محمود عبد العزيز.. لعلّنا نستعيد ضحكته

13 نوفمبر 2016
+ الخط -

تحكي رواية "المحاكمة" لكافكا عن جوزيف ك. الرجل شديد العادية، يستيقظ في يوم عادي ليفاجأ بقرار اعتقاله وتقديمه للمحاكمة من دون توجيه تهمة أو أسباب أو جريمة. صيحة جوزيف في متن الرواية صارت سؤالًا جارحًا: "لكني لست مذنبًا.. كيف يمكن أصلاً أن يكون أي منّا مذنبًا، نحن بشر".

الكاتب والمخرج مدحت السباعي، كان له رأي آخر في هذه الرواية؛ رأى إمكانات كوميدية غير خافية في عالمها، وعالم مصري في تفاصيله. بلد طرق الأبواب ليلًا، والأسرار الأمنية الخفية، وفئة تعيش على الغموض غير المبني على شيء: "العالمون ببواطن الأمور".

هكذا، حوّل السباعي الرواية إلى كوميديا سوداء ليكون فيلم "خلطبيطة" (1993)، تحكي عن إحسان، الذي أدّى دوره محمود عبدالعزيز (1946 – 2016). موظف بسيط في وزارة الثقافة، صاحب الحياة العادية واليوم العادي. تحبه نرجس (ماجدة زكي)، زميلته في العمل، وتخطط للزواج منه. ثم يفاجأ بإحدى الجهات الأمنية تلقي القبض عليه وتوجه له عددًا من الاتهامات وتظل تطارده.

يضطر إحسان إلى التنكر، تارة في زي سائح أجنبي، وتارة في زي امرأة. وعندما يضيق عليه الخناق، يضطر إلى الهرب مع جارته الراقصة زيزي (منى السعيد)، ويظل يتجول معها كصبي في فرقتها.

يعتقل ويقدم للمحاكمة. يتم الإفراج عنه ويحاول بعضهم القضاء عليه ويطلقون عليه البنادق والرشاشات، لكنه يستمر في سيره من دون أن يصاب بمكروه.

هذا شريط سينمائي كان قادرًا على إعادة تأويل كافكا، قراءته بعين طازجة، بتحويل الفكرة الغرائبية إلى بناء كوميدي قريب للغاية من الواقع المصري وتفكيك لمفرداته. من يا ترى كان يمكن أن يكون بديلًا عن محمود عبد العزيز في دور إحسان؟ في التمثيل هنالك "لغة"؛ هذه اللغة ليست في مفردات الحوار، إنما في طريقة إلقائها، في تطويع الجسد وملامح الوجه لتتحول هذه المفردات إلى لحم ودم.

كم جملة يمكن أن تعبر عن نظرة البلاهة والدهشة والتعجب والحذر والخوف في وجه محمود عبد العزيز حين سُئل في الفيلم عن "الحيوان أبو زلومة وتكسب معانا السيخ الذهبي". ردة فعل شديدة البساطة والعفوية، "فيها من كل شيء وليس فيها من أي شيء".

هذا العام شديد القسوة على ذروة السينما الثمانينية المصرية؛ المرحلة الذهبية في السينما المصرية، فقدت عينها الحساسة للمكان، محمد خان. ثم تفقد اليوم واحًدا من أكثر الممثلين المصريين تنوعًا وطزاجة في الأداء؛ محمود عبد العزيز. جمع الراحلين فيلمٌ من الأقل حظا في المشاهدة في مسيرة الاثنين وهو فيلم "نص أرنب".

رحلة شريط محمود عبد العزيز السينمائي هذه لم تكن هينة، بدأ على الشاشة بصورة الشاب الوسيم في فيلم ذي شعبية كبيرة مثل "الحفيد" (1974). يبهت ظله إلى جانب الممثل الشاب الأعلى صيتًا نور الشريف.

لاحقًا، بدأ في إطلاق طاقته التمثيلية في فيلم "العار" (1982) وكأنه يقول: "هنا موهبة كبيرة". كان مع نور الشريف أيضًا، لكن محمود عبد العزيز هنا غير ذلك الشاب الهادئ الوسيم الخجول في فيلم الحفيد.

