بعد مرور أكثر من عشر سنوات على رحيله، نستذكر محمّد شكري، كاتباً عربياً مؤثراً أَعاد السؤال بقوة إِلى جَسَارة الكتابة من الذَّات في فضاءٍ أَدبي وثقافي عَرَبي محافظ، وذلك من خلال النجاح المُدَوِّي عالمياً لسيرته الذاتية "الخبز الحافي" الأكثر عرياً.
تلك السيرة التي ترجمت إِلى عشرين لُغَة، وحوِّلت إِلى فيلم سينمائي، ثم إلى عمل مسرحي، وفتحت لشكري الطريق نحو شهرة شاسعة فظلت أعماله اللاَّحقة تُتَرجَم إِلى أهم لغات العَالَم، خصوصاً الجُزْأَين الثاني والثالث من سيرته الذاتية، "زمن الأخطاء" و"وُجُوه"، وكذا كتبه عن جَانْ جُنِيه، تينيسي وليمز وبول باولز. ومن ثَم كانت حصيلة ترجماته سِتّاً وأربعين لغة. مُنْجَزٌ لم يتحقق – في حدود علمي – إِلا لِقِلَّةٍ قليلة جدّاً من أدبائنَا من أمثال نجيب محفوظ، وأَدونيس.
عشر سنوات من الغياب الجسدي، لم تُغيِّب صيتَ شكري وصَوْتَهُ، على الأَقل في بلده المغرب وكذا في البلدان الأُوروبية التي تواصلت فيها أو تَجدَّدتْ ترجماتُ أَعْمالِهِ بما يَعْنيهِ ذلك من تجديدٍ للذِّكْرِ والنِّقَاش وتقديم أَعمالِهِ المتجددة في غيابه، خصوصاً في إِسبانيا التي تَوفَّرتْ فيها مترجمة شغوفة بكتابات شكري أعادت ترجمة "الخبز الحافي" وترجمت بتفوق واقتدار أعمالَهُ الأخرى ولا تزال، المترجمة المغربية المقيمة في مدريد رجاء بومدين.
*
حدثان رمزيان لم يَتْرُكَا الذكرى العاشرة تمر بيضاء صامتة، أولهما البرنامج الساهر الذي خصصته الإِذاعة الوطنية في طنجة للحديث عن محمد شكري ورصيده الأَدبي والإنساني وما تبقَّى منه في الذاكرة، في الوجدان وفي الكتب. وكانت المبادرة كريمة وثمينة اتخذها وأَعدَّها ونفَّذها الشاعر والإِذاعي المغربي المرموق عبد اللطيف بنْيَحيَى، وشارك فيها بعضُ أصدقاء الكاتب الراحل. كما أعاد البرنامج الإِذاعي بَثَّ فقرات مسَجَّلة بصوت محمد شكري من برامج سابقة جرت فيها محاورة شكري في نفس الإذاعة، أو من البرنامج الأَدبي الذي كان يقدمه شكري نفسُه في إِذاعة البحر الأبيض المتوسط المغاربية (ميدي آنْ).
الحدث الثاني، كان في الدورة الأَخيرة لمعرض الكتاب بالدار البيضاء (فبراير 2014) حين نظمت ندوة فكرية استعادية للتراث السردي والإنساني الحي لمحمد شكري، وذلك بمساهمة الناقدين محمد برادة وإِبراهيم الخطيب، وإِلى جانبهما المترجمة رجاء بومدين التي قدّمت شهادة شخصية، في أول لقاء مفتوح لها مع الجمهور، عن علاقتها بنص شكري في لغته الجديدة وما يطرحه هذا العبور لصوت شكري المكتوب بتنوع معجمه وطياته اللغوية والدلالية وروحه المُتَفكِّهَة وعري كلماته وجُمله...
ثم فجأة، ينشر الصحافي والكاتب المغربي حسن بيريش كتاب حواراته مع محمد شكري الذي تأخَّر طوال هذه السنوات بسبب تردُّد وتلكؤ بعض الناشرين المغاربة. كتاب "المعيش قَبْلَ المتَخَيَّل: حوارات مع محمد شكري" جاء مع ذلك في وقته حاملاً إِلينا صوت شكري المشاغب، الحاسم في آرائه وأَجوبته، المعتدّ بمكانته الأَدبية الرفيعة وسلطته الرمزية ككاتب انتسب إِلى الأسطورة الأدبية لمدينة طنجة بل وأسهم في صنع هذه الأسطورة، ثم سرعان ما أصبح هو نَفْسُه، هو وحده أسطورة طنجة.
*
والآن، وقد أُعْلِن في طنجة عن تأسيس "مؤسسة محمد شكري"، ووفرت المدينة مقرّاً لهذه المؤسسة وميزانية مالية (على تواضعها البَيِّن)، يحقُّ لنا أن نقول إِن صوت شكري عاد ليعلو من جديد.
