04 أكتوبر 2024
ما يتم تجاهله عمداً
يحتفل بعضهم، في هذه الأيام، بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وانسحابه (أو طرده) من مناطق كانت تحت سيطرته، سواء على يد جيش بشار المدعوم إيرانياً وحزب الله وروسيا، أو على يد قوات إيرانية، أو على يد قوات سورية الديمقراطية والأكراد المدعومين أميركياً. وبالتزامن مع تلك الهزائم المتكررة لـ "داعش" في مناطق عديدة، تتحدث تقارير إعلامية عن الهبوط في شعبيته في الأوساط الجهادية، وتقارير أخرى ترصد التعليمات المشدّدة الأمنية داخل التنظيم لعناصر قيادته، بعدم نشر أي صور على الإنترنت، تتسبب في تعقب مواقع مهمة، أو قصف أميركي لها، ويتزامن ذلك أيضاً مع ملاحظة انكماش أو انحسار نسبي لنشاط "داعش" في التجنيد عبر الإنترنت.
ولكن، هل ذلك هو نهاية المطاف، وهل حان وقت الاحتفال الكبير بانتهاء أسطورة "داعش" المخيفة؟ وهل سيكون العالم أكثر أماناً بعد هزيمة "داعش" وتشتت قواته، وتفكك ما كان يطلق عليها دولة الخلافة؟ بالتأكيد لا، فليس "داعش" مجرد تنظيم مسلح دموي، كان يرتكب مذابح بشعة ضد خصومه، وليس فقط محاولة لإقامة ما يطلق عليها دولة الخلافة. إنها فكرة لديها عشرات الآلاف، من المؤيدين في العالم ويزدادون. إنها الحلم والخلاص لدى كثيرين يعانون من الظلم والفساد في مجتمعاتهم العربية، أو ممن يعانون من التهميش والاضطهاد والعنصرية والمعاملة في مجتمعاتهم الغربية. قد تكون هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية ممكنة، لكن ذلك لن يمنع إعادة تدوير النظرية وإنتاجها تحت اسم جديد أو تنظيم جديد، بحلم دولة الخلافة وتوحيد المسلمين تحت راية واحدة، هو حلم عشرات التنظيمات والحركات الأخرى غير "داعش". تختلف تلك التنظيمات والحركات بشأن درجة العنف والمسموح به منه، ابتداء من جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الإسلامية ثم الجهاد الإسلامي ثم القاعدة وأخيراً داعش.
تزداد أوروبا هلعاً وحرصاً مع أخبار هزائم "داعش"، فهنا، الخوف من تشتت "داعش"
وتفرقها في البلدان، وهناك الخوف الأكبر من عودة المقاتلين الأوروبيين إلى بلدانهم، وقيامهم بعمليات انتقامية جديدة، والخوف من ظواهر الذئاب المنفردة، وعمليات الدهس والطعن العشوائي في الداخل الأوروبي. بالإضافة إلى تقارير عديدة عن انتقال المقاتلين إلى الشمال الإفريقي، أو التقارير الأخرى التي ترصد عودة صعود نجم تنظيم القاعدة على حساب هزائم "داعش" المتتالية، وفقدانه بريقه وجاذبيته لدى قطاعات عديدة من الشباب المهمّش في العالم، فقد كانت الدولة الإسلامية التي أقامها أبو بكر البغدادي تمثل حلماً لدولة المساواة والعدل، حتى وإن اقترن ذلك بقطع الرؤوس وسبي النساء وقتل المخالف لأبسط الأسباب.
