مشهدية آيا صوفيا .. عن استدعاء التاريخ وصناعة الذاكرة
قبل نحو شهرين، لم تكن ملايين من الناس، من أجيال وأديان وأقطار مختلفة، قد سمعت بمعلم تاريخي اسمه آيا صوفيا، أو أنها كانت قد سمعت به أو زارته، ولم يعنِ لها شيئاً. لكنّ هذا المعلم أصبح له يوم 24 يوليو/ تموز 2020 حضور عالمي، ودلالة تاريخية ورمزية ذات أبعاد مختلفة متنازع في قراءتها، سياسياً ودينياً وحضارياً. ومأتى هذا التنازع ما يحييه الحدث من ذاكرة تاريخية قديمة وحديثة، تدعو إلى الانتشاء عند فريق أو الألم عند آخر، أو القلق والمراجعة النقدية عند فريق ثالث يرفض رهن المستقبل بذاكرة الماضي، أو يرفض توظيف ما هو مشترك استثماراً لمصلحة خاصة.
احتفاء الملايين في العالم العربي غير الرسمي، وطيف واسع من العالم الإسلامي الرسمي وغير الرسمي بافتتاح آيا صوفيا مسجدا مجدّداً، والرفض الرسمي في الغرب (العلماني) ومن أوساط سياسية ودينية وشعبية أيضاً، يحمل دلالة على قدرة الذاكرة الفائقة على أن تكون فاعلةً في اتجاهات متعدّدة، ليس أدناها إحياء نزاعات نسيتها الأجيال الجديدة، أو لم تمرّ عليها إلا كمعلومة تاريخية، أو أن تكون في الجانب الآخر عامل قوة ودفع حضاري، حين يكون الحدث مدعاة للفخر لأمةٍ ما، ولا سيما عندما تكون تلك الأمة متطلعةً إلى النهوض في مرحلةٍ من الانحدار والتقهقر والتفكّك، وتبحث عن قشّة تعزّز فيها الأمل والثقة، فما بالك بمشهدية تصويرية، تستعيد التاريخ برموزه الدالّة على عز يُحْلَمُ باستعادته في عصرٍ يستسلم فيه قادة العالم العربي لمشاريع وخطط تستهدف ذاكرته وآثاره ومقدساته بالمحو، بل لا يتورّع حكامه عن هدم ممنهج لمعالم بلدانهم الحضارية وذاكرة مدنه وتراثه، لأسباب طائفية أو دينية أو سياسوية أو اقتصادية. ومن السهولة بمكان استحضار أمثلة كثيرة وموثقة عن هذا العبث السلطوي بالذاكرة ومعالمها على مدار العقود الماضية، وصولاً إلى العبث اليومي الراهن، وهو عبثٌ لم يقف عند التراث المادي والمعماري والثقافي، بل تعدّاه إلى العلم وتصور التاريخ القديم والمعاصر، حتى أصبح مقرّر التاريخ في مدارس عربية كثيرة مسخاً رُكِّبَ بما يتناسب مع رؤية السلطة والخلفيات الفكرية التي تستند إليها، هذا فضلاً عن التناقضات التي تُحشى في أذهان الأجيال، فتترك لديهم صورةً مشوّهةً عن ماضيهم وحاضرهم. ولا أزال أذكر من تلك التناقضات التي مررت عليها، عندما كنت طالباً في المرحلة الإعدادية، كيف كان أول عنوان يتناول المرحلة العثمانية في مقرّر التاريخ هو "الفتح العثماني للدول العربية"، وآخر عنوان بعد صفحات هو "نتائج الاحتلال العثماني للدول العربية". هذا فضلاً عن النعوت التي تُضفى على الشخصيات والأحداث، والتي يتنازعها القومي والإسلامي والمحلي. والأمر سيكون أشد تشظياً، عندما تكون البلاد خارجةً من حروب أهلية أو تعيشها، وكل فريق يربّي أجياله على روايته التي يراها.
