05 نوفمبر 2024
معالجات مصرية فظّة لأوراقٍ غزّيةٍ هشّة
كان بودّي أن تكون هذه المطالعة لأداء مصر الراهن حيال القضية الفلسطينية أشمل تناولاً من حدود مسألةٍ بعينها، مهما كانت هذه المسألة مهمة، حتى ولو كانت من وزن قضية غزة، الحاضرة بقوة في هذه الآونة. وكم كنت راغباً في أن تكون هذه المقاربة أعمق تفاعلاً مع دور مصري، كان مأمولاً رؤيته مؤثراً وفاعلاً على نطاق أوسع من قطاع غزة، غير أنه، بإمعان النظر قليلاً في سياسات القاهرة الممتدة على مدى السنوات الطويلة الماضية، يجد المرء أن الدور القومي التاريخي الكبير الذي كان محورياً في ما مضى من زمن مصري تليد، بات محدوداً بكل المعايير القومية والإقليمية، مقتصراً حتى الآن على التعاطي مع جانبٍ واحدٍ من القضية الكبرى، ومنشغلاً فقط في معالجة ملفّاتٍ جزئية، لا يتعدّى إطارها حدود القطاع المحاصر في الجوار المباشر.
ومع أن هناك أصواتاً، من داخل مصر وخارجها، تنتقد غياب "قلب العروبة النابض" عن المشهد الفلسطيني وتفاعلاته الدراماتيكية، على نحو ما كان عليه الحال بالأمس غير البعيد، إلا أنه يندر أن يعلو صوت فلسطيني ناقد أو لائم أو معاتب للشقيقة الكبرى، على انصرافها شبه التام عن قضايا العالم العربي الموجعة، بما في ذلك القضية الفلسطينية، تقديراً من هؤلاء لأحوال بلد المائة مليون مواطن الصعبة، وربما خشيةً من جرّ سوء فهم، قد يفضي إلى ردود فعلٍ انتقامية، وهجماتٍ كلاميةٍ قاسية، ليس فقط من الجهات الرسمية، وإنما كذلك من ماكينة إعلامية مستَفزة على طول الخط، تثيرها كلمة انتقادية عابرة.
ولعل أوضح مثال على مدى شدة الحساسية الفلسطينية هذه حالة الصمت المطبق من سائر
مسؤولي السلطة الوطنية والفصائل المتقاعدة، حيال ما تعرّض له نحو ألف مسافر بالقرب من معبر رفح، كانوا عائدين في طريقهم إلى غزة، حين تم إغلاق المعبر على نحو مفاجئ وغير مبرّر، وجرى حجز النساء والأطفال والمسنّين في العراء، عدة أيام، من دون طعام أو شراب، حيث لم ينطق أحد بكلمة احتجاجية ضد هذه المعاملة المهينة والمذلة لأناسٍ كرام، بمن في ذلك المتحاورون الغيورون في القاهرة على مواضيع التهدئة والمصالحة والأحقية والشرعية، سوى إطلاق مناشداتٍ خجولةٍ من هنا أو هناك، وبنبرة خافتة، تدعو في أحسن الأحوال إلى الرأفة.
على أن ما هي بصدده هذه العجالة أمر آخر، يتعلق بالأداء السياسي المصري إزاء الملفّات المتصلة حصراً بقطاع غزة، وأهمها في هذه المرحلة ملفان؛ الهدنة أو التهدئة مع إسرائيل، المصالحة الفلسطينية المتعثّرة، حيث يمكن للمراقب الموضوعي أن يسجل عدداً لا حصر له من الملاحظات السلبية على هذا الأداء، المتسم بقصر النظر السياسي والأحادية، وحدّث بلا حرج عن الارتجال والارتباك والالتباس، وغير ذلك كثير مما يحيط بالدور المسنود حصراً لجهاز المخابرات العامة المصرية التي كانت تقدم تسهيلات الضيافة أول الأمر، وتؤمّن متطلبات الرعاية ليس إلا، قبل أن تتحول أخيراً إلى أكثر من وسيط، بدأ يُقدّم الاقتراحات، ويضع الحلول، ويشارك في الحوارات ذاتها.
