واللافت أن علي أغ وادوسين، الذي تشتبه فرنسا في كونه العقل المدبّر لاختطاف الرهينة الفرنسي سيرج لازاريفيتش عام 2011، سبق أن أُطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول الماضي مع مجموعة من الجهاديين، من سلطات مالي، مقابل إطلاق سراح لازاريفيتش.
وكانت وزارة الدفاع الفرنسية قد أعلنت في مايو/أيار الماضي مقتل أربعة جهاديين، من بينهم أحد قادة "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، أمادا أغ حما، المشهور بـ"عبد الكريم الطوارقي"، الذي كان وراء قتل الصحافيين الفرنسيين من إذاعة فرنسا الدولية جيزلين ديبون وكلود فيرلون عام 2013. بالإضافة إلى قائد ميداني آخر لتنظيم "أنصار الدين" إبراهيم أغ إيناوالين، المعروف باسمه الحركي "بانا".
وتعززت الانتصارات العسكرية الميدانية ضد القادة الجهاديين بتوقيع "تنسيقية أزواد"، التي تضمّ حركات المتمردين الطوارق والعرب في شمال مالي، على اتفاق "السلم والمصالحة" في باماكو، بعد أن كانت قد قاطعته في 15 مايو الماضي.
اقرأ أيضاً ولد سيدي محمد: آمل العودة إلى تمبكتو
وكلّل التوقيع نجاح المفاوضات استمرت مع "تنسيقية أزواد" من الجانبين الجزائري والفرنسي، بالتزامن مع ضغوط إقليمية ودولية على الحكومة المالية، للاستجابة لمطالب وتحفظات التنسيقية من أجل إنجاح الاتفاق. كما قامت الحكومة بإقناع مليشيات "غاتيا"، المقرّبة من القوات الحكومية، بالانسحاب من مدينة ميناكا، التي سيطرت عليها بعد معارك عنيفة مع المتمردين الطوارق في 28 أبريل/نيسان الماضي، وسلّمتها إلى قوات الأمم المتحدة. كما قامت بإلغاء مذكرات اعتقال في حق 15 قيادياً في "تنسيقية أزواد".
وصبّ الأمر في مصلحة فرنسا، التي تُعتبر "المستفيد الأكبر" من هذا الاتفاق، لأن تصاعد التوتر في شمال مالي، كان وما يزال، يُعرقل حرب الاستنزاف التي تشنّها باريس عبر عملية "برخان" ضد التنظيمات الجهادية وعصابات التهريب في شمال مالي ومنطقة الساحل.
غير أن بعض المراقبين يتحفظون على التفاؤل الفرنسي، الذي انتعش بفضل العمليات الأخيرة التي استهدفت القادة الجهاديين الميدانيين، ومنهم من يرى بأن اتفاق "السلم والمصالحة"، والانتشار العسكري الفرنسي في شمال مالي، دفع بالتنظيمات الجهادية إلى تعديل استراتيجية حرب العصابات، لتكييفها مع المعطيات السياسية والعسكرية الجديدة.
والخميس الماضي نصب "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" كميناً للقبعات الزرق التابعة لقوات الأمم المتحدة قرب مدينة تمبكتو وقتل ستة من عناصرها. وقبل هذه العملية ببضعة أيام قُتل ثلاثة جنود ماليين عند الحدود مع موريتانيا، وتمّ إحراق المباني الحكومية المالية عند الحدود مع ساحل العاج، في عمليتين مفاجئتين تبنّاهما تنظيم "أنصار الدين".
وطرحت هذه العمليات نقطة استفهام كبيرة حول "الانتصارات الفرنسية" الميدانية، خصوصاً أن تنظيم "أنصار الدين" كان قد اختفى عن الأنظار منذ انطلاق "عملية سرفال" في مستهل عام 2013، وانشقت عنه أخيراً مجموعة من المقاتلين الطوارق، الذين التحقوا بـ"تنسيقية أزواد " وشاركوا في مراسم التوقيع على اتفاق السلام.
والواقع أن الزعيم الفعلي لتنظيم "أنصار الدين"، هو إياد أغ غالي وهو من مالي، من طوارق قبيلة "إيفوراس" النافذة في منطقة كيدال. وهو شخصية معروفة بعدائها الشديد لفرنسا، ولم ينضم إطلاقا لمفاوضات السلام، رغم أن السلطات المالية كانت ترغب في ضمّه والعفو عنه، نظراً لتمتّعه بشعبية كبيرة في كيدال، بالإضافة إلى تميّزه بدهاء لافت، جعله على علاقة ببعض استخبارات الدول المحيطة بمالي. كما أن هناك من يدّعي بأن الاستخبارات الجزائرية على علم بمكان اختفائه. وكان إياد أغ غالي قد بدأ مسيرته كمقاوم من أجل استقلال شمال مالي، مع المتمردين الطوارق في مستهلّ التسعينيات من القرن الماضي.
وعام 2006 بعد التوقيع على اتفاق سلام بين المتمردين الطوارق والحكومة المالية، تم تعيينه سفيراً لمالي في السعودية، لكن الرياض طردته عام 2010، بعد الاشتباه بعلاقته مع تنظيم "القاعدة". وعند عودته إلى شمال مالي أسس تنظيم "أنصار الدين"، وبدأ يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في كيدال، متحولاً إلى رمز لـ"المتمرد الطوارقي الذي اعتنق الأصولية المتشددة".
وبدءاً من عام 2012 تقرّب غالي من "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" عند غزوه شمال مالي، وصار "سيد كيدال" وأميرها من دون منازع، وكان وراء العديد من عمليات الخطف التي استهدفت الأجانب في منطقة الساحل. واختفى الرجل بعد التدخل العسكري الفرنسي في شمال مالي، ورغم تردد بعض الشائعات حول موته، إلا أن الاستخبارات الفرنسية، التي تتعقّبه منذ ثلاثة أعوام، متأكدة من أنه لا يزال على قيد الحياة وتريد رأسه بأي ثمن.
وأشدّ ما يخيف قيادة الجيش الفرنسي، بعد العمليتين عند الحدود مع موريتانيا وساحل العاج، هو قدرة الرجل على القيام بعملية تمويه كبيرة والضرب في أماكن غير متوقعة. والكابوس الذي يقضّ مضجع الجيش الفرنسي، وأيضاً الحكومة المالية، هو أن ينقل تنظيم "أنصار الدين" المعركة إلى جنوب مالي، ويقوم بعمليات نوعية في قلب العاصمة باماكو، تزرع البلبلة وعدم الاستقرار وتقوّض كل ما تم بناؤه عبر اتفاق "السلم والمصالحة".
اقرأ أيضاً: مالي .. هل يصمد الاتفاق مع الأزواد؟