تحتشد رواية "بعد القهوة" للروائي المصري عبد الرشيد محمودي، والتي فازت عام 2014 بجائزة الشيخ زايد للكتاب (فرع الآداب)، بعدد كبير من الشخصيات. لكن هذه الشخصيات الكثيرة المتنوعة والمتباينة، التي تنتمي لأجيال وبيئات وثقافات مختلفة، تؤثث المشهد لحركة بطل الرواية "مدحت". فالرواية تنتمي إلى ما يسمى في تاريخ السرد بـ "رواية تكوين الشخصية" Bildungsroman، أي إلى ذلك النوع من الكتابة الروائية الذي يتركّز حول تطور الحياة العاطفية والنفسية والعقلية والأخلاقية لشخصية تعبر الزمان من الطفولة إلى الصبا، فالشباب والكهولة، وصولاً إلى الشيخوخة أحياناً. ويعمل الروائي، من خلال سرد تفاصيل التربية العاطفية والنفسية لشخصيته المركزية، على تصوير التفاصيل الصغيرة الكاشفة التي تجلو لنا طبيعة الشخصية وتفاعلها مع البيئات المحيطة، والتحوّلات والتغييرات الجوهرية التي تصيبها وهي تعبر الأزمنة وتُلِمّ بالأمكنة. وقد سعى محمودي إلى الاستفادة بصورة بارزة من هذا النوع الروائي، الذي شاع في الرواية الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين، ليصوّر حياة "مدحت" الذي ولد في عائلة بدوية مصرية، وأصبح يتيم الأبوين، لتتلقفه امرأة يونانية تدعى ماريكا وتعيش في مدينة الإسماعيلية في أربعينيات القرن الماضي. ويرسم المؤلف تفتّح وعي الطفل النابه على عالم مختلف، بعد انتقاله من قريته الصغيرة، إلى عالم المدينة الكولونيالية الكبيرة التي تتجاور فيها البيئات الاجتماعية والجنسيات والإثنيّات واللغات والثقافات، بصورة يبرز فيها الانقسام الحاد بين هذه العوالم خلال فترة الاحتلال البريطاني لمصر قبل ثورة 1952.
لكن محمودي لا يهتم كثيراً في روايته بالصراعات السياسية الناشبة في أربعينيات القرن الماضي، بل بتفتح وعي شخصيته، وتحوّلها العاصف والجذريّ من خلال رعاية المرأة اليونانية المتزوجة من مصريّ مسلم هام بها حبّاً، وناصب هذا الطفل القروي الدميم العداء، عندما وجده في فراشه يفصل بينه وبين معشوقته، حيث يلعب توق المرأة لوجود طفل في حياتها الدور الأساسي فيما حققه مدحت من تعليم وتطور نفسي وعاطفي، وقدرةٍ على التعايش مع الواقع الحضريّ المدينيّ في مسيرة حياته التي بدأت في القرية وتواصلت في المدينة، وتعدّت حدود مصر إلى أوروبا، إلى واحدة من حواضرها الثقافية والموسيقية، أي مدينة فيينا النمساوية التي تنتهي إليها خطى الشخصية لتحاول تعلّم العزف وتذوق الموسيقى وامتلاك المعرفة النظريّة بها.
يسعى محمودي، في روايته اللافتة التي تعيد لنوع رواية تكوين الشخصية في تاريخ الكتابة الروائية العربية، زخمها الذي انقطع منذ زمن بعيد، إلى المزج بين أشكال مختلفة ضمن هذا النوع: رواية "التربية العاطفية"، ورواية التعلّم واكتساب الخبرة، ورواية تشكّل الذات، وصولاً إلى الحديث في نهاية "بعد القهوة" عن تحوّلات شخصيّة الكاتب ونضوجه الفنّي وطموحه إلى كتابة رواية مختلفة. إن الطفل مدحت، وهو ثمرة زواج أبيه الفلاح من أمه البدوية "بنت العرب"، يتنقّل شبه عارٍ مع كلبه "فريد" بين أهل أبيه وأهل أمه، وهو أقرب ما يكون إلى الطبيعة الأصليّة وبداهة الوجود، حيث تبدو عليه منذ بواكير الطفولة علامات النباهة. لكنه، بعد انتقاله إلى مدينة الإسماعيلية، ثم مدينة "أبو كبير"، يختبر أشكالاً مختلفة من العيش، ويكتسب خبرات عاطفية ونفسية وأخلاقية ومعرفية، تؤهّله لعبور الضفة من الشرق إلى الغرب، ومن عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة. ويهيئنا الكاتب، في القسم الأول من الرواية الذي يركز على حياة القرية وانهيار عالم عائلة "مدحت" البدوية ذات الشأن في الماضي، لهذا الانتقال من الشفويّة السرديّة، إلى التأمّل الفلسفيّ، والقراءة المقارنة للأديان، عندما يعثر الصبيّ على الكتاب المقدّس وروايتي "تاييس" لأناتول فرانس و"السيمفونية الرعوية" لأندريه جيد، وهي المصادر الثقافية التي غذت خياله الجامح وجعلته يترجّح على حافة الهاوية التي يقيم على ناصيتها فعلا الرغبة والتوبة اللذان يقضّان مضجع البطل على مدار هذا العمل، ويرسمان في النهاية مساره الشخصيّ باعتناق الكتابة، والتأليف الروائي، وعشق الموسيقى ومحاولة تعلّمها في عاصمتها المتوّجة فيينا في المرحلة التي تفصل في حياته بين الكهولة والشيخوخة.
