تسفر المعارك التي تدور رحاها حالياً في محافظات إدلب وحماة واللاذقية، عن مزيد من التقدّم لقوات المعارضة على حساب قوات النظام التي بدأت تنحسر باتجاه معاقلها في الساحل، وهي معارك تشير إلى تغييرات قد تكون استراتيجية في خارطة الصراع المحتدم منذ أربع سنوات من دون أن ترجّح كفة أي من الطرفين حتى الآن.
ومن الواضح أن قوات المعارضة غيّرت في عقلية قيادة هذه المعارك، وبات لهذه القوات استراتيجية واضحة في تحديد أهدافها، وفي طريقة الوصول إلى تلك الأهداف بعيداً عن العمل الارتجالي و"الإعلامي" الذي ميّز أداءها طيلة السنوات الماضية، وجعلها في موقع رد الفعل على سلوك النظام الذي ظلّ متحكماً بإيقاع المعارك ووجهتها وقادراً بمساعدة حلفائه على حسم الكثير من المعارك لمصلحته في حالة حشد لها جهده وإمكاناته.
اليوم تبدو الصورة مختلفة، وبات ضعف النظام وارتباكه وتهلهل موقفه على الأرض سمة بارزة يمكن لمسها ليس في معارك إدلب وحماة وحسب، بل في درعا وحلب وريف دمشق أيضاً.
المعارضة تتقدّم
على الأرض تحقّق المعارضة في كل من إدلب وحماة تقدّماً جديداً كل يوم، بل كل ساعة في بعض الأحيان، حتى أن الخرائط التي يصمّمها الناشطون لمناطق توزّع قوات النظام والمعارضة لا تعمر أكثر من يوم واحد. وقد تمكّن مسلحو المعارضة خلال الساعات الماضية من السيطرة على مناطق جديدة في ريف جسر الشغور في إدلب، بعد السيطرة على المدينة نفسها، مثل قرى السرمانية وغانية وإشتبرق في الريف الغربي المحاذي لجبل الأكراد في ريف اللاذقية، والتي تُعدّ خزاناً بشرياً لمليشيات الرئيس السوري بشار الأسد في المنطقة، فيما لا زالت المعارك مستمرة وبدت معها مظاهر الارتباك والتخبط على قوات النظام واضحة.
وتتوازى معارك إدلب (جسر الشغور والمسطومة والقرميد) مع معركة سهل الغاب في ريف حماة الشمالي الغربي، الذي أعلن مقاتلو المعارضة سيطرتهم عليه بالكامل بعد أن دمروا نحو 25 حاجزاً لقوات النظام معظمها على الطريق الدولية المؤدية إلى مدينة جسر الشغور، وفي مقدمتها تلك الواقعة في محيط قرية القاهرة وحاجز التنمية الزراعية في بلدة الزيارة والحواجز المحيطة بها. ويأتي حاجز التنمية الزراعية في المرتبة الثانية بالأهمية بعد حاجز جورين (لا يزال بيد قوات النظام) لتوسّطه بين مدينة جسر الشغور وقرية جورين التي تُعتبر مفترق طرق ما بين مدينتي حماة واللاذقية. ومن ضمن الحواجز التي سيطرت عليها المعارضة، حاجز السرمانية جنوب غرب جسر الشغور، فضلاً عن قرية السرمانية نفسها، وحاجز الكمب، والشيخ سنديانة، وبيت ثائر، وأيضاً نقاط عديدة كانت تتمركز فيها قوات النظام على جانبي الطريق الدولي اللاذقية-أريحا، من أجل حماية الطريق، ووصول التعزيزات إلى معسكراتها بالقرب من أريحا.
وبات وجود قوات النظام في المنطقة مقتصراً على حواجز عسكرية وثكنات صغيرة على طريق حلب اللاذقية الدولي الذي قطعه مسلحو المعارضة، إضافة إلى مدينة أريحا المحاصرة والآيلة للسقوط بين يوم وآخر، ما يجعل جيوب قوات النظام المتبقية في ريفي إدلب وحماة وأجزاء من اللاذقية بين فكي كماشة مقاتلي إدلب في الشمال، ومسلحي حماة في الجنوب، ولم يعد يفصل بينهما سوى أقل من خمسة كيلومترات، وهي مسافة تتقلص باستمرار مع تواصل تقدّم المعارضة على الأرض من الجهتين.
