01 نوفمبر 2024
مثل كل صباح
تفتحين عينيك باكرا تتناولين هاتفك النقال، ثم تدخلين إلى صفحتك على "فيسبوك"، وتقرئين آخر الأخبار، ثم تنهضين متكاسلةً من الفراش، إثر إلحاح مواء قطتك الجائعة، وتقلبها على السرير بجانبك، تتناولين دواءك الصباحي، وتشربين نصف لتر من الماء، ثم تلبين طلب القطة، وتكملين أفعالك الصباحية المعتادة، مثل كل خلق الله الطبيعيين الذين يعيشون في بيوتٍ تحمي كرامتهم من الهدر. تصنعين قهوتك، وتضعين موسيقى ما. ربما تكتبين نصا يشغلك منذ مدة، أو ربما تكتبين هذرا ما على صفحتك الفيسبوكية، ثم تذهبين إلى المشي وتعودين، تطبخين شيئا لتأكليه، وأنت تشعرين بالذنب المتواصل لعدم قدرتك على تنزيل وزنك. بعد الظهر، قد تقابلين بعض الأصدقاء، وقد تسهرين سهرة لطيفة معهم، وقد تذهبين إلى السينما لحضور فيلم ما، ثم تعودين إلى البيت، تلاعبين القطّة التي تنتظرك بجوار باب البيت، حينما تكونين في الخارج، وتدخلين إلى فراشك، تشعلين ضوءا بجانبك، وتمسكين كتابا ما، وتقرئين ما يقارب الساعة، قبل أن تدخلي في نومٍ لم يعد عميقا منذ زمن طويل.
هل يحق لك الشكوى من الوحدة والوحشة؟ هل يحق لك القول إنك تعانين خوفا لا تستطيعين تحديد مصدره؟ تفكرين أن حياتك بشكل من الأشكال لا ينقصها شيء. وتفكرين أن أية محاولة للشكوى ترفٌ لا يليق بك، إذ عليك دائما أن تتذكّري أنك سورية، وأنك، قياسا بملايين السوريين، تعيشين حياةً يراها الآخرون سعيدة وكاملة. بعضهم يقول لك هذا صراحة، إذ إنك تفضلين أن تبتلعي ما تعانينه، وتغصّين فيه، وقد يخنقك قبل أن تتفوهي بحرف واحد. تعلمت من سنين الوحدة الطويلة ألّا تفتحي فمك، وأنت تلتهمين قهرك وحزنك وخوفك. وحدتك "شاهقة" كما يقول شاعرٌ ما. وعلى الشاهق أن يحافظ على علوّه دائما. الوحدة لا تنخفض، هي تسقط وتتحطم، لكنها لا تنخفض، تدركين هذا جيدا، وتخطّطين حياتك على أساسه. هل قلت: تخططين؟ حياتك تمشي يوما بيوم، بل دقيقةً بدقيقة. لا تملكين ولا مجرّد خطوط عما يمكن أن يحدث في المساء، فكيف بغد؟
لا تتحدثين هنا عن المصائر والأقدار، بل عن كينونتك المادية. في اللحظة التي أنت فيها، وفي المكان الذي تعيشين فيه، لا ضامن لاستمرار وجودك حيث أنت، لا تستطيعين العودة أيضا إلى بلدك، لا مكان تذهبين إليه، إذا ما قيل لك ذات يوم: غادري، ما من بلد يستقبلك، أوراقك الرسمية التي تستدينين كي تحصلي عليها (لعامين فقط) غير مرحب بها في أي مكان. أنت من جنسيةٍ تعاني التنّمر في كل مكان، جنسية يتعاملون معها كما لو أنها وباءٌ يجب مكافحته، كي لا يُصاب أحدٌ بعدواه. عليك أن تبلعي هذا أيضا وتغلقي فمك، فأبناء بلدك يموتون من البرد والثلج والعواصف، يموتون من الإهمال، يموتون من الفقر، يموتون من القهر، يموتون من الفاقة، يموتون من الذل، يموتون من كل شيء. أطفال وشباب كان يجب أن يكون في الحياة متسع كبير لهم، لولا أن الحياة أضيق من خرم إبرةٍ للسوريين، بينما الموت يمد رحابته لهم، وهو يخفي أنيابه كمصاصي الدماء.
تقرئين أخبار موت السوريين على "فيسبوك". تبحثين عمن تعرفينه، لديك هاجس دائم أنك ستقرئين خبر رحيل من تحبينهم على "فيسبوك" قبل أن يخبرك أحد. حدث هذا فعلا مع أصدقاء لك رحلوا خلال السنوات الماضية، وسيحدث دائما، فهذا العالم الافتراضي بات الفسحة الوحيدة المتاحة للسوريين، كي لا تفرش القطيعة الكاملة خطواتها بينهم. ومع ذلك تقرّرين دائما أن تغادري هذا العالم، وتغلقي صفحتك نهائيا، إذ تخافين من هذا الإدمان، وتخافين من قدرتك على الانكشاف، حين تكتبين على صفحتك هواجسك. تخافين من علنيتك الفائضة. أنت في الحقيقة تخافين من كل شيء، لكنك تدّعين القوة والثبات، وأنت أكثر هشاشةً من ورقة شجر يابسة، إذ اعتدتِ على العيش بشخصيتين، واحدة يعرفها الجميع وأخرى لا يعرفها غيرُك، تخشين إظهارها للعلن، كي لا تفضح ضعفك.
