اتصلوا بي ليخبروني أن موعد انطلاقنا سيكون بعد ربع ساعة، كان القصف حينها قد أصبح شديداً، ورغم ذلك لم نكن نملك خياراً آخر سوى أن نخرج، خاصة بعد أن قمنا بتأجيل الأمر عدة مرات. ربع ساعة كانت كل ما أملكه قبل الخروج من البيت، ومن ثم الخروج من البلدة، ليكون بعدها الخروج الأخير من البلد.
ربع ساعة أخيرة كل ما أملكه قبل أن أترك سبعة وعشرون عاماً من الذكريات والأحلام والأوهام. ربع ساعة تفصلني عن طريق اللاعودة، عن تحولي لكائنٍ بلا وطن. وكان عليّ ألا أحوّلها إلى جلسة حنينٍ ووداع. كان عليّ أن أهرب من فكرة التراجع عن القيام بالأمر. كان عليّ أن أخنق أيّ تردد قد يتسلل إليّ.
خرجتُ من البيت لألتقي الشابين اللذين كنّا خططنا للهرب معاً، أحمد، كان جندياً يخدم في الجيش النظامي قبل أن تُمسك به إحدى كتائب الجيش الحر أثناء إجازته، وبعد التحقيق معه وتعذيبه وإجباره على الانشقاق، جرى إخلاء سبيله بعد دفع أهله فدية مالية كبيرة، لتمسك به بعدها إحدى دوريات الأمن في طريق العودة إلى منزل أهله في مدينة أخرى، لتتم إعادته إلى قطعته العسكرية بعد فترة من التحقيق. و بعد استدعائه للتحقيق عدة مرات لاحقاً، قام بالانشقاق هذه المرة بإرادته.
الشاب الآخر كان خائفاً. كان علينا أن نمشي مسافة شارعين لنلتقي بالرجل الذي سيقلّنا إلى القرية الحدودية. كانت الشوارع فارغة تماماً إلا منّا نحن الثلاثة وبعض القذائف التي تتساقط على شوارعها كمطر ثقيل. وحدنا كنا نمشي كـ"مسحراتيّة" والقذائف كانت طبولنا.
"أغلقوا هواتفكم"، قال لنا السائق، "اخلع قبعتك"، قالها لي دون أن ينظر في أعيننا. ربما كان يخشى أن يحتفظ في ذاكرته بشيء من ملامحنا أو خوفنا في حال أصبحنا جثثاً. صعدنا إلى السيارة وجلستُ بجانبه في المقعد الأمامي، وما إن جلست حتى أخرج مسدساً من جانبه ووضعه بين قدمي. اعتقدت بأنه سيقول لي: انتحر بدل الهرب أيها الجبان.
سألته عن حاجتي للمسدس، منتظراً منه أن يؤكد لي اعتقادي، فأجابني بأنه قد يلزم في حال اعترضنا أحد الحواجز العسكرية المتنقلة، فنضطر حينها لتبادل النيران معهم.
قالها وكأنه يتحدث عن مشاجرة بين مراهقين. لم يدرك بأنني إذا حدث الأمر فعلاً فربما نموت أربعتنا بنيران صديقة.
أخبرته بأن المسدس الوحيد الذي استخدمته في حياتي كان "مسدس خرز"، حين كنت صغيراً. طبعاً لم تكن نكتتي في الوقت والظرف المناسبين، فكان رده سريعاً قبل أن تكمل شفتيّ رسم الابتسامة: "شو مقعّدك من قدام، لكن أنزل اقعد ورا"، وطلب من أحمد، العسكري المنشق، أن يجلس مكاني.
وصلنا إلى البلدة الحدودية دون أن نتعرض لخطر ما. أقمنا في قبو أحد المساجد، كان عبارة عن تجمع للمستعدين للهروب، منشقين ومطلوبين وآخرين لم يبقَ لهم أحداً، مكاناً، أو هدفاً ليبقوا من أجله. كل يوم كان ينقص العدد، كلٌّ منّا يختار بلداً ووسيلة.
كان طريقي إلى لبنان مع عائلة هاربة من القصير في شاحنة صغيرة مكشوفة. طوال الطريق كنت أتأمل الجبال المحيطة بنا والتي لم أتوقع وجودها في بلدنا، وأتساءل في نفسي: "لِمَ عليّ الخروج بهذه الطريقة؟ لِم يمنعني أشخاص من التنقل في بلدي كما أريد، فقط لأنهم يحملون أسلحة؟ ما الذي فعلته؟".
بينما كان الشابان الصغيران يتحدثان عن البقرات التي تركاها في القرية، أحدهم كان يسأل الآخر إن كانوا سيسرقون البقرات، أو يقتلوهم، وأنا كنت أحاول منع نفسي من رميهما من الشاحنة، إلى أن التفت إليّ ذلك الشاب المتخوف على مصير بقراته بشكل مفاجئ: "هل سيقتلونها؟"، فأجبته: "لا.. لن يقتلوها، هم ربّما يقتلوننا إذا صادفونا بعد قليل، لكن أن يقوموا بقتل أو سرقة بقر! لا لِم يفعلون ذلك؟ هم أطيب من ذلك". ابتسم الشاب الذي ربما أحب ألا يفكر كثيراً بما قلته وابتعد بنظره عني ولم ينطق بكلمة واحدة طوال بقية رحلتنا.
