بدأت الحاجة إلى لغةٍ أنسنت الإنسان وطوّرت دماغه، عندما طردَتْ التغيّرات البيئيّة الإنسان من "جنّته" السماويّة في أعالي الأشجار، إلى أديم السافانا الأفريقية إثر تغيرات جيولوجية، فصار يمشي على قدمين، بعمود فقريّ منتصب، وجمجمة تتجه صوب الأنجم، وعينينِ مصوّبتين باتجاه الأفق المفتوح. فالإنسان الحديث، "الذي حارتِ البريّة فيه"، لا يختلف عن كلّ الكائنات الحية: هو محض ضرورة لا غير، وابن قطيعة!
بيد أن اللغة الإنسانية الأولى بدائية جدّاً: إيماءات، ثمّ طقطقة، ثمّ نواة مداميك لغة بدون رموزٍ وخيالٍ وتجريدٍ وبناءِ جمل: قاموس ضحل يمكن، كما يعرف الجميع، إجراء تجارب مختبرية أو منزلية لتعليم بعض الحيوانات، كالقرود، استيعابَ مدلول بعضِ كلماته.
اقرأ أيضًا: في البدء كانت كلمة ميام ميام
لكن الإنسان لم يغد إنساناً حقاً إلا عند استعمال الرمز والخيال، وتصميم معتقداته التخييلية التي تستطيع وحدها فقط أن تربط الوشائج بين أرقام خيالية من البشر وتؤثر فيهم: تجنّدهم معاً للخير أو للشرْ، لتشييد مدينة ذكيّة ضخمة أو للقيام بحرب لا تبقي ولا تذرْ.
ففي حين أنه منذ ولادة نواة تلك اللغة البدائية، لم تختلف كثيراً أُذن الإنسان الحديث بيولوجياً عن أُذْنِ أجداده الأُول وأبناء عمِّه كبار القرود، لم يتوقف بلعومه وحنجرته عن التغيّر والتطوّر البيولوجي لمواكبة احتياجاته اللغوية المتصاعدة، لأن "كلّ التاريخ الاجتماعي للإنسان نضال لاستحواذِ أُذْنِ الآخر"، كما قال كونديرا.
متى وصلت لغات البشر لدرجة رمزية يمكن القول بعدها: بدأ الإنسان الحديث الآن؟ قال المتحاورون: لِيغمضْ كلّ منا عينيه، وليتخيّلْ حياة أجدادنا في لحظة الصفر التي يمكن أن نقول عندها: "بدأ الإنسانُ الآن".
اقرأ أيضًا : لغة آدم
غصنا في الماضي طويلاً نفتّش عن تلك اللحظة المفصلية، كمن يبحث عن دبوسٍ في كومة قش.
قال صاحبنا الأول، وهو مغمض عينيه: أشاهد الآن عاشقاً وعاشقة جالسين قرب ينبوع ماء، يعومان معاً بسدرٍ ممتع، تحت ضوء القمر. نسمات ليلية رقيقة. يتعانقان عناق شابّين في أوج الصبا وسعيرِ الرغبة.
ينظر الشاب إلى القمرِ مشدوهاً بجماله ورقَّته وكأنه يراه لأوّل مرّة، رغم أنه يعبده ويصلّي له كلّ ليلة في هيكل القرية. يخطر في باله أن يقول لمعشوقته: "أنتِ القمر، أنتِ قمري!". تفتح عينيها مندهشة، لم تسمع يوماً عبارة مثيرة جميلة كهذه. تتساءل: "أيقصدُ: أنتِ إلهي؟". تحاول أن تفهم، عبثاً! ثمّ تشعر بنشوة رقيقة سريّة ممتعة تسري في جسدها وغددها لأوّل مرّة.
ثم دوّى صاحبنا الأول: "وُلدت الاستعارة، إذن وُلد الإنسان!".
قال المُحاور الثاني، وهو مغمضٌ عينيه أيضاً: أرى شابّاً كسولاً فضّلَ الجلوس في المغارة، في حين خرج رفاقه بحرابهم للصيد. يحاول النوم، لا يستطيع. تراوده فكرة مثيرة ورغبة غريبة في الآن نفسه. يأخذ خضاباً أحمر، ينقش به على جدار المغارة، بانفعالٍ كبيرٍ، ردفاً دائريّاً يعلوه خصر بمنحنيات ونهدان ثريّان. لم ينقشْ قبل ذلك اليوم إلا خطوطاً تقريبيّة تشبه حيواناتٍ ضارية، حراباً وأدوات صيد، سباعاً كاميريائية تثير كلّ إعجاب وتقديسِ قبيلته.
اقرأ أيضًا: في مديح 27 ديسمبر
لرفاقه همّ آخر أقلّ أرستقراطية: يختبئون بصمت في السهل المجاور بانتظار حيوانٍ يسقط في فخّ أعدّوه بمهارة. يحدّق الشاب في الورك الذي رسمه وقتاً طويلًا. يكتنفه الفخر، ونشوة لم تجتحْه من قبل. ثمّ يضطجع مثبّتاً عينيه على منحنيات الردف، تدهمه رعشة غير أليفة، يغفو، يغرق في نوم عميق، لذيذ جدّاً.
