غدا الجدل أمرًا مطلوبًا بذاته، هكذا اكتملت عناصر برنامج المقالب "رامز واكل الجو"، الذي استضاف مؤخرًا في رحلة الهلع على الطائرة، النجمة الأميركية باريس هيلتون. النجمة التي على ما يبدو وقعت عقدًا مع الشركة، صرحت أنها ستقاضي الشركة المسؤولة عن البرنامج، وربما المذيع نفسه. وقالت في مكان آخر إنها لم تكن تعلم أن الأمور ستصل إلى هذا الحدّ من "الهلع". هكذا ضجّت المنابر الإعلامية على اختلاف أشكالها وأنواعها، بهذا الخبر الذي تسيّد المراتب الأولى، لا ليوم واحد فقط، بل لعدّة أيام. الأمر لا يقف عند إثارة المشاهدين باستضافة نجمة هوليودية في برنامج مقالب، بل يستمرّ عبر ملحقات أخرى؛ تصريحات النجمة، تهديدات النجمة، تصريحات النجمة ثانية، ثم "مفاجأة" أن ثمة عقدًا وقّعته وأنها عرفت مسبّقًا بالمقلب، لكأنها هي التي "واكلة الجو".
وفي انتظار ما سيسفر عنه الجدل المفتعل، سيكون لطيفًا لو فكّر المرء بما يمكن للإعلام أن يفعل، وكيف تتركّب الأمور لتعزف معًا وعلى حدة، سيمفونية إثارة المشاهد. ذلك أن المقالات الكثيرة التي "نقلت الخبر" وقامت أيضًا بـ "تحليله"، عرّج بعضها على نجاح البرنامج وعدد مواسمه، وارتفاع تكاليف إنتاجه، وبالطبع وفرة الإعلانات فيه وعرّج بعضها الآخر على مجموعة الموبقات والأفكار السيئة التي يبثّها. وسيكون من العبث ربّما توجيه نقد إلى برامج مماثلة، لأن الجواب الحاضر دائمًا: هذا ما يريده الجمهور. جوابٌ مخادعٌ مخاتلٌ، فمنذ متى والإعلام الحديث يفعل ما يريد الجمهور؟
الإعلام الحديث يصنع ويفعل ما يريد وفقًا لرؤيته، ويجيد تطويق المشاهد بعناصر لا تكفّ عن التسلسل والتناسل؛ متابعة الخبر، زيادة معلومات عليه، التركيز على عنصر وإغفال عنصر آخر، فالمهمّ لا أن يثير الجدل فحسب، بل أن يستمرّ لأطول مدّة ممكنة في "افتعال الجدل" وشدّ الناس وجذبهم إلى منطقة اختارها هو بعناية.
ومن الصحيح أن برامج مماثلة، تجد "إلهامها" لئلا نقول استنساخها من، برامج رائجة في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن المشكلة فعلًا أنها تحتل حيّزًا كبيرًا على حساب برامج أخرى. فمنذ سنوات خلت، صرح المفكّر الراحل إدوارد سعيد، أنه لم يعد يقبل بالظهور في الإعلام المرئي، نظرًا إلى أن المدّة الزمنية التي سيتيحها له المذيع كي يجيب عن الأسئلة، لن تتجاوز في أفضل الأحوال ثلاث دقائق، وهي بالطبع لن تكون كافيةً لإبداء رأي في أمر مهمّ من خلال جملتين أو أكثر بقليل، عليها فوق هذا أن تكون "مبسّطة" لأن هذا "ما يريده الجمهور".
