مجتمع المعرفة في العالم العربي.. الإمكانات والمسارات
تعتبر المعرفة القوة الناعمة لإنجاز القفزات النوعية في سلم الأمم، فهي رافعة للتقدم والازدهار على أصعدة عدة. وبذلك، تتسابق الدول على إرساء الأسس المتينة لمجتمع المعرفة، المجتمع القادر على توظيف العلم لاتخاذ القرارات وتحقيق الغايات، عبر تعزيز الابتكار والإنتاج، والذي يحسن تطوير كفاءات الفاعل البشري، في سبيل التنمية الإنسانية الشاملة. إنه المجتمع الذي يشحذ القوة، ويملك كل المقومات لمواجهة العقبات الناجمة عن الإرث التاريخي والواقع الجغرافي.
وفي هذا الصدد، يتحقق مجتمع المعرفة في مستويات متنوعة، ففي المجال السياسي يعنى به توفير الحريات الأساسية والحقوق الطبيعية الفردية، كحرية الرأي والتعبير والحق في المعلومة التي تعمل على مشاركة المواطنين في السياسات العامة. علاوة على أن المعارف الاجتماعية والقانونية تساعد على تعزيز مكانة المجتمع المدني الحر، وتحسين أداء مؤسسات الحكم، عبر تمثيل نزيه للمواطنين وصياغة عقد اجتماعي، يضمن استقلالية القضاء وفصل السلطات. ومما يجب التوقف عنده، أن النهضة العلمية والمعرفية تتماشى مع إرساء النظام الديمقراطي. ونستحضر، هنا، أن تطور الحضارة الغربية كان في عصر التنوير الذي شكل مقدمة لبناء الديمقراطية الحديثة، وأن كلاً من المعرفة والديمقراطية ساهما في المنظومة التنموية الحالية لدول غربية عديدة.
في سياق متصل، تقوي المعرفة الديناميكية الاقتصادية، حيث تستخدم المؤسسات البحثية، المعاهد الفكرية والأقطاب التكنولوجية المعلومة أساساً لإقامة نظام للابتكار الوطني وسياسة تكنولوجية تنافسية، ما جعل المنتجات والخدمات المعرفية تتجاوز نسبة 80% من الناتج الداخلي الخام العالمي، وتخلق ثلثي فرص الشغل في كل أنحاء المعمورة. وبالتالي، تؤهل المعرفة القدرات البشرية، وتمكن الإنسان من التحكم في زمام التطوير والرخاء. وفي النطاق نفسه، يرتبط مجتمع المعرفة بالثقافة، فيما يخص إطلاق العنان للمواهب الإبداعية والاهتمام بالعامل التكنولوجي لنشر الوعي وصناعة الفكر، لكي يسود العلم في المجتمع، ويصبح مرجعاً في التكوين الشعبي، مهما تفاوتت الطبقات الاجتماعية.
بناءً على ما تقدم، تبدو الحالة العربية بعيدة عن خصائص مجتمع المعرفة المنشود، فالنظام التعليمي العربي يولد البطالة بنسب مرتفعة، تصل إلى 30%، والبحث العلمي عاجز عن الاختراع والنشر في ظل مردودية محدودة للباحث العربي، لا سيما في تخصصاتٍ بعينها، كالدراسات المستقبلية، العسكرية والطبية، إذ يبلغ مجموع المنشورات العلمية العربية ما مقداره 1.4% من الحصة العالمية، في حين تحقق البلدان المتقدمة 70% مع هجرة مضطردة للأدمغة العربية، بنسبة 35% عالميا. كما تعاني المؤسسة الأكاديمية العربية من ضعف الإنفاق على البحث العلمي، إذ لا يتجاوز 0.2 %، بينما تخصص الدول المتقدمة 4% من ميزانيتها للبحث والتطوير، فالولايات المتحدة وحدها تستحوذ على 37% من الميزانية العالمية للبحث العلمي، وتليها اليابان بنسبة 12%.