وقد يكون أهم هذه الملاحظات على الإطلاق ماثلٌ في هذا التحرّك الكثيف نحو التوصل إلى اتفاق تهدئة مع إسرائيل، في غياب منظمة التحرير المعترف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وكأن هناك سباقاً مع الزمن، في وقتٍ استضافت فيه المخابرات العامة إياها كل الفصائل في غزة، بما في ذلك فصائل مجهرية، لا وجود حقيقياً لها، أو أنها، في أفضل الأحوال، بلا وزن سياسي أو تنظيمي يعتدّ به، الأمر الذي أعاد إلى ذهن مراقب حصيف مقيم في غزة مشهد الحوارات السورية المملّة، التي كان يضعف فيها المكون الوطني باضطراد، وتتزايد أطرافها كل فترة، وتتشابك ملفّاتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت، بل وتخرج عن سياقها الوطني.
ثاني هذه الملاحظات التي أغضبت القيادة الفلسطينية، وإن لم تعبر عن ذلك بصوت مسموع، توقيت إجراء المشاورات الفصائلية في القاهرة، مع موعد محدّد من قبل لعقد المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله، وهو ما حمل دلالةً مفادها بأن مصر تعطي الأولوية لتحقيق التهدئة مع إسرائيل على حساب إنجاز المصالحة الداخلية، ولا تعير أدنى اهتمام لانعقاد المؤسسة التشريعية الوسيطة، إن لم نقل الاستهانة بموعد انعقادها وبجدول أعمالها. ومما زاد الطين المبلول بلةً إضافية، زيارة مدير المخابرات العامة عباس كامل تل أبيب، ومن ثم سعيه إلى إجراء زيارة مماثلة إلى العاصمة الفلسطينية المؤقتة، في أضيق الأوقات، وكأن لا شيء يشغل بال الفلسطينيين غير المجاملات الدبلوماسية، وليس لديهم مسائل مهمة، تزدحم بها الأجندة الفلسطينية.
ثالث هذه الملاحظات كامن في عدم إدراك القاهرة، وربما تسفيهها، لمشروعية المخاوف الفلسطينية المحقّة، إزاء ما قد ينطوي عليه اتفاق تهدئة (وهو في مبناه وفي مغزاه شأن وطني عام، وليس فصائلياً بالضرورة الموضوعية)، من مخاطر شديدة على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني كله، وفي مقدّمتها خطر تكريس الانقسام القائم إلى ما لا نهاية، بل وتحويله إلى حالةٍ انفصاليةٍ دائمة، تشقّ طريقاً فرعياً أمام إقامة دويلة غزة التي كثر الحديث عنها مع انثيال التسريبات عن "صفقة القرن"، وتعاظم الاهتمام الدولي بالأوضاع الإنسانية الصعبة في القطاع المحاصَر، مبرّراً معقولاً من وجهة نظر بعضهم، لتسويق خيار دولة غزة، وشرعنة القبول به تحت شعار "الضرورات تبيح المحظورات".
ولا يتسع المقام لتعداد قائمةٍ مختصرة من الملاحظات، متفاوتة الأهمية، حول ما أسميناه في عنوان هذه المطالعة "معالجات مصرية فظّة لأوراق غزّية هشّة"، غير أنه يمكن الإشارة مثلاً إلى غموض هدف هذه المعالجات، المؤدية حتماً إلى تقوية حركة حماس أكثر مما يجب في قطاع غزة، وإضعاف السلطة الفلسطينية وحركة فتح ومنظمة التحرير أكثر مما ينبغي في الضفة الغربية، وكذلك مغزى استرضاء "حماس"، ومنحها كل هذه الأفضلية، بما في ذلك مساعدتها على انتزاع اعترافٍ ما، أو شرعيةٍ واقعية، ناهيك عن تسهيلها عقد أول اجتماع من نوعه للمكتب السياسي الخاص بالحركة المجاهدة، بنصابٍ كامل لتجمعاتها الثلاثة، في غزة، وإدخال صلاح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي، وتأمينه حياته، وهو المطلوب رقم 2 على لائحة الاغتيالات الإسرائيلية.
لفهم أسباب هذه المعالجات المنهجية الفظّة، قد يكون من المناسب استذكار ذلك التصريح
الصادر عن واشنطن، مع بدء التحرّك المصري على خط التهدئة مع إسرائيل، ومفاده أن إدارة الرئيس دونالد ترامب سوف تدعم التهدئة، أو الهدنة، بوجود السلطة الفلسطينية أو بدونها، الأمر الذي ينطوي على ضوء أميركي أخضر، أخذته مصر كي تمضي في التهدئة أولاً، ومن ثم إجراء مصالحةٍ يمكن إدماجها في إطار تسويةٍ سياسيةٍ تلائم "صفقة القرن"، وقد تشكل أول تطبيقاتها، كونها تفتح الدرب أمام إنشاء دولة فلسطينية في غزّة، يكون ميناؤها البحري في قبرص تحت سيطرة إسرائيلية دولية مشتركة، فيما مطارها داخل الأراضي المصرية، هذا إذا صادقت إسرائيل على هدنة أو تهدئة هشّة كهذه.