اقرأ أيضاً: كلّ شيء قابل للتسليع؟
إلا أن الانفجار الإعلامي المتمثّل في عالم القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، أدّى إلى اختلاف المشهد اليوم، عمّا كانه منذ عقد تقريبا. ولا يتعلّق الأمر فحسب بالكمّ الذي يزداد كلّ دقيقة، بل يتعلّق أيضًا بقدرة الناس على التعلّم واستغلال المدّة المتاحة لهم في الإعلام من أجل إيصال رسالتهم. في هذا المقام سيكون مفيدًا ملاحظة كيف اختلفت المعاني عند استعمال بعض المصطلحات الاقتصادية، خاصّة تلك التي يبثّها صندوق النقد الدولي، عن التقشف مثلًا أو إعادة جدولة الديون وغيرها. ولعلّ "الأزمة الاقتصادية" التي تمرّ فيها اليونان حاليًا، ستؤدّي دورًا كبيرًا في إعطاء تلك المصطلحات معان أخرى، أدنى إلى الواقع وأقرب إلى "ما يريده الجمهور".
حيث التقشف يعني، وفقًا لبابلو إليزياس السكرتير العام لحركة Podemos الإسبانية (ويعني اسمها حرفيًا ضدّ التقشف) : "يعني أن الناس سيطردون من منازلهم. التقشف يعني أن الخدمات الاجتماعية ستتوقّف... التقشّف يعني أن البلدان ستفقد سيادتها، وتغدو مستعمرة للقوى المالية أو مستعمرة لألمانيا. التقشّف يعني على الأرجح نهاية الديمقراطية". وبقدر ما يبدو كلام هذا الأستاذ الجامعي والناشط المدني حاملًا لنبرة تحذير قوّية، يبدو تعليق المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي عليه أشدّ تحذيرًا. إذ يرى في ما يجري في اليونان "حربًا طبقية". وكان تشومسكي قد استغل الدقائق الإعلامية المتاحة له، ليقول قبل ذاك في برنامج آخر: "إن حلّ مشكلة اليونان بسيط؛ أن تشطب البنوك الألمانية ديونه". وبما أن هذا لن يحدث، إلا أن هذا الرأي وجد طريقه في الشبكة العنكبوتية، وربّما كان وراء إظهار تلك الصور بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يظهر وزير المالية اليوناني وقتذاك وهو يوقّع على إلغاء ديون ألمانيا الخارجة توًّا من نازيتها.
من الصحيح أن باريس هيلتون احتلّت حيزًا كبيرًا من الإعلام في الأيام الأخيرة، إلا أن "التراجيديا الإغريقية" لو صحّ المجاز، وجدت من يحللها ويحذّر مما سيحدث. ما الذي سيحدث؟ أو بالأحرى ما الذي حدث؟ حدث أن القوى المالية الكبرى المعولمة ظنّت أنها تملك كلّ القوّة، وأنها تحتكر الحيّز كله، وبكلام عربي ظنّت أنها "واكلة الجو"، وأن طريقتها الرأسمالية هي "ما يريده الجمهور".
وفي انتظار ما سيسفر عنه الجدل المفتعل، سيكون لطيفًا لو فكّر المرء بما يمكن للإعلام أن يفعل، وكيف تتركّب الأمور لتعزف معًا وعلى حدة، سيمفونية إثارة المشاهد. ذلك أن المقالات الكثيرة التي "نقلت الخبر" وقامت أيضًا بـ "تحليله"، عرّج بعضها على نجاح البرنامج وعدد مواسمه، وارتفاع تكاليف إنتاجه، وبالطبع وفرة الإعلانات فيه وعرّج بعضها الآخر على مجموعة الموبقات والأفكار السيئة التي يبثّها. وسيكون من العبث ربّما توجيه نقد إلى برامج مماثلة، لأن الجواب الحاضر دائمًا: هذا ما يريده الجمهور. جوابٌ مخادعٌ مخاتلٌ، فمنذ متى والإعلام الحديث يفعل ما يريد الجمهور؟
الإعلام الحديث يصنع ويفعل ما يريد وفقًا لرؤيته، ويجيد تطويق المشاهد بعناصر لا تكفّ عن التسلسل والتناسل؛ متابعة الخبر، زيادة معلومات عليه، التركيز على عنصر وإغفال عنصر آخر، فالمهمّ لا أن يثير الجدل فحسب، بل أن يستمرّ لأطول مدّة ممكنة في "افتعال الجدل" وشدّ الناس وجذبهم إلى منطقة اختارها هو بعناية.
