مظلة طفل الجولاج

22 ديسمبر 2015

(Getty)

+ الخط -

حين قلت له إن الطفلة التي تسكن صورتها واجهة موبايله تشبه ابنتي جداً، أعاد الصورة ثانية إلى واجهة الموبايل، بعد أن كانت الخريطة قد غيّبتها، وأدنى الموبايل نحوي، وهو يقول بسعادة بالغة "هذه أكبر حفيداتي". كان واضحاً أنه يحب كثيراً أن يتكلم عنها، حين تأتي أية مناسبة: "انظر كم هي جميلة. يا الله، لعلمك، هذا الجمال اشتركت في صنعه أربع قارات، أنا أصلاً من أوكرانيا، وجدتها أصلاً من إيطاليا، وأمها، ابنتي مولودة هنا في نيويورك، وأبوها برازيلي"، ومن دون أن ينتظر مني سؤالاً عن سر اجتماع تلك الخلطة الفريدة، أخذ يحكي بحماس: "لن تصدق كيف قابلت جدتها أول مرة، كان ذلك في إيطاليا، قبل خمسة وأربعين عاماً، أنا الآن لدي خمسة وستين عاماً، مع أنني أبدو أصغر من سني قليلاً"، ومع أنه كان يبدو أكبر بعشرة سنين على الأقل، لكنني لم أكن لأقول له ذلك بأية حال، أملاً في حكايةٍ كانت تبدو عظيمة.

"كنت قد جئت إلى جنوه، بعد أن هربت من روما التي كنت أصلاً قد وصلت إليها مع البعثة الرياضية التي سافرت بصحبتها قادماً من الاتحاد السوفييتي، كنت ماهراً في العدو، حين أريك صوري وأنا شاب، لن تصدّق كم كنت رشيقاً، البطولات الجامعية التي كسبتها قادتني إلى الاشتراك في فريق الاتحاد السوفييتي، وأمي ابتهجت كثيراً بذلك، ورأت أن لدي فرصة، قد لا تتكرّر، لكي أبدأ حياة جديدة، لو هربت في إيطاليا، لألحق، بعد ذلك، بخالي المقيم في أميركا. قالت لي إنها ستستدين، لكي أحقق ذلك الحلم، وحين قلت لها إن هروبي يمكن أن يتسبب لها في الأذى، أقسمت أنها لا تبالي، وأن المهم أن أغادر ذلك البلد اللعين بأي شكل. قالت إنهم لو جاءوا للقبض عليها، ستقتل نفسها لتلحق بأبي الذي سئمت الحياة بدونه، لم يكن لديها استعداد لأن تعود ثانية إلى السجن، هي أصلاً ولدتني فيه، تماماً كما أقول لك، ولدتني أمي في معتقل الجولاج، هل سمعت عنه؟ حسنٌ، السينما جعلت الكل يعرف الجولاج. ذهبوا بها إلى هناك، بعد أن وشى أحدهم بها وبأبي، لأنهما خالفا تعليمات الحزب اللعينة، وقتها كانت حاملا في الشهر الثالث، لكن لم يشفع لها ذلك".

اختنق صوته، وساد السيارة صمت ثقيل، كنت أخشى أن يدوم، لكنه قطعه بعد لحظات قصيرة: "ولدتني أمي في السجن، وفيه قضيت أول سبع سنوات في حياتي، لا أتذكر شيئاً عن تلك الأيام، لأني لا أحب أن أتذكّرها، ولأن أمي لم تكن تحب أن تحكي لي عنها أبداً، قالت لي إن الحزن قتل أبي سريعاً، وإنها لا تريد للحزن أن يقتلني، خرجنا من الجولاج، وأنا في السابعة، لكنه ظل يعيش معنا كثيراً، أنا شخصيا لم أخرج منه إلا حين أنجبت ابنتي، البلد ظل سنين طويلة يعيش في كابوس، حين يقولون لي الآن إن هناك في أوكرانيا من يحنّون إلى أيام الاتحاد السوفييتي، أقول لهم جرّبوا، أولاً، أن تولدوا في الجولاج، يا أولاد القحبة، ثم حدثوني عن الكوابيس". قرّر، فجأة، أن يغير إيقاع الحديث، مستعينا بموبايله: "انتظر، سأريك صورة أمي، هي تعيش معنا هنا الآن، عمرها الآن ثلاثة وتسعون عاماً. لكن، صدقني حين أقول لك إن صحتها أفضل من صحتي، مع أنها تشرب كأس فودكا كل مساء. لكن، دائماً عشاؤها خفيف جداً، ربما كان هذا هو السر، تنصحني دائماً بأن أفعل مثلها، لكني، للأسف، أتعشى متأخراً، لأني أحب أن أعمل في الليل، فالعمل فيه أكثر راحةً لشخص في سني".