ومما سبق، نحن أمام أعراض لأمراض بنيوية في الجسم المعرفي والعلمي العربي، أبرزها تدني المعرفة في سلم القيم الاجتماعية. فهي لا تحظى بالرعاية اللازمة للحكومات العربية، متجلية في غياب سياسات ثقافية واستراتيجيات علمية وطنية، تسعى إلى تنويع وإغناء الأبحاث عبر الجامعات ومراكز الدراسات، مع هشاشة جلية للإعلام العلمي المنوط به إدخال العلم إلى الحياة العامة، كثقافة للرأي العام من خلال تجسير الهوة بين النخب والعموم، بهدف تحسين الوعي والسلوك الاجتماعي. بالإضافة إلى ارتباط الجامعة بالدوائر السلطوية، السياسية والأمنية في مسألة التعيينات، التمويل المالي المنخفض للبرامج البحثية، كما يستفحل الفساد الإداري داخل الحقل العلمي العربي، بأوجه متعددة، انطلاقاً من السرقات العلمية للحقوق الفكرية، وصولاً إلى المحاباة في البعثات العلمية، ومروراً بالتضخم البيروقراطي، المتوغل في مؤسسات المعرفة والتعليم في العالم العربي.
على هذا الأساس، يجب أن يشكل مجتمع المعرفة مشروعاً شاملاً ومتكاملاً للأمة العربية، تتجلى خطوطه الناظمة في محاور رئيسية:
1-إصلاح قطاع التعليم والبحث العلمي: يحتاج التعليم العربي رؤية جديدة، تحسن جودة المنتج التعليمي، وتطور مواهب الإبداع والقيادة عند الناشئة. ومما تجدر الإشارة إليه، مسألة التكامل بين التعليمين، الأساسي والعالي، ثم توفير حرية أكاديمية، تقبل الاختلاف في التواصل ونشر البحوث، مع تشجيع إمكانات التمويل الأخرى، كالمنح والوقفيات المدعومة من القطاع الخاص، لإتاحة الفرصة أمام الباحثين، لتطوير العمليات البحثية والدراسات الدقيقة.
2-نهضة ثقافية وفكرية: العالم العربي في حاجة ماسة إلى بيان ثقافي وفكري جديد متعدد الأبعاد، يأخذ في الاعتبار أدوار المثقفين والأنتلجنسيا العربية الجديدة في الفضاء العام، مع إنتاج أفكار ومعان توازي التحولات الاجتماعية والمتغيرات الحالية في قضايا الإصلاح، الحداثة، العولمة، الديمقراطية والمواطنة. ولأن الوعي قبل السعي، والإنسان قبل البنيان، فتقريب الثقافة والفكر يستدعي مداخل تواصلية بين المفكرين والمثقفين العرب في شتى المجالات، لصيانة الهوية والخصوصية الحضارية ومقاومة نزعات التطرف، العنف والاستبداد.
3-تغيير اقتصادي ومؤسساتي: يستوجب تقوية الرأسمال المؤسساتي العربي، بتنسيق العمل المشترك بين الفاعلين في الأنشطة المعرفية والابتكارية من جامعات، مراكز أبحاث، شركات تكنولوجية، مصارف تمويلية ووسائل إعلام. وكذلك، الدفع بالمبادرات الاستثمارية داخل الحقول المعرفية والعلمية من وسائط تمويلية للمشاريع الابتكارية، والمقاولات التكنولوجية، كما يقتضي هذا التغيير ترسانة قانونية، تواكب اقتصاداً معرفياً، يعكس صورة مجتمع العلم المأمول.
وصفوة القول، صار العلم ساحة للوغى، تتبارى فيها الدول، من أجل مواصلة الركب الحضاري، وإنجاز الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من الإكراهات الكثيرة.. ويعد مجتمع المعرفة بالنسبة للعالم العربي ضرورة حتمية، تجعل مصير أمة مقيد ببناء اللبنات الداعمة لكيان معرفي وعلمي متين. يبدو مجتمع المعرفة العربي تطلعاً كبيراً، لكن تحقيق العظائم رهين بصدق العزائم، فالإرادة المسؤولة والإدارة الحكيمة لمختلف مرتكزات المعرفة هي سبيل مستقبل عربي عنوانه: العلم هو الحل!