تشكل البورصات العربية حالة تستحق التأمل. وفي الوقت الذي ترتفع فيه معظم أسواق الأسهم والسندات في العالم، نرى أن هذه الأسواق في وطننا العربي تهيم على وجهها صعوداً وهبوطاً. وهي مثلما قال الشاعر البهاء زهير في بغلة صديقٍ له "تهتز وهي مكانها".
وباللغة الميكانيكية، تمر أسواق رأس المال بحالة "ميتاستاتيكية"، أي أنها تهتز مثل شجرة السنديان، عندما تهب عليها الرياح، وتميل يميناً وشمالاً، لكن ساقها تبقى مكانها.
وبالطبع هنالك استثناءات، وأولها بورصة مصر. فبعد هبوط سعر الجنيه، أو تخفيضه، بحوالي 140% من قيمته قبل عام من الآن، وجدنا أن الأسهم في بورصة القاهرة تميل إلى الصعود، لكنها حتى هذه اللحظة، لم تصعد بالقدر الكافي ليعوّض على المستثمرين قيمة الثروة التي فقدوها بهبوط سعر الجنيه المصري.
ولهذا، البورصة المصرية هنالك مرشحة للارتفاع أكثر، خصوصا أن المؤشرات الأساسية للاقتصاد المصري آخذة في التحسن التدريجي، مثل العجز التجاري، وحجم الاحتياطي من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، وعودة السياحة تدريجيا، خصوصا في منطقة البحر الأحمر، والبدء في تنفيذ مشروعات كبرى. ولكنْ هنالك مشوار طويل نسبيا وصعب ما يزال أمام الاقتصاد، قبل أن يحقق كامل الفوائد المرجوّة من التضحيات التي يقدمها الشعب المصري.
أما في دول الخليج، فإن نظرة يومية على نتائج أعمال البورصات تكشف حالة عدم استقرار واضحة. ففي وقت يرتفع سوق أو سوقان، نرى باقي الأسواق متراجعة. وكان هذا الأمر يحصل خلال السنة الماضية، ولكنه وحتى أزمة الخليج، كنا نرى أن سوقي عُمان وقطر يتناغمان في الاتجاه، على عكس باقي الأسواق، وأحياناً كنا نرى سوق الكويت وعُمان يتناغمان مقابل الأسواق الباقية. أما بعد الأزمة الخليجية التي اندلعت بعد المقاطعة الاقتصادية لقطر، لاحظنا أنه لا قاعدة أو تفسيراً واضحاً لتذبذب الأسواق حيال بعضها بعضا.
ورغم ارتفاع أسعار النفط في الأسبوعين الأخيرين، والتنبؤ بأن سعر برميل النفط على أساس برنت سوف يصل إلى ما فوق الستين دولاراً، وهو ما حدث بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية، وتصبح الستون بدل الخمسين دولاراً السعر المرجعي، فإن الأسواق الرأسمالية في هذه الدول لم تتأثر كثيراً.
وعلى الرغم من الإعلان عن المشروع الضخم الذي أطلقه الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، قبل أيام (مشروع نيوم)، إلا أن سوق البورصة في الرياض لم يظهر استجابة كافية بعد.
وفي الأردن، لا يتحرّك سوق البورصة كثيراً، والاقتصاد الأردني يعاني من تراجع منذ أعوام. وقبيل انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وصلت قيمة أسهم الشركات المتداولة في بورصة العاصمة عمّان إلى أكثر من 40 مليار دينار أردني (56 مليار دولار). أما الآن، فإن قيمة أسهم الشركات المتداولة، حسب أسعارها في السوق، لا تزيد عن 18 مليار دينار أردني (25 مليار دولار).
وينطبق التحليل نفسه على معظم أسواق الأسهم والسندات العربية التي شهدت تراجعاً كبيراً في قيمة الثروة الكامنة في الأسهم.
والسؤال الكبير الذي يجب أن يؤرق الباحث هو أن البورصات العربية ليس بينها ترابط، إلا بالقدر الذي يرتبط كل منها بالأسواق العالمية. وعلى الرغم من كل التطورات التي حصلت خلال السنوات الماضية، إلا أن هذا لم يحدث الأثر الكافي والمطلوب.
