لا ريب أن محمود درويش يسكن وجدان الكثيرين؛ سواء كان ذلك عن اطلاعٍ واهتمامٍ بأطوار تجربته الشعرية، أو مجرّد صدىً لظاهرة صوتية جمعت بأسلوبه كلّ ما يُثار في ثنايا القلب. وبينما يسعى النتاج الشعري الفلسطيني للتفلت من ظلال درويش؛ كمهيمن على الاحتفاء الشعبي بشعر المقاومة والمساومة في آن معاً، يطّرد استثمار الشاعر في السنين الأخيرة، نقول الشاعر وليس شعره؛ لأن ركاكة الاستخدام والاستسهال في تحويل قصائده إلى خطابٍ استشراقيٍّ تارةً، وسياسيٍّ تارةً أخرى، يؤكد أنّ هذه المحاولات ليست سوى اتكاء على فلسطينية الشاعر وحضوره الرمزي.
إن حضور درويش في المشهد الدرامي السوريّ ليس طارئاً، وإن اختلفت مراميه تبعاً للظرف والمرحلة. فقد لحّن طاهر مامللي قصيدة "عابرون في كلام عابر" لتكون شارة مسلسل "صلاح الدين الأيوبي" عام 2001، وتبدو هذه التجربة متسقةً مع جوهر العمل، من دون أن ننكر عليها جماليتها الفنيّة، كما أُعيد استخدامها في المشهد الختامي لمسلسل "التغريبة الفلسطينية" (2004).
يعيد مامللي الكرّة في مسلسل "فوضى" هذا العام. ففي الحلقة الثالثة، يحضر صوت درويش كخلفيّة لمشاهدٍ تصوّر حركة النزوح. دمج مامللي مقاطع من قصيدتي "سأقطع هذا الطريق" و" ونحن نحبّ الحياة" بالترافق مع إيقاع صاخبٍ على الغيتار الكهربائي؛ يطغى أحياناً على صوت الشاعر. تحيلنا هذه المشهديّة لكلام درويش في فيلم Notre Musique عام 2004 لـ جان لوك غودار؛ هل الشعر إيماء أم أحد أدوات السلطة؟
يكمن الخلل في تجربة مامللي إبّان العقد الماضي في أمرين؛ الأول أن درويش نفسه هدّأ من نبرة القصيدة في ما تلاها من تصريحات ومقالات، وهي حالة من بين كُثر أعاد بها درويش السياسي ضبط الشاعر المتمرّد فيه، بالتالي لا تتسق مع "رشدي" الذي يمزّق قبوله الجامعي ويختار درب البندقية في نهاية "التغريبة"، أو صلاح الدين بالتأكيد. الجزئية الثانية هي في أن شارة "التغريبة" –لحّنها مامللي أيضًا- من كلمات الشاعر إبراهيم طوقان، قد أُقصيت من المشهد الدرامي لصالح درويش ثم تلتها فوراً؛ فحضور الأخير يأتي بغية إضفاء شعريّة ما، وربما لإضافة ربطٍ مع الشخصية التاريخية لصلاح الدين، وفي الحالتين ما هي إلا حصيلة ضيق زاوية النظر للشعر الفلسطيني عموماً.
لا بدّ من التعريج على قصيدة "درس من كاماسوترا" التي ظهرت في عمل "ليس سراباً" عام 2009 بصوت درويش قبل موت شخصية جلال؛ وهي أنضج الحالات، فقد تآخت مع الحالة الدرامية وصولاً لفناء الشخصية.
هذه القصيدة التي صدرت ضمن مجموعة "سرير الغريبة" يكاد يعتريها الابتذال، فبعد اقترانها مع الثلاثي جبران، أتت أغنية فرنسية ترجمت كلماتها وقدّمتها بتوزيعٍ شرقي، ثم جاء الإصدار الأشهر من نصيب روجر ووترز، عضو فرقة "بينك فلويد"، في ألبومه الأخير: "هل هذه الحياة التي نريدها حقاً؟"، عام 2017.
من اليسير تفكيك ألبوم ووترز على المستوى الفنّي والخطاب الفكري؛ فأصداء أعماله السابقة مع "بينك فلويد" حاضرة في جنبات الإصدار الجديد، فهذا ديدنه منذ انفصاله عن الفرقة؛ وهو الذي أرهق مقطوعات ألبومي "الجدار" و"حيوانات" في حفلاته التي لا تحمل جديدًا على الصعيد الموسيقي، باستثناء قولبتها بصريًّا لتناسب ترامب أحياناً أو مداخلاته السياسية ضمنها، ها هو يعود بعد ربع قرن منذ آخر ألبوماته متدثراً بذات القضايا ومزيدةً بقضية اللاجئين كمادة جذب إنسانية، تُقدّم أغنية Wait for her على أنّها "مستلهمةٌ من ترجمة لكاتب مجهول" لقصيدة درويش، والواقع أنّها محض ترجمةٍ مليئة بالأخطاء؛ على صعيد المعنى والترتيب.
