بعد نشر مقال "المبادرة السياسية.. فريضة مصرية غائبة"، تلقيت العديد من التعليقات المُعترضة على المقال بدعوى أنه لا حل سياسياً للأزمة المصرية، قبل تحقيق القصاص للشهداء، باعتبار أن هذا هو مطلب الشريعة وهدف الدين وحق الوطن!.
شعار الرافضين للحلول السياسية للنزاع في مصر، هو "يا نجيـــب حقهــم يا نمـــوت زيهـــم"، و"لا بناء على الدماء " و"القصاص.. القصاص"، فهل فعلاً القصاص هو مطلب الشريعة الإسلامية الوحيد واجب النفاذ والتطبيق والذي سيحقق العدالة والاستقرار؟ وهل حقاً النزاعات السياسية الدامية لا يمكن حلها إلا بالقصاص وعدم التسامح مع الجناة؟.
نبدأ أولاً بتفكيك المُسلمة القائلة بأن الإسلام أوجب القصاص كسبيل وحيد لمعالجة آهات الثكالى، وأوجاع المكلومين وعناء المظلومين؛ فأصحاب هذه الفكرة ينطلقون من قوله سبحان وتعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179).
بعد رجوعى للعديد من التفاسير وجدت القول بأن القصاص من الجناة، هو وجه الشريعة الوحيد واجب الاتباع ليس صحيحا؛ بل وجدت أن فضاء الشريعة أرحب وأوسع مما يتخيل بعض الناس؛ ويكفي للتدليل على ذلك نقل كلمات المفسر، محمد رشيد رضا، في كتابه "تفسير المنار" عندما تكلم عن قضايا القصاص والدماء فقال: "وقد تقع صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارّاً وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب ألا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو بلد إلى أن صار أولياء المقتول منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع، فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان".
ولمعالجة الاعتراض الثاني القائل بأنه لا سبيل لتجاوز النزاعات السياسية الدامية وتحقيق الاستقرار والعدالة إلا بالقصاص وعدم التسامح مع الجناة، فمن خلال استعراضي للخبرات السياسية التاريخية والمعاصرة وجدت أن هذا القول يصطدم بحقائق التاريخ ووقائع الجغرافيا؛ فالتجارب التالية تقوض هذا القول تماما وفق التالي:
اقرأ أيضاً: مصر.."العربي الجديد" يكشف من هو والد قاضي "الرشوة الجنسية"
أولاً: تجربة المناضل علي عزت بيجوقتش
وقع رئيس وزراء البوسنة الراحل، علي عزت بيجوقتش في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1995، على اتفاقية دايتون للسلام والتي بموجبها قسمت البوسنة بين صربيا وكرواتيا؛ وذلك بعدما فقدت البوسنة قرابة ربع مليون مسلم معظمهم من الأطفال والنساء والعجائز في الصراع، وتم تشريد أكثر من مليوني شخص. وعلى الرغم من دعوات الشعب البوسني للاستمرار في الصراع من أجل حقوق الشهداء الذين سقطوا في المذابح الجماعية التي ارتكبها الصرب، أقدم الزعيم علي عزت على التوقيع على هذه الاتقافية، لأن بصره كان متعلقاً بالمستقبل؛ فكان همه الأول وقف النزيف المتصاعد في شعبه، وتأمين حلم الأجيال البوسنية الشابة، خاصة في ظل ميزان عسكري وسياسي غير متكافىء بين أطراف الصراع.