قد تتفكّك الدولة التي أقامها أبو بكر البغدادي سريعاً، مثلما ظهرت سريعاً، بعد انهيار الحكومات وانتشار الفراغ في بعض المناطق، وقد تتشرذم المجموعات، وتنتقل إلى عدة دول، وتعيد الكَرّة. ولكن ستبقى الفكرة، ولن يستطيع الحل العسكري أن يمحوها، لا التحالف الروسي الإيراني، ولا التحالف الأميركي الخليجي الكردي. ولعلنا نتذكر أن تنظيم القاعدة لم يختفِ من الوجود، على الرغم من دكّ جبال أفغانستان بآلاف الأطنان من الصواريخ، ولم تنجح كل الحروب الأميركية والدولية في محوه من الوجود. وعندما تم تضييق الخناق عليه، انتقل إلى مناطق أخرى، فقد انتقل من أفغانستان إلى جبال باكستان، ومن السعودية إلى اليمن، ثم إلى الصومال وشمال إفريقيا ووسطها. بالتأكيد كان ظهور "داعش" يخصم من رصيد القاعدة الذي فقد بريقه، بعد مقتل أسامة بن لادن، وكانت وحشية "داعش" ودمويته أكثر جذباً للجهاديين من خطابات (وتنظيرات) أيمن الظواهري الذي كان يفتقر لكاريزما بن لادن. ولكن يبدو الآن أن الوضع ينعكس ويصب في مصلحة القاعدة مرة أخرى، بعد هزائم دولة الخلافة المزعومة.
ولكن، أين الأجهزة الأمنية المصرية من ذلك، وكيف يكون الاستعداد لعودة المجاهدين وإمكانية تسللهم، وهل هناك استعداد لدى الحكومة المصرية وأجهزتها، كما نسمع عن استعدادات الحكومات الغربية؟
كنت قديماً أعتقد أن السلطات والأجهزة الأمنية المصرية تتعمّد الكذب وخلط الحقائق، عندما أجد مسؤولاً أمنياً يظهر في الإعلام، ويصر بشكل غريب على أن "داعش" صناعة غربية، أو أن الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا لا تتعرض لعمليات إرهابية من "داعش"، كما يدعون، وإنما هي مسرحيات مصطنعة متفق عليها مسبقاً بين الغرب و"داعش"، أو أن مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم، وأن إنقاذ العالم من الإرهاب يتطلب القضاء على الإخوان المسلمين في مصر، فدعونا نبيدهم في صمت، ولا تتحدثوا عن حقوق الإنسان. هكذا يكرّرون دوماً، في وسائل الإعلام المصرية، في أثناء شرحهم خرافات نظريات المؤامرة المزعومة. ولكن كانت الفاجعة الكبرى التي اكتشفتها في أثناء وجودي في السجن، وهي أن هناك قيادات أمنية كبيرة يصدقون تلك القصص التي اخترعوها، أو اخترعتها قيادات أخرى من قبل، ويا ليتهم كانوا يكذبون، فمن المفجع حقاً أن هناك قيادات مسؤولة عن الأمن في مصر يصدّقون داخلهم تلك القصص الوهمية التي يسوقونها إلى الشعب لتبرير القمع والاستبداد، كالذي يكذّب الكذبة ويصدقها.
فمن المضحك والمفجع والمحزن أن تستمع إلى قيادة أمنية كبرى يحاول إقناعك بأن المعارك
بين "داعش" والتحالف الغربي مجرد مسرحيات، أو ينكر الدور المصري السعودي الأميركي في نقل المجاهدين إلى أفغانستان في السبعينيات، أو ينكر الدور الإماراتي السعودي الحالي في دعم تنظيماتٍ لا تقل دموية ووحشية عن "داعش". ومن المخزي أن تستمع لقيادة أمنية كبرى يردد كالببغاء، وبمنتهى السطحية، قصة الصناعة الغربية لتنظيم داعش، ولا يعلم شيئاً عن دور قيادات حزب البعث العراقي في تكوين داعش، أو دور قيادات سابقة في جيش صدام حسين في تقوية هذا التنظيم وإمداده بالسلاح، أو دور العشائر السنية كذلك في دعمه بالمال والسلاح في بداية انتشاره، أو دور رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي تسبب ولاؤه وخضوعه وخنوعه لإيران وأوامرها، وتسببت طائفيته الواضحة في انضمام كثيرين من أبناء العشائر السنية لصفوف "داعش"، أو امتداد "داعش" إلى القاعدة، وارتباط أبي بكر البغدادي بأبي مصعب الزرقاوي، أو الخلاف بين "داعش" والقاعدة، أو الاختلاف بين التنظيمات الجهادية والإخوان المسلمين، أو عن بدايات تنظيم بيت المقدس أو ولاية سيناء، أو الإجراءات الأمنية والتعامل الحكومي الأحمق مع أهالي سيناء، ما يوفر دعماً وتعاطفاً للتنظيمات المتطرّفة داخل سيناء.