ومن الصحيح أن برامج مماثلة، تجد "إلهامها" لئلا نقول استنساخها من، برامج رائجة في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن المشكلة فعلًا أنها تحتل حيّزًا كبيرًا على حساب برامج أخرى. فمنذ سنوات خلت، صرح المفكّر الراحل إدوارد سعيد، أنه لم يعد يقبل بالظهور في الإعلام المرئي، نظرًا إلى أن المدّة الزمنية التي سيتيحها له المذيع كي يجيب عن الأسئلة، لن تتجاوز في أفضل الأحوال ثلاث دقائق، وهي بالطبع لن تكون كافيةً لإبداء رأي في أمر مهمّ من خلال جملتين أو أكثر بقليل، عليها فوق هذا أن تكون "مبسّطة" لأن هذا "ما يريده الجمهور".
اقرأ أيضاً: كلّ شيء قابل للتسليع؟
إلا أن الانفجار الإعلامي المتمثّل في عالم القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، أدّى إلى اختلاف المشهد اليوم، عمّا كانه منذ عقد تقريبا. ولا يتعلّق الأمر فحسب بالكمّ الذي يزداد كلّ دقيقة، بل يتعلّق أيضًا بقدرة الناس على التعلّم واستغلال المدّة المتاحة لهم في الإعلام من أجل إيصال رسالتهم. في هذا المقام سيكون مفيدًا ملاحظة كيف اختلفت المعاني عند استعمال بعض المصطلحات الاقتصادية، خاصّة تلك التي يبثّها صندوق النقد الدولي، عن التقشف مثلًا أو إعادة جدولة الديون وغيرها. ولعلّ "الأزمة الاقتصادية" التي تمرّ فيها اليونان حاليًا، ستؤدّي دورًا كبيرًا في إعطاء تلك المصطلحات معان أخرى، أدنى إلى الواقع وأقرب إلى "ما يريده الجمهور".
حيث التقشف يعني، وفقًا لبابلو إليزياس السكرتير العام لحركة Podemos الإسبانية (ويعني اسمها حرفيًا ضدّ التقشف) : "يعني أن الناس سيطردون من منازلهم. التقشف يعني أن الخدمات الاجتماعية ستتوقّف... التقشّف يعني أن البلدان ستفقد سيادتها، وتغدو مستعمرة للقوى المالية أو مستعمرة لألمانيا. التقشّف يعني على الأرجح نهاية الديمقراطية". وبقدر ما يبدو كلام هذا الأستاذ الجامعي والناشط المدني حاملًا لنبرة تحذير قوّية، يبدو تعليق المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي عليه أشدّ تحذيرًا. إذ يرى في ما يجري في اليونان "حربًا طبقية". وكان تشومسكي قد استغل الدقائق الإعلامية المتاحة له، ليقول قبل ذاك في برنامج آخر: "إن حلّ مشكلة اليونان بسيط؛ أن تشطب البنوك الألمانية ديونه". وبما أن هذا لن يحدث، إلا أن هذا الرأي وجد طريقه في الشبكة العنكبوتية، وربّما كان وراء إظهار تلك الصور بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يظهر وزير المالية اليوناني وقتذاك وهو يوقّع على إلغاء ديون ألمانيا الخارجة توًّا من نازيتها.
من الصحيح أن باريس هيلتون احتلّت حيزًا كبيرًا من الإعلام في الأيام الأخيرة، إلا أن "التراجيديا الإغريقية" لو صحّ المجاز، وجدت من يحللها ويحذّر مما سيحدث. ما الذي سيحدث؟ أو بالأحرى ما الذي حدث؟ حدث أن القوى المالية الكبرى المعولمة ظنّت أنها تملك كلّ القوّة، وأنها تحتكر الحيّز كله، وبكلام عربي ظنّت أنها "واكلة الجو"، وأن طريقتها الرأسمالية هي "ما يريده الجمهور".