احتفاء الملايين في العالم العربي بافتتاح آيا صوفيا مسجدا، والرفض الرسمي في الغرب ذلك، يحمل دلالة على قدرة الذاكرة الفائقة على أن تكون فاعلةً في اتجاهات متعدّدة
الحدث المشهدي لعودة آيا صوفيا مسجداً يمكن أن يُقْرَأ شاهداً عملياً حيّاً لما يصنعه استثمار الذاكرة في حاضر الأمم، سلباً أو إيجاباً، وقد صادف ذلك صدور دراسات نظرية ذات صلة في العدد الـ33 لمجلة تبيّن، الصادر أخيراً (يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، والذي ترافق من غير ميعاد مع أحداثٍ تؤكد أهمية ملف العدد عن موضوع دراسات الذاكرة من منظورات تخصّصية متعدّدة، تاريخية وفلسفية وأدبية وسياسية وقانونية. وهو بهذا المسمى "دراسات الذاكرة"، كما توضح مقدمة الملف، حقل حديث من الدراسات، بدأ منذ نهاية السبعينيات، ولا يزال بكراً في الدراسات العربية. وتؤكد مقاربات الملف راهنية الموضوع وأهميته، فبينما يجري الحدث في إسطنبول، تستعيد الخطابات المناهضة في اليونان اسم القسطنطينية، في رمزيةٍ مناهضةٍ، لا للموقف من آيا صوفيا فقط، بل لقرون فقدت فيها القسطنطينية رمزية اسمها. وفي المقابل، تستحضر ورقة منشورة في الملف، محاولات الطمس الصهيوني لأسماء المدن والقرى الفلسطينية، التي تستند إلى محو الذاكرة الثقافية والتاريخية للقرى الفلسطينية، وتستبدلها بأسماء الأماكن التوراتية والتلمودية، وتنتهي إلى أن الحفاظ على ذاكرة المكان هي الضامن لاستمرار هويته الأصلية التي تعاقبت عليها شعوبٌ مختلفة، فيصبح التذكّر في حالاتٍ كهذه واجباً والنسيان جريمة، كما هو الحال نفسه بالنسبة إلى الجرائم ضد الإنسانية والحروب والتعذيب، حيث يصبح النسيان والتغطية جريمةً فوق الجريمة الأصلية. وحتى قانونياً، لا تخضع ذاكرة العدالة للنسيان والتقادم. وفي المقابل، يمكن القول، مع دراسة أخرى في ملف مجلة تبيّن، أن النسيان يصبح واجباً من زاوية كونه ممارسة نقدية تجاه الذاكرة والتاريخ، ولا سيما عندما يكون ما نتذكره عبئاً أو عائقاً أمام صناعة حاضر أو مستقبل أفضل.
بالنسبة إلى الجرائم ضد الإنسانية والحروب والتعذيب، يصبح النسيان والتغطية جريمةً فوق الجريمة الأصلية
التذكّر والنسيان ظاهرة حتمية في حياة الأفراد والأمم، لا خيار لهم فيها، فتحضر أشياء من الماضي وتغيب أخرى، تحضر وتغيب طوعاً أو كرهاً، ولئن كان العلاج النفسي يعتمد على هذا البعد من النفس الإنسانية، لاكتشاف المشكلة أو علاجها، فإن من شأن الأمم الناهضة والفاعلة أن تمتلك رؤية شبيهة لتشخيص مشكلاتها الحضارية وعلاجها، فلا تترك النبش في التاريخ يعبث بذاكرة الأجيال، فالنقاط السوداء في ذاكرة الفرد إن تركت ندوباً في نفسيته، فمن شأن الوعي بها أيضاً أن يكون مدخلاً لعلاجها. المهم في الأمر أن يكون الإنسان صريحاً في تشريح ذاكرته، وفهم تجاربه كما هي، لا كما يريد أن تكون، وكذلك الأمم.