اقرأ أيضاً: جسر الشغور بيد المعارضة: عين على القرداحة... والمنطقة الآمنة
جبهة اللاذقية
وبدأت جبهة ثالثة بالتناغم مع هاتين الجبهتين، وهي جبهة اللاذقية، إذ تشير الأنباء إلى تقدّم للمعارضة هناك حتى باتت على مشارف مدينة كسب، وصلنفة من جهة سلمى وغابات الفرلق، ما يعني أن الخناق بات يضيق أكثر على معقل النظام في اللاذقية نفسها، خصوصاً بعد سيطرة المعارضين على بلدة اشتبرق ذات الغالبية العلوية التي تبعد عن جسر الشغور ثلاثة كيلومترات، واقترابهم من بلدات شطحة وجورين والقرقور، وهي أهم وآخر مراكز النظام في المنطقة. ومع السيطرة عليها تلتقي المناطق المحررة في محافظات حماة واللاذقية وإدلب مع بعضها من دون وجود لقوات النظام، ولتكون خطوط التماس الجديدة مع المناطق الموالية للنظام في اللاذقية مباشرة، كما يقول الصحفي والناشط عماد قرقص.
ويضيف قرقص، وهو من مدينة إدلب، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن المعارضين سيطروا على بعض البلدات التي يقطنها سكان من الطائفة العلوية مثل اشتبرق وبلدة غانية، ويتّجهون في الغالب الآن إلى جورين ومن ثم شطحة والجيد والرصيف، وهي قرى مختلطة لكنّ أغلب سكانها من الطائفتين العلوية والمرشدية.
ويوضح قرقص أنه من طرف جسر الشغور فإن كل ريف اللاذقية بات بيد المعارضة، مستبعداً نقلاً عن قيادي في غرفة عمليات "جيش الفتح" أن يواصل مقاتلو المعارضة تقدّمهم باتجاه اللاذقية قبل أن يسيطروا بالكامل على الغاب وريف حماة.
أما المحلل الاستراتيجي العميد أحمد رحال، فيرى أن ما حصل في الأيام الأخيرة في إدلب وحماة، وما قد يحصل في الأيام القليلة المقبلة، "يرسم خارطة عسكرية جديدة تستطيع أن تفرض واقعاً سياسياً أقوى للثورة، ويشكّل نوعية بالعمل العسكري تعيد ألق الثورة وترتيب الأوراق بما يخدم أهداف الثورة".
ويلفت رحال في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن الاقتراب من المناطق التي يعتبرها النظام خطاً أحمر "يُشكّل قلقاً جدياً لدى النظام، ويبث الرعب لدى أنصاره"، معتبراً "أن كل ذلك لا بد أن يفرش الأرض لإقامة المنطقة الآمنة التي طالما دعت إليها تركيا، ويقوم الثوار برسم حدودها اليوم على الأرض".
وحول تأثير هذه التطورات على جبهة حلب، يقول رحال إن ما يحدث سيشكّل إضافة قتالية لحلب، من خلال انضمام جهد إدلب إلى حلب خصوصاً أن إمدادات النظام من إدلب توقفت تماماً الآن، بينما خطوط إمداد حلب عبر السلمية ـ خناصر سوف تقطع قريباً، كما يقول، معتبراً أن "مصير قوات النظام في حلب سيكون كمصير قواته في إدلب، بحيث لا تصلها أي إمدادات إلا عبر المطارات وهي غير كافية لتمكينها من الصمود والتمسك بالأرض".
وبات من الواضح أن النظام أصبح عاجزاً تماماً عن مواجهة هذه الاندفاعة المدروسة للمعارضة أو استعادة زمام المبادرة، خصوصاً أن الهجمات الأخيرة جاءت في وقت كانت دعاية النظام تشيع عن هجوم وشيك لجيشه على مدينة إدلب لاستعادتها من المعارضة، لكنه فوجئ بهجوم استباقي من المعارضة جعله من جديد في موقع الدفاع التراجعي.
اقرأ أيضاً: النظام يرتكب مجزرتين في جسر الشغور... انتقاماً لطرده منها