فمن ناحية، نرى أن الإحصاءات المنقولة عن أسواق دبي، بصفتها تحمل لقب عاصمة الاقتصاد الإسلامي، فإن حجم الأوراق المالية الإسلامية (الصكوك وغيرها)، وصل إلى حوالي تريليوني دولار، ومن المتوقع أن يزيد على ثلاثة تريليونات دولار عام 2020.
وبالطبع، فإن أوراقا وأسنادا وصكوكا إسلامية كثيرة تنشأ عن بنوك دولية أجنبية، لكن دولا عربية وإسلامية قد شرّعت لإصدار الصكوك. وأصدرتها شركات وحكومات، إلا أن أثرها على حركة الأسواق كأدوات رأسمال لم تظهر، ولم تحدث الأثر المتوخّى على حجم الأسواق، وعمقها ومرونتها.
وكذلك لاحظنا دخول أعداد متزايدة من الدول العربية، خصوصا دول الخليج، في ميدان إصدار السندات وسيلة للاقتراض، إما من شعوبها أو من أسواق العالم. ولكن معظم السندات العربية الصادرة عن الحكومات تعطي عوائد وضمانات بالسداد وبالسيولة، ما يجعل المقترضين، خصوصا القطاع المصرفي ومؤسسات الادخار والاستثمار، راغبة في الاحتفاظ بها حتى نهاية مدتها، بسبب ارتفاع العائد ودنو المخاطرة بالقياس إلى الأسهم.
وهكذا تحرم أسواق البورصات الثانوية من التبادل بالسندات الحكومية، أو تلك المكفولة منها، علماً أن الأفضل هو فتح باب السوق الثانوية لهذه الأسواق، خصوصا للأفراد داخل الدول أو للمستثمرين الخارجيين.
والحصيلة من هذا الواقع أن مصدراً أساسياً وشرطاً ضرورياً لتراكم الثروة وبنائها قد تراجع، وأضحى مجرّد تعبير هامشي، وعن رغبة عدد محدود من المشترين والبائعين في التعامل بالسوق. وقد غاب عن الأسواق العربية الاستثمار العربي داخل كل سوق بورصة عربية، وغاب عن كل واحدة منها كذلك كبار المستثمرين وصناع السوق.
إذا كنا ننوي، في الوطن العربي، أن نقيم مشروعات ضخمة بدعوة من القطاع الخاص، ومن المستثمرين غير المحليين، فإن إعادة إنعاش أسواق رأس المال تصبح شرطاً أساسياً وسابقاً لنجاح مساعي جذب الاستثمار.
أما إذا بقيت التقييمات المختلفة لاقتصاداتنا وأسواقنا المالية تتراجع، وكبار المؤسسات المالية الدولية تعطينا علاماتٍ سنويةً أقل من السنوات السابقة، وتراجعت مواقفنا بالنسبة للدول المنافسة لنا في هذا المضمار، فسيكون لذلك أثر سلبي كبير على قدرتنا في تنفيذ برامجنا الطموحة والكبيرة.
آن لأسواق رأس المال العربية أن تتضافر وتتعاون. وهي إن فتحت أبوابها على الاستثمار والمضاربة من المستثمرين العرب، وصارت أسواق البورصة تتصرف كأنها في بلد واحد، فإن هذا سيعود بالنفع الكبير على كل الدول، وسيرفع من مستوى ترتيبنا في التقييمات الصادرة عن مؤسسات التقييم الدولية، وسوف تجذب رؤوس أموال أكثر بكثير من السابق.
المحزن في تراجع قيم الأسهم وركود الحركة على السندات في أسواق رأس المال العربية أن مستثمرين أفرادا كثيرين فقدوا جزءاً كبيراً من ثروتهم ومن مدّخراتهم، وتبدّدت توقعاتهم المتفائلة حيال ما اعتقدوا أنه رصيد حقيقي. وتشكل خيبة التوقعات، خاصة السوداوي أو المتشائم منها، العدو الأكبر للاستثمار، وتراكم الثروة عند الأمم.
ولنتذكّر أن بناء الثروة، لا زيادة الثراء، هو المحرّك الأساسي للاقتصاد، وهو الضامن الأكبر لاستمرارية النمو.