وأحسب أن الأسئلة التي لم تطرح بعد هي؛ ما الدافع خلف كل هذه الحماسة المصرية لإتمام اتفاق تهدئةٍ مثيرةٍ للهواجس الفلسطينية؟ ولماذا تغضّ القاهرة بصرها عن تداعيات خيارٍ كهذا قد يخرج القطاع من دائرة الصراع المديد، ويحوّل طاقته الوطنية المتّقدة إلى مجرد رماد بارد في الموقدة؟ ثم هل مصر قادرة حقاً على تحمّل تهمة أخذ غزة إلى هذا المأخذ الموحش، وبالتالي إضاعة القضية الفلسطينية؟ ثم ما هو الثمن الذي ستُرغم "حماس" على دفعه لمصر، حاضراً ومستقبلاً، لقاء خدمة غير مضمونة وليست مؤكّدة، حتى وان رهنت مصيرها ومصير القطاع المحاصر لجارةٍ قد تصبح جزءاً من المشكلة، بدل أن تكون جزءاً من الحل، كونها دولةً لا تملك أوراق ضغط قوية، سواء تجاه السلطة الفلسطينية الرافضة القيام بدور شاهد الزور، أو إزاء إسرائيل التي لا تأخذ في اعتباراتها سوى مصالحها الذاتية المحضة؟
ومع أن هناك أصواتاً، من داخل مصر وخارجها، تنتقد غياب "قلب العروبة النابض" عن المشهد الفلسطيني وتفاعلاته الدراماتيكية، على نحو ما كان عليه الحال بالأمس غير البعيد، إلا أنه يندر أن يعلو صوت فلسطيني ناقد أو لائم أو معاتب للشقيقة الكبرى، على انصرافها شبه التام عن قضايا العالم العربي الموجعة، بما في ذلك القضية الفلسطينية، تقديراً من هؤلاء لأحوال بلد المائة مليون مواطن الصعبة، وربما خشيةً من جرّ سوء فهم، قد يفضي إلى ردود فعلٍ انتقامية، وهجماتٍ كلاميةٍ قاسية، ليس فقط من الجهات الرسمية، وإنما كذلك من ماكينة إعلامية مستَفزة على طول الخط، تثيرها كلمة انتقادية عابرة.
ولعل أوضح مثال على مدى شدة الحساسية الفلسطينية هذه حالة الصمت المطبق من سائر
على أن ما هي بصدده هذه العجالة أمر آخر، يتعلق بالأداء السياسي المصري إزاء الملفّات المتصلة حصراً بقطاع غزة، وأهمها في هذه المرحلة ملفان؛ الهدنة أو التهدئة مع إسرائيل، المصالحة الفلسطينية المتعثّرة، حيث يمكن للمراقب الموضوعي أن يسجل عدداً لا حصر له من الملاحظات السلبية على هذا الأداء، المتسم بقصر النظر السياسي والأحادية، وحدّث بلا حرج عن الارتجال والارتباك والالتباس، وغير ذلك كثير مما يحيط بالدور المسنود حصراً لجهاز المخابرات العامة المصرية التي كانت تقدم تسهيلات الضيافة أول الأمر، وتؤمّن متطلبات الرعاية ليس إلا، قبل أن تتحول أخيراً إلى أكثر من وسيط، بدأ يُقدّم الاقتراحات، ويضع الحلول، ويشارك في الحوارات ذاتها.
وقد يكون أهم هذه الملاحظات على الإطلاق ماثلٌ في هذا التحرّك الكثيف نحو التوصل إلى اتفاق تهدئة مع إسرائيل، في غياب منظمة التحرير المعترف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وكأن هناك سباقاً مع الزمن، في وقتٍ استضافت فيه المخابرات العامة إياها كل الفصائل في غزة، بما في ذلك فصائل مجهرية، لا وجود حقيقياً لها، أو أنها، في أفضل الأحوال، بلا وزن سياسي أو تنظيمي يعتدّ به، الأمر الذي أعاد إلى ذهن مراقب حصيف مقيم في غزة مشهد الحوارات السورية المملّة، التي كان يضعف فيها المكون الوطني باضطراد، وتتزايد أطرافها كل فترة، وتتشابك ملفّاتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت، بل وتخرج عن سياقها الوطني.
