إضافة إلى وثائق الاعتقال، تضمّنت أوراق نيسمان، ملفاً من 26 صفحة، وُجد ملقياً في أحد صناديق القمامة بالقرب من المبنى الذي يسكنه، بحسب ما ذكرت صحيفة "كلارين" الأرجنتينية. دوّن نيسمان في الملف كل مسببات التفجيرين، وكان طلب الاعتقال خلاصة تحقيقات قادها بنفسه، ودامت لأكثر من عشر سنوات. وأدّت تحقيقاته في مرحلة أولى إلى نشر الإنتربول لائحة لتوقيف ستة أشخاص مطلوبين في القضية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2007، طالتهم الاتهامات، وهم: اللبناني عماد مغنية (القائد العسكري لحزب الله الذي اغتيل في سورية عام 2008)، والإيرانيون علي فلاحجيان، ومحسن ربّاني، وأحمد رضا أصغري، وأحمد وحيدي، ومحسن رضائي.
نيسمان اتهم كيرشنر، والرئيس السابق كارلوس منعم (1989 ـ 1999)، بـ "عرقلة التحقيقات". وخصّ بالذكر كيرشنر، التي تعاني بلادها مادياً. فاعتبر أنها قد عقدت صفقات سريّة نفطية مع إيران، من أجل معالجة الأزمة المالية الحادّة في البلاد، التي سبق أن أشهرت إفلاسها في عام 2002، في مقابل منع اتهام إيران رسمياً بالتفجيرين. أما المفاجأة في طلب الاعتقال الذي كان من المفترض أن يقدمه نيسمان، فتجلّت بوجود اسم وزير الخارجية هيكتور تيمرمان، كأحد المتهمين المتواطئين في عرقلة التحقيقات. فتيمرمان يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية إلى جانب جنسيته الأرجنتينية، وعمل سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة (2007 ـ 2010)، لكنه، ووفقاً لنيسمان، عمل على مساندة كيرشنر في عدم توجيه أصابع الاتهام إلى إيران، عكس تحقيقات القضاء الأرجنتيني.
تولّت المدّعية العامة، فيفيانا فين، التحقيقات في مقتل نيسمان، ووضعت ثلاث فرضيات، وهي "الانتحار، والانتحار بالقوة، والاغتيال". ووجّهت الاتهام إلى آخر شخص رآه نيسمان (51 عاماً)، وهو مساعده دييغو لاغورماسينو الذي سلّمه السلاح الذي تسبب بموته، وهو مسدس من عيار 22 ميليمتراً.
ما يُرجّح فرضية "الانتحار بالقوة" أو "الاغتيال"، هو أن موت نيسمان، جاء قبل يوم واحد من مناقشة إفادته أمام الكونغرس الأرجنتيني، والتي لو أُتيح له الإدلاء بها، لوقعت البلاد أسيرة صدمة هائلة، فاقت صدمة الإفلاس في 2002. ومع أن المحققين أكدوا في البداية، أن وفاة نيسمان كانت "انتحاراً، استناداً إلى التحقيق الأولي وتشريح الجثة"، إلا أن المعارضة الأرجنتينية جزمت أن "وفاة المدعي العام السابق، كانت نتيجة عملية اغتيال".
وذكر نيسمان أن "كيرشنر ماطلت في المسألة، بحثاً عن عقود تجارية أفضل"، وقد تبدو حجته منطقية، فكيرشنر أكدت في العام الماضي، أن بلادها على شفير الإفلاس للمرة الثانية. وهنا يأتي الدور الإيراني، فالصادرات الأرجنتينية التي لم تتجاوز الـ 29 مليون دولار في عام 2007 إلى إيران، ارتفعت فجأة إلى 1.2 مليار دولار في العام التالي، تزامناً مع نشر الإنتربول لائحته الخاصة. ووفقاً لوثيقة نيسمان، فإن "إيران طلبت مساعدة الأرجنتين، وتحديداً تيمرمان، بصفته وزيراً للخارجية، في رفع مذكرات الاعتقال الدولية بحق مواطنيها المتهمين".
سعت كيرشنر إلى إزالة الشبهات عنها، وأعلنت حلّ جهاز الاستخبارات الرئيسي (سي آي)، واستبداله بـ "وكالة الاستخبارات الفدرالية". وبدأت هجومها المضادّ بإعلانها أن "حلّ جهاز الاستخبارات هو دين للديموقراطية، وعليّ الحرص على هذا الإصلاح. لقد شاهدنا نوعاً من المناورة الدائمة للمدّعين والقضاة ووسائل الإعلام، تم كشفها ويجب قطعها من جذورها".
وما يعزز موقف نيسمان، هو الدعم الذي قدمته كيرشنر لإيران وحليفها حزب الله، في الأمم المتحدة؛ فقد نددت الرئيسة الأرجنتينية، خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، بـ "إدراج حزب الله، في وقت سابق، على قائمة الإرهاب، قبل أن يتبیّن فیما بعد، أنه حزب کبیر ومُعترَف به في لبنان". وأضافت "اتهمتم إیران على خلفیة تفجير السفارة الإسرائيلية فی بوینس أیريس، ولم تُثبت التحقیقات من قبلنا تورّطها فيه".
ومع أن نيسمان ذكر في ملفه، "وجود قنوات سرية بين الأرجنتين وإيران، تتخطى القنوات الرسمية، وتعمل على لفلفة مطالب القضاء الأرجنتيني"، شدّد أحد الدبلوماسيين الإيرانيين في بوينس أيريس، أن "العلاقات بين البلدين هي علاقات رسمية، ولا وجود لأي قنوات موازية، لا سرية ولا علنية".
أما في إسرائيل التي اتهمت أساساً إيران و"حزب الله" بالتفجيرين، فقد أكد مصدر استخباري إسرائيلي لصحيفة "ذي دايلي بيست"، أن "منفّذ عملية اغتيال نيسمان، محلّي، لكن إيران أعطت الأمر بذلك". وذكر القائم بأعمال السفارة الإيرانية في بوينس أيريس، أحمد خيرماند، للصحيفة ذاتها، أن "إيران دانت تفجيرات بوينس أيريس، فلمَ تتوّرط بها؟ ونحن قدمنا كل أنواع التعاون مع الأرجنتين وما زلنا".