في وقت تتنافس فيه معارض الكتب العربية على استضافة أعداد أكبر من دور النشر، وتنظيم فعاليات ثقافية أكثر كلّ عام، يبقى السؤال عن الفئة المستهدفة لهذه التظاهرات التي باتت تستقطب قراءً لم تعد العناوين الأدبية والفكرية هي شغلهم الشاغل، وتنزاح أولوياتهم إلى اهتمامات أخرى.
لا يشذّ عن ذلك "معرض عمّان الدولي للكتاب" الذي تتواصل فعاليات دورته الثامنة عشرة حتى السادس من الشهر الجاري، بل تجدر الإشارة إلى أن حضور الكتاب الديني – مثلاً- لا يزال بارزاً بالنظر إلى مشاركة العديد من الناشرين المتخصّصين به، وإلى جوارهم ناشرون آخرون يعرضون مؤلّفات تدعو إلى تجديد الخطاب ومراجعة النص وتأويله في الإسلام، والتي تحظى بدعم مؤسسات رسمية وأهلية في العالم العربي.
هل يشير هذا التجاور إلى تعدّدية فكرية من شأنها التأثير على المجتمع والإجابة عن أسباب إجهاض نهضته أكثر مرة في العصر الحديث؟ أو خلق سجال ضمن مناخات صحية حول ما تواجهه المنطقة العربية اليوم من أزمات سياسية واجتماعية وثقافية؟ أم أن رواج وانتشار الكتاب في هذين المسارين هما جزء من آلية توظيف السلطة لكلا الخطابين ومؤيديهما؟
الأمر نفسه ينسحب على البرنامج الثقافي الذي يضمّ ثلاث ندوات؛ "نقد خطاب الكراهية" يتحدّث خلالها الداعيتان السوريان محمد راتب النابلسي وبلال نور الدين، و"التدبّر من التلقّي إلى التنفيذ" لأستاذي الشريعة الأردنييْن سليمان الدقور وعلي أسمر، و"الخطاب الديني وقضايا التنمية" يشارك فيها الأكاديميون أحمد زايد من مصر وحلمي ساري وعبد العزيز خزاعلة من الأردن.
الندوتان الأولى والثانية لرموز محسوبة على اتجاه إصلاحي تقليدي تركّز محاضراته وبرامجه التلفزيونية على جوهر الإسلام المعتدل في مواجهة التطرف، بينما تمثّل الندوة الثالثة اتجاهاً أكثر انتقاداً للمؤسسة الدينية الرسمية يرى أصحابه أنهم يخوضون معركة "التنوير"، مع الأخذ بالاعتبار قرب الاتجاهين من دوائر الحكم ومؤسساته.
من جهة أخرى، تظلّ التساؤلات مشروعة حول قدرة كل اتجاه على استقطاب جمهور أكبر، وما هو الأثر الذي تتركه مثل هذه الندوات في معرض للكتاب ربما يجاري في تنظيمها مزاجاً أو أفكار تلقى رواجها اليوم لكنه لا يجترح جديداً في مقاربتها ولا يقدّم رؤى أو طروحات خارج الصندوق.
الحديث عن البرنامج الثقافي يذهب بنا إلى تقييم أولي للفعاليات التي يتضمّنها، إذ جرى تنظيم جزء كبير منها تحت يافطة "ضيف شرف المعرض" ممثلاً بمصر، وهو العرف الذي تم استحداثه منذ ثلاث سنوات، لكن المتفحّص للأسماء المشاركة يجد أنها جميعاً تعمل أو ترتبط بوزارة الثقافة المصرية، ولم يخطر ببال المنظّمين توجيه دعوة إلى ضيفين أو ثلاثة من خارج الوزارة، على الأقل، حيث سيجدون مهتمين ومتابعين لإبداعاتهم.
كما أن معظم عناوين الندوات التي يشارك فيها مثقفون مصريون تبدو عامة وموضوعاتها مطروقة ومستهلكة مثل "الرواية التاريخية بين واقع الحدث وخيال المؤلف"، و"لغتنا العربية هل تُحتضر؟ وما السبيل إلى إنقاذها؟"، و"الفلسفة والثقافة العربية"، و"الذاكرة الثقافية وبناء الهوية"، و"يوماً أو بعض يوم، ومعضلات أدب السيرة العربي".