ثم يجتمع الاثنان مرة ثانية في فيلم "الصعاليك" (1985)، وفيه مثل عبد العزيز إلى جانب نور الشريف كتفا بكتف، وطاقة بطاقة، لم يعد يختفي وراء اجتهاد الشريف، ولم يترك الشاشة ليحتلها وحده. قبل أن يجمع الاثنين فيلم آخر في 1987 وهو "جري الوحوش"، وفيه أكل عبد العزيز الشاشة وحده في دور عبد القوي، وكأنه كان يبني كاريزما تمثيله وينحت طاقته وموهبته الكبيرة بالتجريب السينمائي، ومن ينسى "هو القرد بيتنطط ليه يا دكتور" و"التورلوب" بطريقة عبد القوي ببساطة إدراكه؟

يتحرك محمود عبد العزيز في مسيرته الفنية، بذهنية الشاعر الحذر في اختيار مفرداته، المصرّ على التنوع، الرهان الذي جعله يخوض مغامرة إثر مغامرة، بعيدًا عن "الخيارات الآمنة" لجيله. هذا الثراء البصري والمشهدي نتاج حساسية فنية شديدة الخصوصية. من يعدد خمسة أفلام له يندر أن يتكرر فيلمان لهما نفس الطابع.

يمكن فهم ذلك مع ذروته السينمائية في الثمانينيات، ليقف عندها قليلا ويبدأ في ملحمته التلفزيونية "رأفت الهجان"، القصة المأخوذة من ملفات المخابرات المصرية وكتبها صالح مرسي عن الجاسوس المصري الذي عاش في "إسرائيل" وصار واحدًا من شخصياتها العامة. حسنًا يبدو المسلسل هذه الأيام بعيدًا عن التخيل، خصوصًا مع الحس الوطني اللاهب الذي صار في وقتنا الحالي وسياقنا التفكيكي أمرًا يدعو للسخرية. لكن المشهد في ذلك الوقت لم يكن كذلك: عام 1987، كانت مصر في وقت خمولها السياسي، معاهدة "السلام" مع "إسرائيل" مضت، الوضع الاقتصادي يتدهور، الجماعات الإسلامية المسلحة تعيث في الأرض فسادًا.

يخرج المسلسل إلى النور، فيتجمد الزمن لا في مصر وحدها، لكن في الوطن العربي كله. يُقال كانت تخلو الشوارع وقت عرض المسلسل، ساعة من الترقب، رأفت الهجان أو ديفيد شارل سمحون، أو ياكوف بنيامين حنانيا. الساخر المغامر ساحر النساء، الذي يحمل في قلبه حبين: بلده وأخته.

معظم تجارب ممثلي الثمانينيات السينمائية خبت أو كانت في طريقها لتخبو في التسعينيات وما بعدها، أما محمود عبد العزيز، فكان يبدأ تجريبًا جديدًا مع رأفت الميهي في عدد من الأفلام الفانتازية، مثل "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي".

ومع داود عبد السيد في تحفته "الكيت كات" ورضوان الكاشف في "الساحر" ومحمد كامل القليوبي في "البحر بيضحك ليه" والمشهد الشهير لـ"حسين" بعد أن قرر أن ينفلت ويفجر غضبه ويصفع الجميع: أخته وزوجته وأصدقاءه وزملاءه ورؤساءه وكل من يقابله، صار هذا المشهد منزوعًا من شريطه السينمائي "حلمًا مصريًا" يتداوله الناس كرغبة دفينة.

مثّل عبد العزيز مع عاطف الطيب في "الدنيا على جناح يمامة"، ورغم أنه لا يذكر في أفلام عاطف الطيب المهمة، إلا أنه يُستعاد مؤخرًا، بشخصية "بلحة"؛ المريض في مستشفى الأمراض العقلية، بأوهام عظمته وعُصابه. شكل "بلحة" في الفيلم صار الآن مرتبطًا بصورة الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، وتحول إلى اسم غير رسمي له.

يأتي رحيل محمود عبد العزيز في وقت رديء لمصر، وأحداث رديئة في العالم كله، وكل شيء على حافة الجنون، يأتي رحيله ليذكرنا بما آلت إليه أحوالنا وغياب لحظات لذته الصافية.. لعلّنا نستعيد ضحكته في فيلم "الكيف"، نعيدها مرارًا، نتخيله ينظر إلى البكّائين ويصرف النظر عنهم.

المساهمون