29 سبتمبر 2017
مطعم الأونروا
لا شيء في المخيمات الفلسطينية يثير السعادة. لم تكن حكايات المخيم مثيرة للمتعة، فقد ولدت في أرض اليأس ووهن الأرواح في علاقتها بالمكان والهواء والماء الذي شكّل كينونتها الأولى. كلما تقدم بي العمر، وتقدمت به، أمكث على حافة ذلك اليأس مقطوع الأنفاس، وأنا أرى إلى صيرورة التطور من الخسارة والكآبة، وانحدارها إلى هاوية الدم والضياع وانعدام الضوء، منذ أول النفق إلى نهاياته التي بلا نهاية.
هناك، في لحظة معاشة اليوم، ما يثير غباراً ما في المطارح البعيدة من الذاكرة، قتنقشع عن حكاياتها الغامضة أغطية مغبرّة، بهتت ألوانها، وامتصت من الماضي قلق الالتباس بين الصورة المحببة الممتعة والصورة الكريهة المكروهة، فأحار في تسميتها، وأجد نفسي عاجزاً عن إدراك معنى احتفاظ الذاكرة بهذا الكم من الغموض المعذب.
ذهبت في زيارة أخيرة الى مدينة الخليل. كانت الأسواق مغلقة، وكان جنود الاحتلال، ومنهم من ذوي البشرة السوداء، ربما هم إثيوبيون، يتحكمون بالشوارع والطرقات، ويحددون للمارة طرق السير. لا أريد أن أكتب عن الحرم الإبراهيمي، ولا عن جمال الماضي في العمارة الخليلية، ولا عن عنب الخليل العذب، أو ما يثيره من خيال قد يكون النبيذ شخصيته الرئيسة، لو سُمح له في الدخول إلى الخيال. أحببنا أن نتناول طعام الغداء في الخليل، فذهبنا الى مطعم شهير، لنأكل طبق "القِدرة" الخليلي المعدّ من الرز والحمص واللحم في آنية طبخ فخارية، صُنعت من تراب الخليل. كان الطعام شهياً والمائدة عامرة، على الرغم من أن الخليل خالية من أي شراب كحوليّ، أو نبيذ، ولكن يتباهى بعنبها بين الأمم.
ماذا فعلت "القدرة" بي، وأنا فوق الستين؟ أعادتني خمسين عاماً إلى الوراء. إلى مطعم "أونروا" في المخيم. في أول العام الدراسي في نهاية الخمسينات، كان يزور المدرسة وفدٌ صحي من وكالة الغوث، يتفحص وجوه التلاميذ الصغار، ويسجل ملاحظاته، لنعرف في ما بعد أنهم اختاروا بعضنا للحصول على بطاقةٍ، تؤهلنا للذهاب إلى مطعم الوكالة في جنوب المخيم، لتناول وجبة غداء. لم يتمتع جميع التلاميذ بهذا الاختيار، أو ربما الجميع، فقد بهتت ذاكرتي. كنا نعتقد أن من يتم اختيارهم يعانون من سوء تغذية، تكشفه وجوههم الشاحبة، وكانت قد سرت شائعة أن من يتم اختيارهم يتمتعون بالواسطة من موظف الوكالة.
كان مطعم الوكالة حلم كثيرين من التلاميذ، فهناك تعلمنا الجلوس على كراسٍ، بدلاً من الجلوس في بيوتنا على الأرض حول طبق من الألومنيوم، لتناول الطعام الموزع على طاولة، كما في أفلام السينما التي كنا نشاهدها في سينما "جمال" في المخيم. ليس هذا فقط، فقد كنا محظوظين في تناول خبز "صيدا"، هكذا كنا نسمي الخبز المصنوع في الأفران التجارية، وهو خبز رقيق أبيض مقطّع إلى قطع مثلثة، فيه شيء من حلاوةٍ، أدركنا، فيما بعد، أنه أقل جودة وفائدة صحية من خبز أمهاتنا المصنوع في المنازل أو الخيم، والذي كان اسمه "الكماج"، لكننا كنا نحبه، ربما رغبة يحرّضها خيالنا الطفل في الذهاب إلى المدينة الواسعة، والانعتاق من أزقة المخيم ووحوله.
كانت الوجبة التي لم تفارق خيالي مصنوعة من الرز والحمص والنزر اليسير من اللحم المفروم ناعماً، وإلى جانبها اللبن الطبيعي المصنوع من حليب جاف لا ينافس بأبهى حالاته، اللبن الذي كانت تصنعه جدتي في البيت. ولم يكن لتلك الوجبة الشهية في خيالنا اسمٌ، كان اسمها "رز وحمص مع لبن"، وكأن تقديمها للأطفال اللاجئين لا يعطيها الحق باسم رسميّ كما أسماء الأطعمة.