ثاني هذه الملاحظات التي أغضبت القيادة الفلسطينية، وإن لم تعبر عن ذلك بصوت مسموع، توقيت إجراء المشاورات الفصائلية في القاهرة، مع موعد محدّد من قبل لعقد المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله، وهو ما حمل دلالةً مفادها بأن مصر تعطي الأولوية لتحقيق التهدئة مع إسرائيل على حساب إنجاز المصالحة الداخلية، ولا تعير أدنى اهتمام لانعقاد المؤسسة التشريعية الوسيطة، إن لم نقل الاستهانة بموعد انعقادها وبجدول أعمالها. ومما زاد الطين المبلول بلةً إضافية، زيارة مدير المخابرات العامة عباس كامل تل أبيب، ومن ثم سعيه إلى إجراء زيارة مماثلة إلى العاصمة الفلسطينية المؤقتة، في أضيق الأوقات، وكأن لا شيء يشغل بال الفلسطينيين غير المجاملات الدبلوماسية، وليس لديهم مسائل مهمة، تزدحم بها الأجندة الفلسطينية.
ثالث هذه الملاحظات كامن في عدم إدراك القاهرة، وربما تسفيهها، لمشروعية المخاوف الفلسطينية المحقّة، إزاء ما قد ينطوي عليه اتفاق تهدئة (وهو في مبناه وفي مغزاه شأن وطني عام، وليس فصائلياً بالضرورة الموضوعية)، من مخاطر شديدة على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني كله، وفي مقدّمتها خطر تكريس الانقسام القائم إلى ما لا نهاية، بل وتحويله إلى حالةٍ انفصاليةٍ دائمة، تشقّ طريقاً فرعياً أمام إقامة دويلة غزة التي كثر الحديث عنها مع انثيال التسريبات عن "صفقة القرن"، وتعاظم الاهتمام الدولي بالأوضاع الإنسانية الصعبة في القطاع المحاصَر، مبرّراً معقولاً من وجهة نظر بعضهم، لتسويق خيار دولة غزة، وشرعنة القبول به تحت شعار "الضرورات تبيح المحظورات".
ولا يتسع المقام لتعداد قائمةٍ مختصرة من الملاحظات، متفاوتة الأهمية، حول ما أسميناه في عنوان هذه المطالعة "معالجات مصرية فظّة لأوراق غزّية هشّة"، غير أنه يمكن الإشارة مثلاً إلى غموض هدف هذه المعالجات، المؤدية حتماً إلى تقوية حركة حماس أكثر مما يجب في قطاع غزة، وإضعاف السلطة الفلسطينية وحركة فتح ومنظمة التحرير أكثر مما ينبغي في الضفة الغربية، وكذلك مغزى استرضاء "حماس"، ومنحها كل هذه الأفضلية، بما في ذلك مساعدتها على انتزاع اعترافٍ ما، أو شرعيةٍ واقعية، ناهيك عن تسهيلها عقد أول اجتماع من نوعه للمكتب السياسي الخاص بالحركة المجاهدة، بنصابٍ كامل لتجمعاتها الثلاثة، في غزة، وإدخال صلاح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي، وتأمينه حياته، وهو المطلوب رقم 2 على لائحة الاغتيالات الإسرائيلية.
لفهم أسباب هذه المعالجات المنهجية الفظّة، قد يكون من المناسب استذكار ذلك التصريح
وأحسب أن الأسئلة التي لم تطرح بعد هي؛ ما الدافع خلف كل هذه الحماسة المصرية لإتمام اتفاق تهدئةٍ مثيرةٍ للهواجس الفلسطينية؟ ولماذا تغضّ القاهرة بصرها عن تداعيات خيارٍ كهذا قد يخرج القطاع من دائرة الصراع المديد، ويحوّل طاقته الوطنية المتّقدة إلى مجرد رماد بارد في الموقدة؟ ثم هل مصر قادرة حقاً على تحمّل تهمة أخذ غزة إلى هذا المأخذ الموحش، وبالتالي إضاعة القضية الفلسطينية؟ ثم ما هو الثمن الذي ستُرغم "حماس" على دفعه لمصر، حاضراً ومستقبلاً، لقاء خدمة غير مضمونة وليست مؤكّدة، حتى وان رهنت مصيرها ومصير القطاع المحاصر لجارةٍ قد تصبح جزءاً من المشكلة، بدل أن تكون جزءاً من الحل، كونها دولةً لا تملك أوراق ضغط قوية، سواء تجاه السلطة الفلسطينية الرافضة القيام بدور شاهد الزور، أو إزاء إسرائيل التي لا تأخذ في اعتباراتها سوى مصالحها الذاتية المحضة؟
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024