قطعنا الحدود وأصبحت خارج البلد. نزلت من السيارة وأنا كتلة من الغبار. وقفت متأملاً الوجوه الغريبة التي تجمعت حولنا، تائهاً لا أعرف أحداً.عامان مضيا على تلك اللحظة، وما زلت إلى الآن أقف مُغبّراً، تائهاً، لا يعرفني أحد، وكأنني استُبدلت بغيري.
ربع ساعة أخيرة كل ما أملكه قبل أن أترك سبعة وعشرون عاماً من الذكريات والأحلام والأوهام. ربع ساعة تفصلني عن طريق اللاعودة، عن تحولي لكائنٍ بلا وطن. وكان عليّ ألا أحوّلها إلى جلسة حنينٍ ووداع. كان عليّ أن أهرب من فكرة التراجع عن القيام بالأمر. كان عليّ أن أخنق أيّ تردد قد يتسلل إليّ.
خرجتُ من البيت لألتقي الشابين اللذين كنّا خططنا للهرب معاً، أحمد، كان جندياً يخدم في الجيش النظامي قبل أن تُمسك به إحدى كتائب الجيش الحر أثناء إجازته، وبعد التحقيق معه وتعذيبه وإجباره على الانشقاق، جرى إخلاء سبيله بعد دفع أهله فدية مالية كبيرة، لتمسك به بعدها إحدى دوريات الأمن في طريق العودة إلى منزل أهله في مدينة أخرى، لتتم إعادته إلى قطعته العسكرية بعد فترة من التحقيق. و بعد استدعائه للتحقيق عدة مرات لاحقاً، قام بالانشقاق هذه المرة بإرادته.
الشاب الآخر كان خائفاً. كان علينا أن نمشي مسافة شارعين لنلتقي بالرجل الذي سيقلّنا إلى القرية الحدودية. كانت الشوارع فارغة تماماً إلا منّا نحن الثلاثة وبعض القذائف التي تتساقط على شوارعها كمطر ثقيل. وحدنا كنا نمشي كـ"مسحراتيّة" والقذائف كانت طبولنا.
"أغلقوا هواتفكم"، قال لنا السائق، "اخلع قبعتك"، قالها لي دون أن ينظر في أعيننا. ربما كان يخشى أن يحتفظ في ذاكرته بشيء من ملامحنا أو خوفنا في حال أصبحنا جثثاً. صعدنا إلى السيارة وجلستُ بجانبه في المقعد الأمامي، وما إن جلست حتى أخرج مسدساً من جانبه ووضعه بين قدمي. اعتقدت بأنه سيقول لي: انتحر بدل الهرب أيها الجبان.
سألته عن حاجتي للمسدس، منتظراً منه أن يؤكد لي اعتقادي، فأجابني بأنه قد يلزم في حال اعترضنا أحد الحواجز العسكرية المتنقلة، فنضطر حينها لتبادل النيران معهم.
قالها وكأنه يتحدث عن مشاجرة بين مراهقين. لم يدرك بأنني إذا حدث الأمر فعلاً فربما نموت أربعتنا بنيران صديقة.
أخبرته بأن المسدس الوحيد الذي استخدمته في حياتي كان "مسدس خرز"، حين كنت صغيراً. طبعاً لم تكن نكتتي في الوقت والظرف المناسبين، فكان رده سريعاً قبل أن تكمل شفتيّ رسم الابتسامة: "شو مقعّدك من قدام، لكن أنزل اقعد ورا"، وطلب من أحمد، العسكري المنشق، أن يجلس مكاني.
وصلنا إلى البلدة الحدودية دون أن نتعرض لخطر ما. أقمنا في قبو أحد المساجد، كان عبارة عن تجمع للمستعدين للهروب، منشقين ومطلوبين وآخرين لم يبقَ لهم أحداً، مكاناً، أو هدفاً ليبقوا من أجله. كل يوم كان ينقص العدد، كلٌّ منّا يختار بلداً ووسيلة.
كان طريقي إلى لبنان مع عائلة هاربة من القصير في شاحنة صغيرة مكشوفة. طوال الطريق كنت أتأمل الجبال المحيطة بنا والتي لم أتوقع وجودها في بلدنا، وأتساءل في نفسي: "لِمَ عليّ الخروج بهذه الطريقة؟ لِم يمنعني أشخاص من التنقل في بلدي كما أريد، فقط لأنهم يحملون أسلحة؟ ما الذي فعلته؟".
بينما كان الشابان الصغيران يتحدثان عن البقرات التي تركاها في القرية، أحدهم كان يسأل الآخر إن كانوا سيسرقون البقرات، أو يقتلوهم، وأنا كنت أحاول منع نفسي من رميهما من الشاحنة، إلى أن التفت إليّ ذلك الشاب المتخوف على مصير بقراته بشكل مفاجئ: "هل سيقتلونها؟"، فأجبته: "لا.. لن يقتلوها، هم ربّما يقتلوننا إذا صادفونا بعد قليل، لكن أن يقوموا بقتل أو سرقة بقر! لا لِم يفعلون ذلك؟ هم أطيب من ذلك". ابتسم الشاب الذي ربما أحب ألا يفكر كثيراً بما قلته وابتعد بنظره عني ولم ينطق بكلمة واحدة طوال بقية رحلتنا.
قطعنا الحدود وأصبحت خارج البلد. نزلت من السيارة وأنا كتلة من الغبار. وقفت متأملاً الوجوه الغريبة التي تجمعت حولنا، تائهاً لا أعرف أحداً.عامان مضيا على تلك اللحظة، وما زلت إلى الآن أقف مُغبّراً، تائهاً، لا يعرفني أحد، وكأنني استُبدلت بغيري.