عينا فيرونيا
هؤلاء يهوون في حُفَر بعمق المحيط
مثل حجارة وضيعةٍ وصمّاء
في المشافي والبيوت وفوق الأسرّة
حين يبلّغون بأنّ أحبّتهم ماتوا
انقلب جبل الطُّور على رأسه وانفرج
المرج غطّس أصابعه بين أضلاعه
حفرٌ... حفرٌ في كلّ مكان
في العباءات المعلّقة كالمشانق وراء الباب
في المخدّات التي صارت قطعاً متحفيّة
هويت في جميعها
ولم يكن لديّ فمٌ لأصرخ
هؤلاء، وكلّما عادت بهم ذاكرتهم إلى هناك
يعاودون السقوط دون أيّة مقاومة
كأنّما ألعابٌ تعمل بكبسة زرّ
ستظلّ تكبس زرّي إلى الأبد
الطبيبةُ الروسيّةُ فيرونيا
بعينيها اللتين بلون المحيط
حفرٌ في كلّ مكان.
■ ■ ■
قطّ لحوحٌ يشبه الحداد
لم يعد يُشبع حدادي شيء
مظاهر الحزن الطبيعية
وتلك المبتكرة
صارت شيئاً واحداً
غير ذي نفع
الصورُ الغائمة
اللغةُ وهي تهمهم مثل جرذٍ خائف
الذكرياتُ مقطوعة الأرجل
جميعها مجرّد معلوماتٍ توضيحية لحياة انتهت. فما جدوى تذكّرها؟
أنا يا أبي لو كنت أعلم أنّ الإنسان على هذا القدر من العبقرية في التأقلم
لما ذرعت تابوتك الفارغ وأعولت فيه مثل ريح شقية
لو كنت أعلم أنّك الآن السنونو الذي لا يترك أسلاك الحديقة
قبل أن يسمع في صدري إيقاعاً سليماً
لما فزعت كلّ هذا الفزع وأنا أتحضّر لهذه اللحظة
اللحظة التي تبيّن أنّها شديدة العادية
التي تمحو الفارق بينك وبين سمكة هيرينغ ميّتة ومقشّرة في ثلاجتي
اللحظة التي يصبح الحِدادُ معها ترفاً
يمارسه مُمجّدو الماضي ومُؤطّرو الذكريات في براويز مُذهّبةٍ
لا أملك ثمنها
التي يصبح الحِدادُ فيها قطًّا لحوحاً وجائعاً
تحت أقدامي
بينما عظامك الناشفة لا تُشبع ولا تُغْني من جوع.
■ ■ ■
انعكاس
أمس، سلّمتُ قصائدي كلّها للناشر. أشعر بأنّي سلّمتُه رأسي
وأنّ الكلمات التي سأنطق بها بعد الآن
ستَخرج من فمه
يا لهول المصيبة
المصائب لا تأتي فرادى، بل جحافل مثل قطيعٍ جائع
هكذا قال مرّة شاعرٌ ومات
أما أنا فلم أقل شيئاً
منذ أن فرّطت بقصائدي
صار الشعراء يسكرون كلّ ليلةٍ تحت شبّاكي ويلقّنونني قصائد حكيمة
وأنا أمقت الحكمة، وأمقت أفعال الأمر
دعوتهم إلى بيتي، نحرتهم مثل خرافٍ سمينة وتعشّيت عليهم
ومع ذلك، لم أسترجع صوتي الذي رأيته من الشبّاك مصلوباً على قمّة الجبل
أصبحتُ مجرّد انعكاسٍ لشجرةٍ جرداء في بقعة ماء على الطريق
لا تعبروا فوقي
وظلّلوني من شمسٍ قد تمرّ فتبخّر جذعي
ربّما عندها سأقول كلمتي
سأقول إنّ المصائب قد تخمد إن لم تطعموها مزيداً من الحطب
لكنكم لم تسمعوني
وكان الجبل من حطبْ.
■ ■ ■
جرس
أحدهم أقنعنا بأنّ الفوز من نصيب من يضحك في النهاية. رأيتُ نهايات كثيرة. بائسة مثل معجون جافّ. تأمّلت دون ملل الدقائق الأخيرة وهي تأكل كالجرذان وجوه من يعرفون جيّداً بأنّها الدقائق الأخيرة. رأيتها دون ضحك يُذكر.
سعدت لأنّها، ورغم قسوتها التي تشقّ الحياة من رأسها إلى مؤخّرتها، ليست دقائقي. لكنّ ضحكي ظلّ مكتوماً، فقد يبدو إن ظهر محض سفالة.
سأروي لكم الحكاية من نهايتها: جميع الضحكات التي رنّت في حلقكم الفارغ سيرجع صداها على شكل أنفاس ساخنة وبطيئة. السخونة تقرع. مثل جرس حزين في مدرسة الحياة، تقرع. إنّه القيظ الذي يسبق يوم برد قارس. ستُصدرون أصواتاً هادئةً ورقيقة لأنّكم لن تقووا على الكلام بينما أرواحكم تتسلّق هواء الغرفة مثل قردة.
عيونكم ستحملق في شيء لا تعرفونه، لكنّه يشبه خوفاً طويلاً وممدّداً عند عتبة مظلمة. ستتعثّرون بجسده كلّما دخلتم المدرسة. وستتذكّرون في كلّ مرّة ستضحكون فيها بتمام رئاتكم بأنّه مهما قرعت الأجراس، فإنّ الدرس، بعد أن تصمت، لن يبدأ من جديد.
* شاعرة من فلسطين