يعود رفاقه بغزال، يضرمون شعلة لشوائها قرب باب المغارة. يلمحون مع ارتعاش وهج ألسنة النار ورقص ظلالها على جدران المغارة شيئاً غريباً يتلألأ على أحد الجدران. يلاحظون في الحقيقة نقشاً جديداً يشبه: خاصرة؟ نهدين؟ ورَكا؟. صخبا، فرحا ومرحا. فوضى بريئة. نسوا الغزال يضطرمُ ويتفحّم، وهم يحدّقون في الجدار، مستغرقين بالمقارنة بين نقشِ الخاصرةِ وخاصرات بنات القبيلة. يتقاسمون ما تيسّر من لحمٍ غير محروق كثيرًا. ضحك يملأُ المغارة، قهقهة وشدّ وجذب. غبطة وسعادة ومتعة تمتزجُ بنخير "بيكاسو القرية" الذي تحلّق أحلامه في سماء الألوان والمنحنياتِ الساحرة. لو يدري أنه بعد أن يستيقظ، سيصير نجمَ القرية، فنّانَها الأعظم، ساحرَها الأكبر.
يقول صاحبنا الثاني، وهو يتنفّس الصعداء: "وُلد عشق فنون المنحنيات التشكيلية الحميمة، وُلِدَ الإنسان الآن فقط!".
يُلاحظُ صديقنا الثالث أُمّاً يعثو بِها الحزن، تبكي بعنف. ينام بين يديها طفل صغير توقفت أنفاسه. وقيْدُ نار قريب منها انطفأ قبل ذلكَ بلحظات. لماذا تشتعلُ النار عندما "ينفخ" فيها، و"تنطفئ" في الثقب المسدود؟ لماذا "أنطفأ" طفلها؟ ماذا غادر جسدهُ كي يفقد بعد ذلك مقدرتَهُ على التنفّس والحياة؟.
أيقنت الأمّ أن "نفخة" تُشعل الحياة كانت تسكن جسد طفلها، ثمّ غادرته لسبب مجهولٍ، وطارت نحو "بلاد النفخات" في أعالي السماء. تنظر الأمّ المنكوبة إلى السماء بعينين مستجديتين، تبحث فيها عن "نفخة"، عن شيء ما يشبه خيط دخانٍ بلا لون، آخر أنفاس طفلها. في معمعان هذيانها مكثت الأمّ تصرخ صيغات تشبه الأدعية. تنادي فيها "نفخات" الأجداد التي تقطنُ "بلاد النفخات" السعيدة. تتوسّلهم رعاية "نفخة" جثمان ابنها التي هاجرتْ نحو ديارهم.
يصرخُ صاحبنا: "وُلد مفهومُ النفخة: الروح! وُلد الإنسان الآن!".
اقرأ أيضًا: من سيصطاد السمكة الأخيرة؟
رأى صاحبنا الرابع شاباً وفتاة يرسمان على الأرض مربعاً تتصل أركان زواياه بخطوط قطْريّة. يضعان في رؤوس زواياه ثلاث حجارة صغيرة، الأولى بعد الأخرى. ثم يحرّك كلّ واحد منهما حصاه بين أركان المربع ومركزه ونقاط في منتصف أضلاعه. يفكّران، يدفعان بعضهما برقة، يقهقهان، يُثبّتان نظرهما في اللعبة. يختلسان النظر لبعضهما بابتسامة ماكرة تخفي محاولة تلصّصية لاستقراء ما ينوي الآخر لعبه في النقلة القادمة. تنتصر الفتاة في النهاية؛ ترصّ كلّ حجارتها على الخط نفسه في المربع. تدوّي ضحكتها المنتصرة من سهول السافانا المجاورة حتّى بحيرة مانيارا.
يرمقها رفيقها باستغراب وإعجاب وغيرة: أيُّ إله ساعدها، جعلها تحرّك حصاها كما يلزم، ومنحها قوّة سحرية خفيّة؟
يدفع الشاب فتاته إلى الأمام بقوة، وكأنه يريد أن ينتصر بطريقته! تسقط على الأرض، رجّة كهربائية عذبة تتماوج في وركها، وأمواج إلكترونيّة رقيقة تعبر جسدها. تقاوم الشاب لتضاعف إثارته، تسخر منه: "هزمتك!"، تقولها رافعة ذراعيها.
يتوحّدان تحت السماء من دون خوف أو حواجز، غير بعيد من مرأى القبيلة التي لا تكترث كثيراً بتفاصيل سيناريوهات هذه الطقوس البيولوجية الأليفة التي تضمن للقبيلةِ التناسل والبقاء على الأرض. يصرخ صاحبنا: "وُلد الإنسان هنا الآن فقط!".