خلال الأسبوع الماضي، نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس مجلس الوزراء، الخاص بتنظيم إقامة الحفلات والمهرجانات. نص القرار على عدم جواز تنظيم أو إقامة مهرجان أو احتفال إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من وزارة الثقافة، والتي ستشكل لجنة عليا متخصصة لهذه القرارات فقط، برئاسة وزير الثقافة وممثل من كل وزارات الخارجية والداخلية والمالية والسياحة والآثار والطيران المدني والشباب والرياضة والتنمية المحليّة، وتضمنت أيضاً الشروط أن الشركة المتقدمة لتنظيم حفلة أو مهرجان يجب أن يكون مالكها مصرياً، أو له النسبة الأكبر، وألا يقل رأس مال الشركة عن 500 ألف جنيه مصري.
كل هذه العقبات والتدخلات غير المبررة من وزارات ليس لها علاقة بالمنتج الثقافي أو الفني أو الموسيقي، ومع إمكانية السيطرة التامة من الدولة على المشهد الثقافي والموسيقي، جعلتنا نطرح سؤالاً: هل تهاب الدولة من الموسيقى؟ وهل حقاً الموسيقى يمكن أن تكون مصدر قلق لها؟ منذ زمن بعيد، والدولة تمنع أغاني أو كلمات معينة، مثل ما حدث عند نفي سعد زغلول خارج البلاد، وتحايل سيد درويش على الموقف، بمساعدة رفيقه يونس القاضي، وقدموا طقطوقة "يا بلح زغلول"، بصوت نعيمة المصرية، وإلى الآن تستمر الرقابة في منع أغانٍ بسبب كلماتها السياسية أو الخادشة للحياء من منظورهم الشخصي، ومنع مطربين من إقامة حفلات بسبب انتماءاتهم السياسية، أو أغانيهم.
في الفترة الأخيرة، لم يقف الوضع عند منع أغنية، بل وصل الأمر إلى حبس المطربين، مثل ما حدث مع مطربة "سيب إيدي"، أو حبس مطربي مهرجان "زوقه زقه". أصبح واضحاً أن الدولة تتجه إلى تدشين مرجعية أخلاقية إلزامية على الجميع، والإبداع، بغضّ النظر عن قيمته الفنية، لا بد أن يكون متوافقاً مع سياسة الدولة، التي تستنبط قراراتها من الوعي الجمعي للشعب، باسم الأخلاق والدين والعادات والتقاليد. وأخيراً كان حبس كل من له علاقة من قريب أو بعيد بالمطرب رامي عصام، بعد تقديمه أغنية سياسية ساخرة، بخاصة أن عصام نفسه يعيش خارج البلاد.
في ظل ندرة الأغنية السياسية المعارضة في تلك الفترة، إلا أن الدولة تمنع حفلات كثيرة، بخاصة لفرقة "كايروكي"؛ تمنعها من دون أي سبب، تمنعها في اللحظات الأخيرة، مع أن أغاني كايروكي الأخيرة كانت بعيدة من الأغنية السياسية الحقيقية، كانت تحمل شعارات عامة ودعوة للحرية بشكل عام، رغم ذلك كان المنع للألبوم أو منع حفلاتهم، دليلاً واضحاً من الدولة على رفضها تلك الحفلات. ومع القرار الجديد لتنظيم الحفلات، أصبح من المستحيل أن تنظَم حفلة أو مهرجان من الأساس، خصوصاً إذا كانت الدولة تضع شروطاً تعجيزية. أيضاً، يأتي القرار بعد فترة من حفلة "مشروع ليلى" وما أثارته هذه الحفلة من دعم لحقوق المثلية الجنسية، وهجوم الإعلام على الحفل وعلى الحاضرين، وحبس بعض الأشخاص، وهجوم عليهم من المجتمع على وسائل التواصل الاجتماعي.
كل هذه الأسباب كانت ذريعةً لخروج قرار مثل ذلك، لكن في ظل تطور الإنترنت ووسائل النشر، التي أصبح من الصعب تقنينها رغم محاولات من الدولة أيضاً لوضع قوانين لتلك الأمور، أو حتى من دون الاحتياج إلى وضع قوانين واضحة وصريحة لمنع أي تعبير خارج عن سياسة الدولة، لكن أصبح من الصعب منع انتشار أي شيء.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الموسيقى تؤثر في الشعب، وتشكّل دافعاً كبيراً له؛ هي تؤثر كأي عمل إبداعي، يحكي ويؤرخ لما يراه الإنسان بطريقته الخاصة، يطرح التساؤلات ولا يجيب عنها، يضع المواطن في مواجهة مع نفسه، أعمال إبداعية تعبر عن غضبه تارة وعن مشاكله وهمومه ومخاوفه. يمكنك قياس ذلك من الناحية العكسية، والنظر إلى تأثير أغنية مثل "بشرة خير" في المواطن، ومثل ما كانت هناك أغان كثيرة عن ثورة يوليو/تموز 52 والنكسة من مطربي الدولة، كان هناك الشيخ إمام يحكي التاريخ من وجهة نظر أخرى ويطرح تساؤلات لتغيرها أو لرفضها على الأقل تقدير.
لكن مع القرارت الجديدة، أصبح الموضوع أكبر من فكرة أن الدولة تهاب الموسيقى، الدولة الآن لا تهاب شيئاً أو أحداً، الدولة تمضي في طريقها للسيطرة على كل شيء، له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، محاولةً الرجوع إلى دولة يوليو في بدايتها، والسيطرة على كل منافذ الإبداع، أو أي طريقة للتعبير فنية كانت أو صحافية أو إعلامية، حدث ذلك أيضاً بعد الثورة، عندما منع مهرجان "الفن ميدان" بعد تحقيق نجاح كبير، رغم أنه لم يكن ليحمل أي شكل سياسي، وكان مهرجاناً فنياً بالأساس.
عند النظر إلى الوضع العام ككل، نجد ما حدث لمجموعات الألتراس وحبس أفرادها، وتضيق الخناق عليهم، حتى يعلنوا وقف نشاطهم، ومع حبس الصحافيين وغير الصحافيين فقط؛ لأنهم عبروا عن آرائهم السياسية، ومع هذه القرارت، يتضح أن الأمر أكبر من فكرة إقامة حفلة أو مهرجان، أو مراقبة العمل الفني والإبداعي، الدولة تهاب من أي تجمعات شبابية، أياً كانت أفكارهم أو إبداعهم، أو انتماءاتهم، ولن تسمح بأي تجمعات تكون خارجة عن سياستها العامة، والأخلاقيات التي تدعو إليها.
الدولة حقاً، رغم كل ما وصلت إليه من السيطرة على الأمور، ما زالت تهاب الشباب وتجمعاتهم، وتضع قوانين لذلك، ليبقى الأمر دستورياً. وهنا بالضبط، يأتي دور الموسيقى والأغاني؛ فكانت هي الملجأ الأول لهتافات الشعب إبّان ثورة يناير 2011، كانت أغاني الشيخ إمام الأكثر حضوراً في الميدان، وانبثقت من الميدان، ميدان التحرير، فرق موسيقية كثيرة، وأخرى لم تكن معروفة من قبل، تعرّفنا إليها أثناء الثورة وبعدها، وحتى مغنون أفراد لم نسمع بهم قبل الثورة، عرفناهم بعدها، مثل حمزة نمرة ورامي عصام وغيرهما.