كان حلم شكري طوال السنوات الأَخيرة من حياته أَن يعثر على مكانٍ لائق بفكرة مؤسسة ثقافية أدبية تحمل اسمه وتحتضن مجموع مقتنياته (كتب مهداة إليه من كبار أدباء العالم، كتبه في ترجماتها إلى مختلف اللغات، ألبومات صوره، مجموعة الأعمال التشكيلية التي كان يحوزها وبعضها عبارة عن بورتريهات له بفرشاة فنانين مغاربة وأجانب، مخطوطاته، حواراته الصحفية الغزيرة...)، ولكنه أخفق في أن يحقق هذا الحلم مثلما أخفق المغرب الثقافي في أن يحققه له حيّاً وميتاً.
في كتاب حسن بيريش نسمع شكري يقول: "لا أريد أن يكون مصير مقْتَنياتي مثل مصير لوحات الفنان أحمد اليعقوبي، الذي حُجزَ على مسكنه مباشرةً بعد وفاته. وبيعَتْ كلُّ مقتنياته ولوحاته في مزادٍ علني! وبعد ذلك، جاءَ بعضُ المهتمين يبحثون عن أعماله، ومِنْ بينهم ابنَتُه التي أخبرتُها بأن قدومها جاء متأخراً!" (ص 25).
وكأن شكري كان يتحدث عن الراحل اليعقوبي فيما هو كان يحدس مصير مقتنياته. فقد حَدثَ ويحدث ما هو أسوأ لكتبه ومخطوطاته وصوره ومخصوصاته وقد أُلْقِي بها في مَرْآب بيت شقيقه في مدينة مرتيل شمال المغرب ضدّاً على ذاكرة ورغبة الراحل محمد شكري وباسم "الحق في الإِرث" في أسوأ تطبيقاته: أن يموت كاتب فيرثه جَهَلَة لا يُقَدِّرون قيمة الصفحات التي يطؤونها بِنِعَالهم!
*
في نَصِّ رثاءٍ ناعمٍ، جميل وعميق، كانت جُولْيَا كْرِيسْتِيفا قد كتَبتْهُ في توديع صديقها الكاتب والمفكر السيميائي الفرنسي رُولاَنْ بَارْتْ (ما زلت أَستعيدُهُ حتى الآن بغير قليل من التأثر والامتنان)، كانت المُنَظِّرةُ الأدبية والكاتبة والباحثة النفسانية قالَتْ، فيما أَذْكر، إِنَّ جميعَ الذين أَحبُّوا مَيِّتاً، يعيشون بَعْدَهُ جرحاً مفتوحاً يخلقه حدث اختفائه، وذلك بالإِبقاء عليه حاضراً وحيّاً. فالذِّكْرى تَحْتَلُّ الزَّمَن بكُلِّ حضوره الكُلِّي حيث يتداخل الماضي الذي انقطع مع المستقبل المستحيل في كَثَافَةِ الديمومة التي تؤكد الذَّات (je)، الذات التي تتذكر نَفْسَها في الفقيد، وعَبْرَهُ، وعلى حسابِهِ. وهو ما تعتَبِرهُ كْريسْتيفا فَخّاً نرجسياً من ذَهَب بل دينامية مبتذلَةً من الحِدَاد.
وقد قالت الكاتبة ذلك فيما كانت تُلحُّ على أَنْ يَبْقَى الحاضرُ هو البعد الوحيد الذي يمكنها فيه أَنْ تُفَكِّرَ في رولانْ بَارتْ، أَنْ تَقْرأَهُ، وأَنْ تَسْمَعَهُ. ولعلها تساءلت – أَذْكُرُ فحسب – عما إِذا ما كانت قد أَحسِّتْ لدَيْها بانطباعٍ معيَّن، أن هذا الكاتب الصديق يمنَحُنا، أَولاً وأَساساً، صَوْتاً؟
ومن قرأ كريستيفا ويعرف فكرها ودقتها النظرية وإِشارتها إِلى الحاضر على ضوء الماضي كذكرى وكجرح مفتوح، وإِلى المستقبل كاستحالةٍ ؛ ومن قرأ أيضاً مُوريسْ بْلاَنْشُو، وبالأَخص كتابَهُ "الكِتَابُ الآتي" (Le livre à venir) وإِشارته إِلى "المستقبل المستحيل"، سيدرك معنى أَن نبتهج بهذه اللحظة التي جاء بها الحاضر المغربي فَجعَلنا نسمع صَوْتَ شكري، وجعل شكري يَمْنَحُنا صَوْتاً كنا نعتقد أننا فقدناه، بمعنىً مَّا، وأَننا قد لا نستعيدهُ.
* شاعر من المغرب