ثانياً: تجربة الزعيم نلسون مانديلا
أدرك مانديلا بحسه المُرهف وتجربته النضالية السامية مدى حاجة شعبه للتطهر من الضغينة وحب الانتقام والكراهية، وخاصة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري؛ فحجم المعاناة والإهانة والتعذيب الذي قامت به الأقلية البيضاء في حق الأغلبية السوداء رهيب ومهين ومؤلم، ولو استجاب مانديلا ساعتها لنداءات الانتقام والقصاص الهوجاء لوقعت جنوب أفريقيا في حمامات من الدماء، ومن أجل تجاوز ذلك السيناريو القاتل تكونت محاكم الحقيقة والمصالحة، (1996 - 1998)، بقيادة القس، ديزموند توتو، وكان هدف هذه المحاكم بث روح التآخي من خلال طي صفحات أربعة قرون من ظلم المستوطنين البيض للسود، وفتح صفحة إنسانية من تآخي السود والبيض، فمانديلا كان متعلقاً بالمستقبل ومنحازاً إليه دائما، رغم المعاناه والألم وحياة السجون، وعندما كان يضع أولى خطواته خارج السجن قال: "أدركتُ أنّني لو لم أترك مرارتي ومقتي خلفي، فإنّني كنت سأظل سجيناً حتى الآن".
اقرأ أيضاً: "عقيدة الصدمة".. عصا السيسي السحرية لتمرير قوانينه وقراراته
ثالثاً: نظام غاكاكا القضائي
لمعالجة أدواء الحرب الأهلية الرواندية في عام 1994، والتي بلغ عدد ضحاياها قرابة 800 ألف شخص، اعتمدت القيادات السياسية في البلد النظام القضائي التقليدي "غاكاكا"، وهو نظام مصمم لتحقيق التسامح بين الناس ويسمح لهم باستئناف العيش المُشترك.
في هذا النظام القضائي يتم جمع القرية بأكملها ليشهد سكانهاعلى عمليات الاعتراف، وعلى صدقيتها، ولتشجيع الضحية على الصفح والغفران، والاتفاق على بعض التعويضات مثل المساعدة في حراثة حقل الضحية لفترة من الوقت، وقد نجح هذا النظام إلى حد كبير في تحقيق التصالح والاستقرار، وجعل احتمال وجود طبقة سياسية تحرض في المستقبل الهوتو والتوتسي على تبني أساليب العنف يبدو ضئيلا.
اقرأ أيضاً: بانتظار المصالحة مع الرئيس المؤمن صدقي صبحي
رابعاً: عفو الرسول صلى الله عليه وسلم
دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا في العام الثامن من الهجرة، راكباً على راحلته وهو يضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، ودخل المسجد الحرام، ومن حوله المهاجرون والأنصار فاستقبل الحجر الأسود، وطاف بالبيت وفي يده قوس يطعن به الأصنام الموجودة بالحرم ليحطمها، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا"، ودخل الكعبة وطهرها مما كان بها من الصور، ثم صلى فيها ركعتين ثم خطب فقال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: "خيرًا أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم"، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء!.
هذه تجربة النبي، صلى الله عليه وسلم، في بناء المستقبل، بعيداً عن ثقافة الانتقام والكراهية، إذ لم يطلب الرسول من قريش القصاص لمقتل عمه، حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، ولم يفرض عليهم تعويضاً عن قتل آل ياسر في بطحاء مكة، ولم يأخذ منهم ديات شهداء غزوة أحد الكرام، لأنه كان يؤسس لمستقبل جديد واعد منحاز للعدالة والتسامح والحرية والكرامة الإنسانية.
المستفاد من هذه التجارب السابقة هو أن القادة السياسيين المصريين سواء من هم في السلطة، أو في المعارضة، يجب عليهم أن ينحازوا لصوت الحكمة والتسامح، وأن يمتلكوا شجاعة الإقدام على اتخاذ مواقف سياسية نبيلة تتجاوز ثقافة الكراهية والانتقام وتنحاز للمستقبل وتؤمن حياة أفضل للأجيال الصاعدة، بعيداً عن ثقافة القتل والتخوين، وأن لا يعلقوا عجزهم في إبداع الحلول على شماعة القصاص؛ فمقاصد الشريعة ومبادىء الوطنية تدفعان للتسامح والعفو طالما أن ذلك في صالح سيادة الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لكل أبناء مصر.