مثل كل صباح، ها أنت تجلسين على كنبتك، بجانبك قطتك البيضاء وفنجان قهوةٍ شبه باردة. تحاولين ألّا تفكري بأي شيء. ومن دون انتباه، تمسكين مجسم كرة أرضية بين يديك، وتدحرجينها على الأرض، لتعلب بها قطتك. تفكرين أن عالمك ليس أكثر من كرةٍ لا تعرفين من يتقاذفها، ولا إلى أين تتوجّه.
هل يحق لك الشكوى من الوحدة والوحشة؟ هل يحق لك القول إنك تعانين خوفا لا تستطيعين تحديد مصدره؟ تفكرين أن حياتك بشكل من الأشكال لا ينقصها شيء. وتفكرين أن أية محاولة للشكوى ترفٌ لا يليق بك، إذ عليك دائما أن تتذكّري أنك سورية، وأنك، قياسا بملايين السوريين، تعيشين حياةً يراها الآخرون سعيدة وكاملة. بعضهم يقول لك هذا صراحة، إذ إنك تفضلين أن تبتلعي ما تعانينه، وتغصّين فيه، وقد يخنقك قبل أن تتفوهي بحرف واحد. تعلمت من سنين الوحدة الطويلة ألّا تفتحي فمك، وأنت تلتهمين قهرك وحزنك وخوفك. وحدتك "شاهقة" كما يقول شاعرٌ ما. وعلى الشاهق أن يحافظ على علوّه دائما. الوحدة لا تنخفض، هي تسقط وتتحطم، لكنها لا تنخفض، تدركين هذا جيدا، وتخطّطين حياتك على أساسه. هل قلت: تخططين؟ حياتك تمشي يوما بيوم، بل دقيقةً بدقيقة. لا تملكين ولا مجرّد خطوط عما يمكن أن يحدث في المساء، فكيف بغد؟
لا تتحدثين هنا عن المصائر والأقدار، بل عن كينونتك المادية. في اللحظة التي أنت فيها، وفي المكان الذي تعيشين فيه، لا ضامن لاستمرار وجودك حيث أنت، لا تستطيعين العودة أيضا إلى بلدك، لا مكان تذهبين إليه، إذا ما قيل لك ذات يوم: غادري، ما من بلد يستقبلك، أوراقك الرسمية التي تستدينين كي تحصلي عليها (لعامين فقط) غير مرحب بها في أي مكان. أنت من جنسيةٍ تعاني التنّمر في كل مكان، جنسية يتعاملون معها كما لو أنها وباءٌ يجب مكافحته، كي لا يُصاب أحدٌ بعدواه. عليك أن تبلعي هذا أيضا وتغلقي فمك، فأبناء بلدك يموتون من البرد والثلج والعواصف، يموتون من الإهمال، يموتون من الفقر، يموتون من القهر، يموتون من الفاقة، يموتون من الذل، يموتون من كل شيء. أطفال وشباب كان يجب أن يكون في الحياة متسع كبير لهم، لولا أن الحياة أضيق من خرم إبرةٍ للسوريين، بينما الموت يمد رحابته لهم، وهو يخفي أنيابه كمصاصي الدماء.
تقرئين أخبار موت السوريين على "فيسبوك". تبحثين عمن تعرفينه، لديك هاجس دائم أنك ستقرئين خبر رحيل من تحبينهم على "فيسبوك" قبل أن يخبرك أحد. حدث هذا فعلا مع أصدقاء لك رحلوا خلال السنوات الماضية، وسيحدث دائما، فهذا العالم الافتراضي بات الفسحة الوحيدة المتاحة للسوريين، كي لا تفرش القطيعة الكاملة خطواتها بينهم. ومع ذلك تقرّرين دائما أن تغادري هذا العالم، وتغلقي صفحتك نهائيا، إذ تخافين من هذا الإدمان، وتخافين من قدرتك على الانكشاف، حين تكتبين على صفحتك هواجسك. تخافين من علنيتك الفائضة. أنت في الحقيقة تخافين من كل شيء، لكنك تدّعين القوة والثبات، وأنت أكثر هشاشةً من ورقة شجر يابسة، إذ اعتدتِ على العيش بشخصيتين، واحدة يعرفها الجميع وأخرى لا يعرفها غيرُك، تخشين إظهارها للعلن، كي لا تفضح ضعفك.
مثل كل صباح، ها أنت تجلسين على كنبتك، بجانبك قطتك البيضاء وفنجان قهوةٍ شبه باردة. تحاولين ألّا تفكري بأي شيء. ومن دون انتباه، تمسكين مجسم كرة أرضية بين يديك، وتدحرجينها على الأرض، لتعلب بها قطتك. تفكرين أن عالمك ليس أكثر من كرةٍ لا تعرفين من يتقاذفها، ولا إلى أين تتوجّه.