مصير فلسطين... تفكيك الأبارتايد الإسرائيلي

07 ابريل 2014

مظاهرة فلسطينية في أراضي عام 48 ضد العنصرية الإسرائبلية

+ الخط -

لا تتلخص قضية فلسطين في دولة؛ فالأخيرة أداة ضرورية على طريق إنجاز طموحات الشعب الفلسطيني، وتطلعاته في تقرير المصير، من حيث هو جماعة سياسية في التاريخ. لكن الدولة ليست غاية كفاحه أو خاتمة مطافه، فلا يمكن للمطالب الفلسطينية أن تُختزل في فكرة الدولة، أي يتعذر توقفها لدى حق الفلسطينيين في كيان سياسي "طبيعي"، يصحح تاريخهم الذي هو تاريخ اقتلاعهم، وتحويلهم إلى شعب من اللاجئين. الدولة جزءٌ من الحل، أي من سيرورة التحرر الذي لا يمكن أَن يكون منقوصاً؛ إنه، ككل تحرُّر، إما أن يكون كاملاً أو لا يكون أبداً، غير أن الدولة من حيث هي كذلك ليست الحل، على الرغم من أنها بطبيعة الحال الأداة الضرورية للتوصل إلى الحل.
التجربة التاريخية التي يشترك الفلسطينيون جميعهم فيها، وتشكل أسّ هويتهم الجمعية، هي محنة اللجوء، أي الاقتلاع من الوطن، والتجريد من الملكية، والنفي، أَي الحرمان من الحق في وطن، ومن الوجود السياسي شعباً. إن أساس القضية الفلسطينية هي قضية اللاجئين، وتشكل قضية عودتهم النواة المركزية للتحرر الفلسطيني، باعتبار أن نفي المنفى وإلغاءه يتمثل في العودة. إن قضية فلسطين هي قضية لاجئين، قبل أن تكون قضية إقامة الدولة؛ ويمثل الحق في العودة قاعدة كلّ حق. أمّا الدولة الفلسطينية فهي الأداة الضامنة لهذا الحق ولتحقيقه، أي لإلغاء المنفى. وهو حق لا يقبل التبعيض، أو التجزئة. صحيح أن الحق في العودة إلى الوطن حق فردي، لكنه لا يمكن إنجازه، إن لم يكن شاملاً لكل اللاجئين، أي لكل فرد من الشعب، وإلا فقد جوهره كحق. 
والحقيقة أن أساس التطلعات الفلسطينية هي فكرةُ العدل. في حين أَن الدولة أداة مركزية من أدوات إقامة العدل، ورفع الضيم الذي لحق بالفلسطينيين؛ إنها الضامن السياسي لإنجاز العدل في التاريخ. وترتكز المطالب الفلسطينية على مبدأ الحق، أو فكرته، وصنوه العدل. ولا يمكن للكفاح التحرري الفلسطيني أن يُنجز، من غير أن يتأسس خطابُه على فكرة الحق، ويُبنى برنامَجُه عليها، ويؤطّر استراتيجيته من منظارها.
ما سبق ليس صورة سياسية فحسب. إنه، قبل ذلك، منظومة فكرية/ أخلاقية ذات أبعاد سياسية بينة. إنها تحمل السياسةَ وتوجهها، وتحدد بوصلتها، من حيث هي استراتيجية الجماعة الفلسطينية في التاريخ. ولا يخفى أن قوة المطالب الفلسطينية تتمثل في أنها مطالب تحررية، تقوم، كما قلنا، على فكرة الحق. وتكمن قوة التحرر الفلسطيني في هويته، أي في أنه يقف في مواجهة آخر الكيانات الكولونيالية في التاريخ الحديث.
وقد بيَّن ما أطلق عليه الإسرائيليون قبل حوالي عشر سنوات (أغسطس/ آب 2005)، بفك الارتباط بغزة، أي بتفكيك المستوطنات وبالانسحاب من قطاع غزة، بيّن من غير لَبس لماذا التحرر الفلسطيني يعني، أولاً، السيادة على المصير، وأن ما دون ذلك هو نظام الهيمنة الإسرائيلية الذي يشبه شبهاً كبيراً نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا سابقاً. أقول يشبه، لأن من الضروري التمييز بين النظامين العنصريين في فلسطين، وفي جنوب أفريقيا السابقة. صحيح أن نقاط التشابه بين الصهيونية ونظام الأبارتايد كثيرة؛ وأن الروابط التاريخية والعلاقات السياسية والاستراتيجية بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإسرائيل كانت قوية للغاية، غير أن هذا لا يجعل منهما مع ذلك أمراً واحداً. ويجب النظر إلى الاحتلال الإسرائيلي، بخصوصياته التي تجعل منه نمطاً خاصاً من الأبارتايد لا بد من تعيينه. 