وكان لافتاً نشر وسائل إعلام مصرية اعتذار الناقد (والوزير لأيام في آخر حكومات مبارك) جابر عصفور عن حضور المعرض، ثم تداركها الأمر بتوضيح يفيد بعدم مشاركته في ندوة تحمل عنوان "معركة الحداثة" مع حرصه على المشاركة كـ"ضيف" بالنظر إلى "وعكة صحية" ألمّت به.
في الوقت نفسه، فإن جناح ضيف الشرف في المعرض احتشد بمئات العناوين اللافتة والجيدة من أحدث إصدارات "الهيئة العامة المصرية للكتاب" و"المركز القومي للترجمة" وغيرهما من هيئات الوزارة، بأسعار زهيدة في متناول يد غالبية الزوّار.
من جهة أخرى، أعلن الروائي العراقي سنان أنطون (1967)، وناشره "دار الجمل"، أن أجهزة الرقابة الأردنية منعت روايتيه، "إعجام" (2009) التي تسرد قصة شاب عراقي يدرس اللغة الإنكليزية وآدابها، لينتهي مصيره فجأة في أحد سجون النظام العراقي السابق، بسبب كتابته نصوصاً تتنقد الإيديولوجيا الحاكمة، و"فهرس" (2016) التي تتناول المنفى والزمن والنوستالجيا والحرب والموت في ضوء التحوّلات التي شهدها المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003.
في ردّه على الحادثة، أكّد مدير المعرض الناشر فتحي البس في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه "لم يجر منع أي كتاب في الدورة الحالية، لكن "طُلب بشكل ودّي من بعض الناشرين عدم عرض عناوين قد تثير حفيظة جهات أخرى" (في إشارة إلى تيارات اجتماعية لا دوائر رقابية رسمية).
البس رفض التأكيد أو النفي إن كان عملا أنطون قد شملهما ذلك المنع "الودي" ولم يحدد عدد الأعمال التي حُظرت بنفس الطريقة أو المعايير التي تتبعها إدارة المعرض في مخاطبة الناشرين حول العناوين الممنوعة، لكنه لفت إلى أن رواية "جريمة في رام الله" (2017) للكاتب الفلسطيني عبّاد يحيى طُلب من الناشر عدم عرضها في الدورة الحالية.
التظاهرة التي يشارك في تنظيمها "اتحاد الناشرين الأردنيين "وزارة الثقافة" و"أمانة عمّان"، شهدت في السنوات الأخيرة توسعاً في حضور دور النشر المتخصّصة بكتب الأطفال وبرامجهم التعليمية، وتنظيم ورشات تفاعلية لهم شأن معظم معارض الكتب العربية، وهو توجّه يحقق نجاحاً ملحوظاً حيث الصغار يشكّلون نسبة كبيرة من زوّار المعرض سواء في الجولات التي تنظّم لطلبة المدارس صباحاً أو في حضور العائلات مساءً.
ورغم ارتفاع أثمان العديد من الكتب الموجهة للصغار؛ إلكترونية وورقية، إلا أنها تستحوذ على اهتمام واضح ومتزايد بدليل إلمام الأهل ومتابعتهم لأحدث تلك الإصدارات ومضامينها، بينما لن تجد الشيء نفسه إذا كان الأمر متعلّقاً بمؤلفات تخصّ "الكبار".
يُذكر أن الدورة الحالية تُعقد تحت شعار "القدس عاصمة فلسطين" بمشاركة حوالي 360 ناشراً من سبعة عشر بلداً عربياً وأجنبياً، وقد اختار المنظّمون الكاتبة الأردنية سميحة خريس (1956) شخصية المعرض والتي صدر لها مجموعات قصصية عدّة منها "مع الأرض" (1978) و"أوركسترا" (1996)، وروايات مثل "القرمية" (1998)، و"دفاتر الطوفان" (2003)، و"الصحن" (2003)، و"يحيى" (2010)، و"فستق عبيد" (2016).
حرصاً على المشاركة بسلام
تبرز المفارقة أن روايتي "فهرس" و"إعجام" للكاتب العراقي سنان أنطون اللتين تم منعهما في الدورة الحالية، بحسب الكاتب وناشر الروايتيْن، يمكن الحصول عليهما في العديد من مكتبات عمّان، علماً أن الدورات الماضية للمعرض لم تعرف حوادث منع مماثلة، إلا إذا افترضنا أنه كان يجري مخاطبة الناشرين مسبقاً لاستبعاد بعض إصداراتهم، ولم يكن هؤلاء معنيين بالكشف عن هذه الإجراءات "حرصاً" على أن تمرّ مشاركتهم بسلام.