مؤسف حقاً أن تجد القيادات المسؤولة عن الأمن في مصر ينكرون الحقائق والمعلومات عن العوامل التي تسهّل مهمة تجنيد عناصر جديدة في "داعش" وغيرها، مثل بعض الإجراءات العنصرية في الدول الغربية، أو القمع والاستبداد والتعذيب في الدول العربية، أو كثرة المظالم، أو ازدياد وتيرة التطرّف وسهولة التجنيد في السجون المصرية، بعدما يحدث بها من أهوال يندى لها الجبين. ومن المحزن أن تسمع قيادة أمنية، وهو يشرح بحماس وصدق أن حل مشكلات مصر من إرهاب وفقر وتخلف يكون بالحل الأمني فقط، وعن طريق القضاء التام على أفراد جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك القضاء على كل فكر معارض أو مختلف مع السلطة، أو يتجاهل تغلغل الفكر المتطرّف في المجتمع المصري نتيجة عدة عوامل، منها تفضيل الحل الأمني وتجاهل الدراسات والأبحاث المجتمعية، أو زيادة الجنوح إلى العنف السياسي، بسبب إغلاق المجال العام والسياسي.
ففي وقت هناك عشرات الكتابات والأبحاث خارج مصر تتحدث عما بعد "داعش"، وكيفية الاستعداد له، تجد أجهزتنا الأمنية والإعلامية والقيادات السياسية والعسكرية مشغولة بصناعة الكذب، ثم تصديقه، فتفسيرات المؤامرة أسهل بكثير من الاعتراف بالحقيقة وتحليل الظواهر والبحث عن حلول. وصناعة الكذب أسهل بكثير من فتح المجال العام، أو وقف الانتهاكات، أو مكافحة الفساد وتطبيق العدالة والشفافية والحكم الرشيد.
ولكن، هل ذلك هو نهاية المطاف، وهل حان وقت الاحتفال الكبير بانتهاء أسطورة "داعش" المخيفة؟ وهل سيكون العالم أكثر أماناً بعد هزيمة "داعش" وتشتت قواته، وتفكك ما كان يطلق عليها دولة الخلافة؟ بالتأكيد لا، فليس "داعش" مجرد تنظيم مسلح دموي، كان يرتكب مذابح بشعة ضد خصومه، وليس فقط محاولة لإقامة ما يطلق عليها دولة الخلافة. إنها فكرة لديها عشرات الآلاف، من المؤيدين في العالم ويزدادون. إنها الحلم والخلاص لدى كثيرين يعانون من الظلم والفساد في مجتمعاتهم العربية، أو ممن يعانون من التهميش والاضطهاد والعنصرية والمعاملة في مجتمعاتهم الغربية. قد تكون هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية ممكنة، لكن ذلك لن يمنع إعادة تدوير النظرية وإنتاجها تحت اسم جديد أو تنظيم جديد، بحلم دولة الخلافة وتوحيد المسلمين تحت راية واحدة، هو حلم عشرات التنظيمات والحركات الأخرى غير "داعش". تختلف تلك التنظيمات والحركات بشأن درجة العنف والمسموح به منه، ابتداء من جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الإسلامية ثم الجهاد الإسلامي ثم القاعدة وأخيراً داعش.
تزداد أوروبا هلعاً وحرصاً مع أخبار هزائم "داعش"، فهنا، الخوف من تشتت "داعش"
قد تتفكّك الدولة التي أقامها أبو بكر البغدادي سريعاً، مثلما ظهرت سريعاً، بعد انهيار الحكومات وانتشار الفراغ في بعض المناطق، وقد تتشرذم المجموعات، وتنتقل إلى عدة دول، وتعيد الكَرّة. ولكن ستبقى الفكرة، ولن يستطيع الحل العسكري أن يمحوها، لا التحالف الروسي الإيراني، ولا التحالف الأميركي الخليجي الكردي. ولعلنا نتذكر أن تنظيم القاعدة لم يختفِ من الوجود، على الرغم من دكّ جبال أفغانستان بآلاف الأطنان من الصواريخ، ولم تنجح كل الحروب الأميركية والدولية في محوه من الوجود. وعندما تم تضييق الخناق عليه، انتقل إلى مناطق أخرى، فقد انتقل من أفغانستان إلى جبال باكستان، ومن السعودية إلى اليمن، ثم إلى الصومال وشمال إفريقيا ووسطها. بالتأكيد كان ظهور "داعش" يخصم من رصيد القاعدة الذي فقد بريقه، بعد مقتل أسامة بن لادن، وكانت وحشية "داعش" ودمويته أكثر جذباً للجهاديين من خطابات (وتنظيرات) أيمن الظواهري الذي كان يفتقر لكاريزما بن لادن. ولكن يبدو الآن أن الوضع ينعكس ويصب في مصلحة القاعدة مرة أخرى، بعد هزائم دولة الخلافة المزعومة.