يمكن أن تُستحضر في هذا السياق مقارنة لنموذجين، لاستحضار شخصيات تاريخية في حاضرنا، وكيف يمكن أن يكون إحياء الذاكرة في كل فاعل، سلباً أو إيجاباً. قبل سنوات، احتفلت ألمانيا والعالم المسيحي البروتستانتي بمرور 500 عام على وفاة مارتن لوثر، ولم تكد تخلو مدينة أو مؤسسة فكرية أو ثقافية من فعالية أو نشاط احتفاءً بذكراه، فضلاً عن المعالم التي تحمل اسمه على امتداد البلاد من قبل، فحضر لوثر في الفضاء العام بوصفه المصلح الديني، والشخصية التي قادت تحولاً تاريخياً في المسيحية، وفي أوروبا عموماً. وغابت جوانب من شخصيته وتاريخه تتصل بمواقفه من الطوائف والأديان الأخرى، التي أقلّ ما توصف به أنها إقصائية، أورثت حروباً وصراعات طائفية معروفة، وهي مواقف لو أُخِذت حدّتها معياراً وحيداً للحكم على شخصيته، لكان الاحتفاء به مثار خجل، ولأسدل الستار على شخصيته، إلا ممّن يتبنى تلك الأفكار الطائفية. ولكن التعامل المتوازن والمنهجي وغير الموتور أبرز من شخصية لوثر ما يمكن استثماره والبناء عليه، وتُركت الجوانب الملتبسة لقاعات البحث والمؤسسات العلمية لتناقشه بكل أريحية، من دون أن يقضي جانبٌ من شخصيته على الآخر.
الحدث المشهدي لعودة آيا صوفيا مسجداً يمكن أن يُقْرَأ شاهداً عملياً حيّاً لما يصنعه استثمار الذاكرة في حاضر الأمم، سلباً أو إيجاباً
وفي المقابل، النموذج الثاني شخصية شبيهة بمارتن لوثر، من حيث دور كل منهما في سياقه وانتمائه والتباس أوجه شخصيته. إنه ابن تيمية الذي استعيد حضوره في الأشهر الماضية، وكان حضوراً مأساوياً من حيث الطريقة التي جرى استدعاؤه بها، فعوض أن يكون نموذجاً إيجابياً للأجيال في ما كان ملهماً به من دوره التاريخي، وموضعاً للبحث في ما هو ملتبسٌ من شخصيته، جرى استدعاؤه لمحاكمة تاريخية سياسية بهواجس معاصرة، تجعل منه وجهاً واحداً إيجابياً بالمطلق أو سلبياً بالمطلق. وجرى تقديمه طرفاً في صراعاتٍ عبثيةٍ معاصرة، يستدعي كل طرف منها ابن تيمية كما يتخيله، ويتمنّى أن يكون لا كما كان فعلاً. وهذه الطريقة في استدعاء التاريخ والشخصيات هي ما يمكن وصفه بأنه العبث بالذاكرة وتوريث الأجيال تناقضات لا يُبنى عليها مستقبل، إذ تنوء بثقل تراثٍ مُحرِج، لا يصلح للبناء عليه، من دون انحياز ما، أو اختيار الأسوأ، وهو القطيعة معه.
بكلمة، يمكن القول إن التاريخ قَدَرُ كل أمةٍ لا يمكنها الفكاك منه، وهو كحاضرها، فيه كل ألوان النجاح والفشل، وإذا لم تُحسن أمةٌ ما صناعة ذاكرتها وصيانتها، ستبقى أسيرة الفشل وعبء الماضي. إن مشهدية آيا صوفيا جزء من سياسة الذاكرة المدروسة للأمة التركية بشكل خاص، وأي استثمارٍ لها خارج هذا السياق من دون وعي تاريخي يبقى نوعاً من العبث، لكن أيضاً إنه من المفهوم بقوة أن تحتفي بالحدث شعوبٌ أخرى تشعر بانتماءٍ مشترك إلى هذا التاريخ، وهي ترزح أمام سياساتٍ تُصَحِّر ذاكرتها، وتعبث بها، فيحقّ لها أن تجدّد أحلامها بعزة حضارية افتقدتها، ولا تجد من يسعى إلى استعادتها، وإن بصورة بديلة.