يأخذ الموبايل مني ثانية، مواصلاً حديثه، في حين واصلت الاكتفاء بهز رأسي، لكي لا أقطع تدفق حكيه: "بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي، واجتمع شملي بأمي، هنا، بعد طول غياب، كنت خائفاً من ألا تتوافق هي وزوجتي، خصوصاً أن أخي كان قد قال لي، في رسالة، إن أمي غضبت، لأني لم أتزوج أوكرانية. كنت وقتها سأجد نفسي في امتحانٍ صعب للغاية، لكنهما، لحسن الحظ، أحبا بعضهما من النظرة الأولى، تماماً كما أحببت أنا زوجتي من النظرة الأولى. لا بد أن ترى كيف يتحدثان سوياً الآن. زوجتي علمتها مفردات إيطالية، وأمي علمتها مفردات أوكرانية وروسية، وزوج ابنتي علمنا فيما بعد مفردات برتغالية، وحفيدتي الكبرى أصبحت الآن تعرف أربع لغات، مدرستها قالت لنا مرة إن ذلك سيجعلها عبقرية، وأنا قلت لها: المهم أن تكون سعيدة، وابنتي قالت لي إن ردي كان سخيفاً، لكنني مؤمن به، ما نفع العبقرية، لو لم تكن سعيدة".

اضطررت لمقاطعته، خفت أن نصل إلى مقصدي، قبل أن تكتمل قطع البازل المبهر، "لكن، عذراً. أنت لم تقل لي كيف أحببت زوجتك من أول نظرة"، فرفع رأسه بفخر مبين، قائلا "هي أيضا أحبتني من أول نظرة"، قبل أن يقرّر تشويقي أكثر، فيتوقف عن الحكي، ويعبث في صور موبايله، حتى استقر على صورة زفافهما التي كانت بالأبيض والأسود. قرّب الموبايل مني، وهو يشاركني النظر فيه، كأنه لا يحتمل إضاعة فرصة رؤية الصورة مجدداً، كانت هي صاعقة الجمال، وكان هو وسيماً جداً ورشيقاً جداً، وكان في الصورة شيء ساحر يغري بالبكاء، وهو أدرك كم أنا مأخوذ بالصورة، فترك الموبايل في يدي، بأكثر مما يحتمله كوني غريباً عنه، قبل أن يأخذه مني ثانية، ويعبث في شاشته، حتى استقر على صورةٍ حديثة لهما. كانت فيها قد فقدت كثيراً من شبابها، لكنها لم تفقد جمالها أبداً، بل أضافت إليه لمساتٍ خاصة بها، وهو كان في الصورة الجديدة مترهلاً وعجوزاً، لكنه كان أكثر طيبة ودفئاً، وكان لا زال ينظر إليها بانبهاره القديم نفسه في صورة الزفاف، ومع أنني لا أظن أنه رأى الدموع وهي تملأ عينيّ، فقد كان الطريق مظلماً للغاية، إلا أنه، فيما يبدو، شعر أن الأوان قد آن، ليحكي لي كيف التقيا.