يضيق المكان عن تفصيل كلّ ضياعٍ في الترجمة أو المقاطع المحذوفة، لكن المقطع المُضاف في نهايتها يستدعي التعليق؛ "عندما ينقضي الصدى من تلك البندقية الأخيرة.. تذكر العهد الذي قطعته"، وهي تبدو كجملة اعتباطية من دون الاطلاع على الفيديو كليب الرسمي للأغنية.
يرتبط الفيديو بآخر لأغنية من ذات الألبوم وهي The Last Refugee؛ كلتاهما تتناولان موضوع اللاجئين وتحضر بهما ذات الراقصة بإمضاء ذات المخرج، ما يشكّل ثنائية اللجوء ولمّ الشمل؛ فالانتظار هنا بين أم وابنتها، نموذجٌ رومانسيٌّ قطعًا، خالٍ من الموت، وفي ذلك انفصالٌ عن نصّ درويش ونهايته التي لم يطاولها "الاستلهام"
لحق بهذا الألبوم إًصدار تسجيل منفرد لروجر ووترز يرافقه ثلاثي جبران أثناء إلقاء مقطعٍ من قصيدة "خطبة الهندي الأحمر". جاء التسجيل كردّ فعلٍ على قرار ترامب بنقل السفارة إلى القدس، هذه التجربة تتركنا للحيرة، فالقصيدة لا تلبّي غرض الاعتراض؛ فهي مستقاةٌ من خطاب زعيم هنود الدواميش في دعوةٍ للتعايش وصولاً لتحقيق السلام مع الموتى.
تشي هذه الحالة بقراءة سطحيّة لدرويش لا تدرك الدالّ والمدلول وأبعادهما في سياقٍ استهلاكي لا يبدو أنه سيتوقف عمّا قريب، إذ أنّه ينهل من اقتباسات السوشال ميديا ويعيد تشكيلها كمادةٍ استشراقية سهلة المضغ للغرب، ممهورة بتوقيع عالميّ يعود للشرق ببعض الرضا؛ مرحى! نملك متعاطفين!
في الجانب الآخر، تأتي تجارب الموسيقى العربية البديلة أخفّ وطئًا وأكثر شجاعةً في التعاطي مع شعر درويش؛ الرائج منه تحديداً، فياسمين حمدان عنونت ألبومها الأخير "الجميلات" تيّمناً بقصيدة درويش التي قدّمتها بأسلوبٍ حداثويٍّ جاذب؛ قُيّض للألبوم الاحتفاء الشعبي والنقدي، وتلاءمت أغنية "الجميلات" كاستطالة نسويّة؛ تحيّي التنوّع والجمال في كلّ امرأة.
نلحظ عند تانيا صالح تجربة متنامية، فبعد أن أصدرت "هي لا تحبّك أنت" منفردةً، ذهبت لتجربة أشمل في ألبومها "تقاطع" على الصعيد البصري والسمعي، ضمّ الألبوم أعمال عدة شعراءٍ عرب مثل بيرم التونسي وجبران خليل جبران والسيّاب وقبّاني وآخرين؛ من ضمنهم درويش، ويمكن قراءة تجربتها كمحاولةٍ لافتكاك نموذج الشعر العربي مع الموسيقى الالكترونية من مهادنته الحاليّة لتيّاراتٍ صوفيّة وسايكادليكيّة، من دون أن تكون "فرحاً بشيء ما" لدرويش أو "القصيدة الدمشقية" لقبّاني في مكانة الصدارة بالنسبة للألبوم، بل تشملهم كجزءٍ من حراك اللغة والشعر في المنطقة العربية، وهذا ينمّ عن عدم الخشية في اختيار أكثر القصائد شهرةً لاثنين من أشهر الشعراء ممن حضرت قصائدهم في الألبوم.
يقبع درويش وشعره في خانة الاهتمام، ويتباين القصد مثلما يتباين المنطلق الذي يبارك حضور هذه الأعمال، لكن الحذر يغيب عندما يجدر به الحضور في تناول أعمال شاعرٍ كثير التناقضات متين اللغة، لتبقى تحت عنوان عريض ينحو لتقديمه كشاعر فلسطين؛ الأمر الذي يطغى على "أنا" الشاعر التي كثيرًا ما تغنّى بها درويش ونهض بها فوق القضايا والسرديات الكبرى، فيعود للذهن حديثه مع الصحافية اليهودية في فيلم غودار نفسه: "الاهتمام بنا نابع عن الاهتمام بالمسألة اليهودية، الاهتمام بك وليس بي، وليس لدي أيّة أوهام بهذا الأمر"، كلامٌ يطابق الواقع بالنظر لحملات ووترز المعادية للصهيونية.