يتركّز منطوق القسم الأخير من العمل (أي ذلك الذي تجري أحداثه ومصادفاته في فيينا) حول لقاء الراغب بالمرغوب، الحلم بموضوع الرغبة، والشرق المحروم بالغرب الواعد، في معادلة معقدة لا يبدو فيها الغرب معادياً، بل يبدو جزءاً لا غنى عنه من حياة الشرق المتمثّل في لقاء مدحت بدبلوماسي بوسني عتيق، عمل في القاهرة ودمشق، مع ابنتيه الجميلتين اللتين ولدت كلٌّ منهما في واحدة من هاتين المدينتين الشرقيتين. فهل يعني ذلك أن حلم البطل بالغرب، أو رغبته في الغرب، ترتد لتصبح جزءاً من الحلم الغربي بالشرق في مستوى من مستوياته المعقدة: المرأة الواعدة الممتنعة، الشرقية الغربية في الوقت نفسه، الحلم والوهم في العلاقة بين مدحت والأخت الكبرى الأقل جمالاً؟ إن التوتر الذي تصنعه هذه الأحداث والأسئلة هو الذي يجعل القارئ يتناسى جرعة المصادفات الثقيلة التي تنتهي بها رواية عبد الرشيد محمودي.
فخري صالح، ناقد أدبي- الأردن
لكن محمودي لا يهتم كثيراً في روايته بالصراعات السياسية الناشبة في أربعينيات القرن الماضي، بل بتفتح وعي شخصيته، وتحوّلها العاصف والجذريّ من خلال رعاية المرأة اليونانية المتزوجة من مصريّ مسلم هام بها حبّاً، وناصب هذا الطفل القروي الدميم العداء، عندما وجده في فراشه يفصل بينه وبين معشوقته، حيث يلعب توق المرأة لوجود طفل في حياتها الدور الأساسي فيما حققه مدحت من تعليم وتطور نفسي وعاطفي، وقدرةٍ على التعايش مع الواقع الحضريّ المدينيّ في مسيرة حياته التي بدأت في القرية وتواصلت في المدينة، وتعدّت حدود مصر إلى أوروبا، إلى واحدة من حواضرها الثقافية والموسيقية، أي مدينة فيينا النمساوية التي تنتهي إليها خطى الشخصية لتحاول تعلّم العزف وتذوق الموسيقى وامتلاك المعرفة النظريّة بها.
يسعى محمودي، في روايته اللافتة التي تعيد لنوع رواية تكوين الشخصية في تاريخ الكتابة الروائية العربية، زخمها الذي انقطع منذ زمن بعيد، إلى المزج بين أشكال مختلفة ضمن هذا النوع: رواية "التربية العاطفية"، ورواية التعلّم واكتساب الخبرة، ورواية تشكّل الذات، وصولاً إلى الحديث في نهاية "بعد القهوة" عن تحوّلات شخصيّة الكاتب ونضوجه الفنّي وطموحه إلى كتابة رواية مختلفة. إن الطفل مدحت، وهو ثمرة زواج أبيه الفلاح من أمه البدوية "بنت العرب"، يتنقّل شبه عارٍ مع كلبه "فريد" بين أهل أبيه وأهل أمه، وهو أقرب ما يكون إلى الطبيعة الأصليّة وبداهة الوجود، حيث تبدو عليه منذ بواكير الطفولة علامات النباهة. لكنه، بعد انتقاله إلى مدينة الإسماعيلية، ثم مدينة "أبو كبير"، يختبر أشكالاً مختلفة من العيش، ويكتسب خبرات عاطفية ونفسية وأخلاقية ومعرفية، تؤهّله لعبور الضفة من الشرق إلى الغرب، ومن عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة. ويهيئنا الكاتب، في القسم الأول من الرواية الذي يركز على حياة القرية وانهيار عالم عائلة "مدحت" البدوية ذات الشأن في الماضي، لهذا الانتقال من الشفويّة السرديّة، إلى التأمّل الفلسفيّ، والقراءة المقارنة للأديان، عندما يعثر الصبيّ على الكتاب المقدّس وروايتي "تاييس" لأناتول فرانس و"السيمفونية الرعوية" لأندريه جيد، وهي المصادر الثقافية التي غذت خياله الجامح وجعلته يترجّح على حافة الهاوية التي يقيم على ناصيتها فعلا الرغبة والتوبة اللذان يقضّان مضجع البطل على مدار هذا العمل، ويرسمان في النهاية مساره الشخصيّ باعتناق الكتابة، والتأليف الروائي، وعشق الموسيقى ومحاولة تعلّمها في عاصمتها المتوّجة فيينا في المرحلة التي تفصل في حياته بين الكهولة والشيخوخة.
يتركّز منطوق القسم الأخير من العمل (أي ذلك الذي تجري أحداثه ومصادفاته في فيينا) حول لقاء الراغب بالمرغوب، الحلم بموضوع الرغبة، والشرق المحروم بالغرب الواعد، في معادلة معقدة لا يبدو فيها الغرب معادياً، بل يبدو جزءاً لا غنى عنه من حياة الشرق المتمثّل في لقاء مدحت بدبلوماسي بوسني عتيق، عمل في القاهرة ودمشق، مع ابنتيه الجميلتين اللتين ولدت كلٌّ منهما في واحدة من هاتين المدينتين الشرقيتين. فهل يعني ذلك أن حلم البطل بالغرب، أو رغبته في الغرب، ترتد لتصبح جزءاً من الحلم الغربي بالشرق في مستوى من مستوياته المعقدة: المرأة الواعدة الممتنعة، الشرقية الغربية في الوقت نفسه، الحلم والوهم في العلاقة بين مدحت والأخت الكبرى الأقل جمالاً؟ إن التوتر الذي تصنعه هذه الأحداث والأسئلة هو الذي يجعل القارئ يتناسى جرعة المصادفات الثقيلة التي تنتهي بها رواية عبد الرشيد محمودي.
فخري صالح، ناقد أدبي- الأردن