"كانت ليلةً ممطرة، انس هذا المطر، فهذا مطر لطيف، مطر تلك الليلة كان غزيراً ومقبضاً، وأنا ليلتها كنت خائفاً، لأن الشوارع كانت خالية من المارة، مع أن الليل كان لا يزال في أوله، كنت على مشارف اليأس. كان قد مضى علي في جنوة أسبوع كامل من دون عمل، وثلاثة أيام من دون مأوى، وما ظننت أنه حلم ممكن، اتضح أنه شبه مستحيل. لم تكن مسألة السفر إلى أميركا سهلةً، كما تصورت أمي، ولم يكن أحد ليقبل بأن يعمل على سفينته شاب لا يمتلك أي أوراق، أو أي خبرة، كنت أتسكع في أحد شوارع المدينة، باحثاً عن مكانٍ أحتمي به من المطر الذي داهمني، حين رأيتها تقف على محطة الأتوبيس، وهي ترفع مظلتها الصغيرة، محاولة الاحتماء من المطر الشرس، وأنا حين رأيتها، لا أدري لماذا شعرت بحنينٍ بالغ إلى أمي، وشارعنا ومدينتي، مع أنني لم أكن أكره شيئاً في العالم، كما أكره مدينتي والحياة فيها".

فكّرت لحظة أن أسأله عن اسم مدينته، لكني أخرست نفسي فوراً، مكتفيا بالاستماع: "فجأةً، وجدت نفسي أذهب إليها، لأقول لها بالأوكرانية: يا آنسة، أنت جميلة جداً، وأنا لم أر في حياتي مطراً كهذا، وهي ابتسمت ابتسامة زادتها سحراً، وقالت شيئاً بالإيطالية، لم أفهمه بالطبع، لكنه كان يبدو رومانسيا جداً، وهي قالت لي، فيما بعد، إن ما قالته بالإيطالية لم يكن سوى عبارة "لا أفهم كلمة مما تقول يا أخانا"، قبل أن ترفع مظلتها عالياً، وتشير إلي أن أدخل معها تحت المظلة، التي حمت بالكاد وجهينا من المطر، بعد لحظاتٍ من الصمت، نظرت إلي مبتسمة، لأكتشف أن لديها قدرة على مضاعفة السحر مع كل ابتسامة. بعد قليل، هبت الريح لتطيح بالمظلة من يدها، لنجري خلفها في الشارع، حتى أمسكنا بها، وعدنا ثانيةً لنقف تحت المظلة. توليت أنا، هذه المرة، الإمساك بالمظلة، وهي رأت كيف أتشبث بالمظلة بشكل مبالغ فيه، فضحكت من قلبها، وأنا ضحكت، وظللنا نضحك كثيراً، كثيراً جداً، وليلتها قضينا ساعاتٍ نتسكع في شوارع جنوه، تحت المطر، ونحن نتواصل بكل ما نعرف من مفردات الإنجليزية. وبعد أسبوع، هربنا سوياً إلى نابولي، بعد أن رفض أهلها فكرة زواجي منها. كانوا يظنون أنني أريد فقط أن أحصل على الإقامة. لذلك، هددوني بإبلاغ البوليس عني. بعد عامين، هاجرنا إلى أميركا سويا، ولن أستطيع أن أحكي لك، الآن، كل تفاصيل قصتنا. لكن، دعني أقل لك إننا لم ننم منذ تلك الليلة بعيداً عن بعضنا، ولو مرة".

قبل أن يمنحني فرصة لأقول أي شيء، وكأنني كنت سأجد شيئاً أقوله، أطلق ضحكة عالية، وقال: "تعرف، لا زلنا حتى الآن نحتفظ بالمظلة، ابنتي أسمتها "المظلة المقدسة"، وزوج ابنتي اخترع طقساً أحبه كثيراً، كلما رُزق بطفل، لديه ثلاثة أطفال، حتى الآن، كان يلتقط له صورة إلى جوار المظلة، لكي تمنحه المظلة الحظ، فيجد حب عمره مبكراً. انتظر، سأريك صور الأطفال مع المظلة. لكن، عليك أن لا تفزع من صوت بكائي. يا أخي، لا تزال هذه المظلة اللعينة محتفظة بسحر عجيب، بعد كل هذه السنين، كلما أراها أبكي بشدة، فقط لأنني أتخيل كيف كانت ستكون الحياة لو لم أر إلزا، هل قلت لك إن اسم زوجتي إلزا، حفيدتي أيضا اسمها إلزا، كنت أريد أن أسميها جنوه، لكنهم سخروا مني. طيب، قل لي بعد أن سمعت حكايتي، هل يمكن أن تلومني، لأنني فكرت أن أسمي حفيدتي جنوه".

 

   

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.