مشاعر متضاربة من الحب والكراهية نشأت بيننا وبين مطعم أونروا، ففي مكان ما، هناك ما يستدعي الشعور بالخزي بأن تعاني من سوء التغذية، لتحصل على بطاقة التأهيل للذهاب إلى المطعم، وهناك ما يستدعي الاعتزاز والمتعة، لأنك تجلس إلى طاولة، لتأكل مثل زكي رستم وفريد شوقي في "صراع في الوادي".
هناك، في لحظة معاشة اليوم، ما يثير غباراً ما في المطارح البعيدة من الذاكرة، قتنقشع عن حكاياتها الغامضة أغطية مغبرّة، بهتت ألوانها، وامتصت من الماضي قلق الالتباس بين الصورة المحببة الممتعة والصورة الكريهة المكروهة، فأحار في تسميتها، وأجد نفسي عاجزاً عن إدراك معنى احتفاظ الذاكرة بهذا الكم من الغموض المعذب.
ذهبت في زيارة أخيرة الى مدينة الخليل. كانت الأسواق مغلقة، وكان جنود الاحتلال، ومنهم من ذوي البشرة السوداء، ربما هم إثيوبيون، يتحكمون بالشوارع والطرقات، ويحددون للمارة طرق السير. لا أريد أن أكتب عن الحرم الإبراهيمي، ولا عن جمال الماضي في العمارة الخليلية، ولا عن عنب الخليل العذب، أو ما يثيره من خيال قد يكون النبيذ شخصيته الرئيسة، لو سُمح له في الدخول إلى الخيال. أحببنا أن نتناول طعام الغداء في الخليل، فذهبنا الى مطعم شهير، لنأكل طبق "القِدرة" الخليلي المعدّ من الرز والحمص واللحم في آنية طبخ فخارية، صُنعت من تراب الخليل. كان الطعام شهياً والمائدة عامرة، على الرغم من أن الخليل خالية من أي شراب كحوليّ، أو نبيذ، ولكن يتباهى بعنبها بين الأمم.
ماذا فعلت "القدرة" بي، وأنا فوق الستين؟ أعادتني خمسين عاماً إلى الوراء. إلى مطعم "أونروا" في المخيم. في أول العام الدراسي في نهاية الخمسينات، كان يزور المدرسة وفدٌ صحي من وكالة الغوث، يتفحص وجوه التلاميذ الصغار، ويسجل ملاحظاته، لنعرف في ما بعد أنهم اختاروا بعضنا للحصول على بطاقةٍ، تؤهلنا للذهاب إلى مطعم الوكالة في جنوب المخيم، لتناول وجبة غداء. لم يتمتع جميع التلاميذ بهذا الاختيار، أو ربما الجميع، فقد بهتت ذاكرتي. كنا نعتقد أن من يتم اختيارهم يعانون من سوء تغذية، تكشفه وجوههم الشاحبة، وكانت قد سرت شائعة أن من يتم اختيارهم يتمتعون بالواسطة من موظف الوكالة.
كان مطعم الوكالة حلم كثيرين من التلاميذ، فهناك تعلمنا الجلوس على كراسٍ، بدلاً من الجلوس في بيوتنا على الأرض حول طبق من الألومنيوم، لتناول الطعام الموزع على طاولة، كما في أفلام السينما التي كنا نشاهدها في سينما "جمال" في المخيم. ليس هذا فقط، فقد كنا محظوظين في تناول خبز "صيدا"، هكذا كنا نسمي الخبز المصنوع في الأفران التجارية، وهو خبز رقيق أبيض مقطّع إلى قطع مثلثة، فيه شيء من حلاوةٍ، أدركنا، فيما بعد، أنه أقل جودة وفائدة صحية من خبز أمهاتنا المصنوع في المنازل أو الخيم، والذي كان اسمه "الكماج"، لكننا كنا نحبه، ربما رغبة يحرّضها خيالنا الطفل في الذهاب إلى المدينة الواسعة، والانعتاق من أزقة المخيم ووحوله.
كانت الوجبة التي لم تفارق خيالي مصنوعة من الرز والحمص والنزر اليسير من اللحم المفروم ناعماً، وإلى جانبها اللبن الطبيعي المصنوع من حليب جاف لا ينافس بأبهى حالاته، اللبن الذي كانت تصنعه جدتي في البيت. ولم يكن لتلك الوجبة الشهية في خيالنا اسمٌ، كان اسمها "رز وحمص مع لبن"، وكأن تقديمها للأطفال اللاجئين لا يعطيها الحق باسم رسميّ كما أسماء الأطعمة.
مشاعر متضاربة من الحب والكراهية نشأت بيننا وبين مطعم أونروا، ففي مكان ما، هناك ما يستدعي الشعور بالخزي بأن تعاني من سوء التغذية، لتحصل على بطاقة التأهيل للذهاب إلى المطعم، وهناك ما يستدعي الاعتزاز والمتعة، لأنك تجلس إلى طاولة، لتأكل مثل زكي رستم وفريد شوقي في "صراع في الوادي".