ولكن، أين الأجهزة الأمنية المصرية من ذلك، وكيف يكون الاستعداد لعودة المجاهدين وإمكانية تسللهم، وهل هناك استعداد لدى الحكومة المصرية وأجهزتها، كما نسمع عن استعدادات الحكومات الغربية؟
كنت قديماً أعتقد أن السلطات والأجهزة الأمنية المصرية تتعمّد الكذب وخلط الحقائق، عندما أجد مسؤولاً أمنياً يظهر في الإعلام، ويصر بشكل غريب على أن "داعش" صناعة غربية، أو أن الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا لا تتعرض لعمليات إرهابية من "داعش"، كما يدعون، وإنما هي مسرحيات مصطنعة متفق عليها مسبقاً بين الغرب و"داعش"، أو أن مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم، وأن إنقاذ العالم من الإرهاب يتطلب القضاء على الإخوان المسلمين في مصر، فدعونا نبيدهم في صمت، ولا تتحدثوا عن حقوق الإنسان. هكذا يكرّرون دوماً، في وسائل الإعلام المصرية، في أثناء شرحهم خرافات نظريات المؤامرة المزعومة. ولكن كانت الفاجعة الكبرى التي اكتشفتها في أثناء وجودي في السجن، وهي أن هناك قيادات أمنية كبيرة يصدقون تلك القصص التي اخترعوها، أو اخترعتها قيادات أخرى من قبل، ويا ليتهم كانوا يكذبون، فمن المفجع حقاً أن هناك قيادات مسؤولة عن الأمن في مصر يصدّقون داخلهم تلك القصص الوهمية التي يسوقونها إلى الشعب لتبرير القمع والاستبداد، كالذي يكذّب الكذبة ويصدقها.
فمن المضحك والمفجع والمحزن أن تستمع إلى قيادة أمنية كبرى يحاول إقناعك بأن المعارك
مؤسف حقاً أن تجد القيادات المسؤولة عن الأمن في مصر ينكرون الحقائق والمعلومات عن العوامل التي تسهّل مهمة تجنيد عناصر جديدة في "داعش" وغيرها، مثل بعض الإجراءات العنصرية في الدول الغربية، أو القمع والاستبداد والتعذيب في الدول العربية، أو كثرة المظالم، أو ازدياد وتيرة التطرّف وسهولة التجنيد في السجون المصرية، بعدما يحدث بها من أهوال يندى لها الجبين. ومن المحزن أن تسمع قيادة أمنية، وهو يشرح بحماس وصدق أن حل مشكلات مصر من إرهاب وفقر وتخلف يكون بالحل الأمني فقط، وعن طريق القضاء التام على أفراد جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك القضاء على كل فكر معارض أو مختلف مع السلطة، أو يتجاهل تغلغل الفكر المتطرّف في المجتمع المصري نتيجة عدة عوامل، منها تفضيل الحل الأمني وتجاهل الدراسات والأبحاث المجتمعية، أو زيادة الجنوح إلى العنف السياسي، بسبب إغلاق المجال العام والسياسي.
ففي وقت هناك عشرات الكتابات والأبحاث خارج مصر تتحدث عما بعد "داعش"، وكيفية الاستعداد له، تجد أجهزتنا الأمنية والإعلامية والقيادات السياسية والعسكرية مشغولة بصناعة الكذب، ثم تصديقه، فتفسيرات المؤامرة أسهل بكثير من الاعتراف بالحقيقة وتحليل الظواهر والبحث عن حلول. وصناعة الكذب أسهل بكثير من فتح المجال العام، أو وقف الانتهاكات، أو مكافحة الفساد وتطبيق العدالة والشفافية والحكم الرشيد.