   
أقول هذا الكلام إذ يتزايد عدد القائلين بضرورة التخلي عن حل الدولتين، وبأن على الفلسطينيين تبني نموذجَ جنوبِ أفريقيا في مقاومة الكولونيالية الصهيونية: مقاومة شعبية في الداخل، ودعوة إلى مقاطعة دولية في الخارج. أما الفرضية المركزية التي تقوم عليها هذه الدعوة، فهي أَن المشروع الكولونيالي الصهيوني والسياسات الاستيطانية لدولة إسرائيل ألغت كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، في العام 1967
ودمرت بذلك الأسس الموضوعية لحل الدولتين.
والواقع أن الصفقة التي تطرحها إسرائيل على الفلسطينيين باسم السلام (خصوصاً منذ شارون/ بيريز أيام الانتفاضة الثانية حتى ليبرمان/ نتنياهو اليوم) هي، في جوهرها، مأسسة للفصل الديموغرافي والوظيفي، وإذن العنصري، في داخل السيادة الواحدة، أي الدولة بالتعريف، وهي هنا إسرائيل. ويشرح إصرار الإسرائيليين على تفصيلاتٍ، يقولون إنها تتصل بالأمن جوهر الصفقة (وهو معنى رسالة ضمانات جورج دبليو بوش لشارون،  ومختلف تصريحات الإدارة الأميركية وتعهداتها): إبقاء موازين القوى محلياً لصالح إسرائيل، وإلغاء أية إمكانية لتعديلها في المستقبل: كيان فلسطيني منزوع السلاح، وحدود دولية، تسيطر إسرائيل عليها كلية، وهيمنة عسكرية مباشرة في الجو والبحر والبر.
هذا تشرحه كذلك حقيقة أَن إسرائيل تندفع بسرعة نحو الإفصاح عن نظام فصل عنصري، من غير لبس أو قناع. وهي توظف الآلة الإيديولوجية، والإعلامية، الضخمة التي يمكنها أن تتصرف بها في العالم، لتقديم صورة مغايرة، أو ملطفة، لما يجري على الأرض. ولكن، لا يمكن للكلمات أن تخفي الواقع. هكذا، نفهم لماذا غيّر كل الذين زاروا المناطق الفلسطينية المحتلة، وعاينوا الأوضاع عن كثب، لماذا غيروا رأيهم في هذا "السلام".
يتسم الوضع الفلسطيني بخصوصيةٍ مبنيةٍ في أُسِّها على خصوصية الاحتلال الصهيوني. هذا يعني أن مصير فلسطين، أو بالأصح مصير الفلسطينيين شعباً، متصل أساساً بقدرتهم على هزيمة نظام الأبارتايد، وتفكيك منظومته السياسية، وبالتحرر الكلي منه، وأساس ذلك فكرة العدل. 
وهذا يعني أن دحر الكولونيالية الصهيونية يتصل، أولاً، بدحر منظومتها الفكرية، ومعاييرها الأخلاقية، والأساطير التي تؤسس لها. وهذا ممكن.

  

 

 

 

 

 

 

 

 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.