقر إلى برنامج عمل للنهوض، همّه الانتقال من التخلف إلى التقدم.
لا يمكن أن يكون النهوض إلا أن يكون قومياً. ليس، بالضرورة، بالمعنى التقليدي للقومية الذي جرى اختطافه في العقود الماضية من قوى أيديولوجية، أورثتنا تأخراً وتشتتاً واحتلالاً، بل على الأقل بمعنى "التوافق القومي" أو "التنسيق القومي". هنا، تكمن رمزية اللغة، باعتبارها الجامع المشترك الأكبر بين العرب. لكن للغة أدواراً أخرى سوى مجرد "الرمزية". يمكن أن نستذكر هنا، على سبيل المثال، الدعوة المستمرة إلى تعريب التعليم، وهي دعوة يبرّرها أصحابها بأن قدرة الطالب على الاستيعاب بلغته الأم تفوق قدرته على الاستيعاب باللغات الأخرى، مهما كانت درجة إتقانه لها. إنها، إذن، مسألةٌ تتعلق بإتقان العمل، والإبداع فيه؛ وتتجاوز قشور السلوك الاجتماعي ومظاهره، لتمسّ آفاق المستقبل ومشاريعه النهضوية، إن وجدت.
ليست اللغة سياقاً مجرداً ومعزولاً. إنها بالتأكيد مؤشرٌ على ما في العقول من أفكار وقيم. لذا، يكون طبيعياً أن يتولد رابط بين ماهية لباس المرء وسلوكه وماهية لغته. فإذا كان من حق أي شخصٍ أن يعبر عن ذاته باللغة التي يريدها، أي يجدها أقرب إلى نفسه، فإن من المنطقي اعتبار الرأي الذي يُقال بالعربية، في عالمنا العربي، أكثر وجاهةً ومدعاة للاحترام، من ذاك الذي يُقال بالإنكليزية والفرنسية؛ لأنه يصدر بالتأكيد عن ارتباط أكبر بـ"الأمة".