وقوبل هذا التصعيد في بداياته بانتقادات من المعارضة السورية قبل أن تنتقل إلى مرحلة الرد العسكري، لا سيما بعد أن أدركت الفصائل أن تفاهمات أستانة لم تكن إلاّ ذريعة لشراء الوقت وقضم المناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل من قبل النظام وحلفائه. كما أنّ هذه الفصائل وجدت نفسها في عين عاصفة غضب نتيجة الاتهامات التي وجهت لها أولاً بعدم وضع ثقلها العسكري في التصدي لخروقات النظام التزاماً منها بتفاهمات أستانة، وثانياً تقاعسها عن حماية عشرات آلاف المدنيين الذين اضطروا للنزوح أمام تقدّم قوات النظام.
كذلك، فإن خروقات النظام أغضبت الضامن التركي، الذي ترجم استياءه على مراحل، كان آخرها استدعاء وزارة الخارجية التركية السفيرين الروسي أليكسي يرخوف، والإيراني محمد إبراهيم طاهريان فرد، يوم الثلاثاء الماضي، وإبلاغهما انزعاجها جراء هجمات النظام السوري على مناطق "خفض التصعيد" التي تم الاتفاق حولها في مباحثات أستانة. وجاء الاستدعاء الرسمي بعد أن كانت تركيا قد أعربت عن انزعاجها من تلك الانتهاكات للمسؤولين الروس والإيرانيين عبر قنوات عسكرية ودبلوماسية، من دون أن يثمر ذلك عن أي تبدّل في الميدان، الأمر الذي دفعها إلى استدعاء السفيرين ومطالبتهما بإبلاغ النظام الرسائل اللازمة من أجل الإنهاء الفوري للانتهاكات التي جرت خلال مرحلة الاستعداد لعقد "مؤتمر الحوار الوطني السوري" في مدينة سوتشي الروسية في 29-30 يناير/ كانون الثاني الجاري، وذلك بحسب ما تحدثت مصادر تركية لوكالة "الأناضول".
ويأتي التصعيد الذي ترافق مع خسائر كبيرة تكبدها النظام والمليشيات الإيرانية التي تسانده، في معارك محتدمة في ريف إدلب الشرقي، وريف حماة الشمالي الشرقي، ليؤكد أن المعارضة قادرة على استعادة زمام المبادرة العسكرية طالما أن النظام اختار القضاء على تفاهمات أستانة، نتيجة رغبته في ترجمة تقدمه الميداني سياسياً من خلال "جرّ" المعارضة إلى مؤتمر "سوتشي"، والقبول بحلول غايتها تحييد القرارات الدولية وتثبيت نظام الأسد.
وبعد أن كادت قوات النظام أن تستولي على مطار أبو الظهور، أكّدت المعارضة السورية المسلحة، أمس، أنها أفشلت مخطط النظام وحلفائه في إدلب، مشيرةً إلى أنّ قوات النظام اندحرت عن المطار وقرى وبلدات استولت عليها أخيراً، وهي تعاني من انهيار كبير على وقع ضربات محكمة جاءتها من أكثر من محور.
معارك طاحنة في ريفي إدلب
وأكد "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، أمس الخميس، أن معارك طاحنة لا تزال مستمرة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، بين قوات المعارضة السورية من جهة، وقوات النظام ومليشيات محلية وطائفية تساندها، مشيراً إلى أن قوات النظام تعتمد على قصف جوي ومدفعي مكثّف.
وشكّلت فصائل معارضة، أغلبها مدعوم من الجانب التركي، غرفة عمليات "ردّ الطغيان"، بعد أن كادت قوات النظام أن تسيطر على مطار أبو الظهور العسكري في ريف إدلب الشرقي. وقالت الفصائل وهي: "جيش النصر"، "فيلق الشام"، "جيش إدلب الحر"، "الجيش الثاني"، "جيش النخبة"، إن هدفها "تحرير المناطق المحتلة في ريف حماة الشمالي الشرقي وريف إدلب الجنوبي". كذلك شكلت فصائل "جيش العزة" و"حركة أحرار الشام" و"جيش الأحرار" و"حركة نور الدين زنكي" غرفة عمليات "وإن الله على نصرهم لقدير"، وذلك للإطباق على قوات النظام من أكثر من محور. وتمكّنت هذه الفصائل بعد ساعات فقط من إعلان تحرّكها من استعادة السيطرة على مناطق كانت قد سيطرت عليها قوات النظام، أبرزها: قرى الخوين وعطشان وأم الخلاخيل والزرزور وتل مرق ومزارع الحسين ومزارع النداف وحاجز الهليّل وحاجز سلّومية، ومناطق أخرى.
كما أكدت مصادر لـ"العربي الجديد" أن فصائل المعارضة استعادت، ظهر أمس، بلدة المشيرفة الشمالية بالكامل بعد دحر قوات ومليشيات النظام، مشيرة إلى أنّ هذه الفصائل تسير باتجاه بلدة أبو دالي بريف إدلب الشرقي. وأشارت مصادر قيادية في فصائل المعارضة إلى أنه "تمّ اغتنام أسلحة ثقيلة من قوات النظام، بينها دبابات ومدافع وقاعدة إطلاق صواريخ، إضافة إلى مقتل وإصابة وأسر العشرات من قوات الأسد". وأكد ناشطون إعلاميون مواكبون للمعارك أن فصائل المعارضة أصابت طائرة حربية تابعة للنظام، مرجحين سقوطها. كما أشاروا إلى أنّ الطيران الحربي شنّ مئات الغارات في مسعى لإيقاف تقدم قوات المعارضة السورية.
وقال العقيد مصطفى البكور قائد العمليات في "جيش العزة"، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الموقف العسكري "ممتاز"، مشيراً إلى انهيارات متتالية في قوات النظام والمليشيات التي تساندها. وأضاف: "لديها تخوّف كبير من الوقوع في مصيدة التطويق". وأكد بكور أنّ فصائل المعارضة صدّت هجوم قوات النظام، موضحاً أنّ الأخيرة تراجعت نحو 10 كيلومترات عن مطار أبو الظهور الذي كان هدفها البارز المعلن.
وكانت المعارضة المسلحة قد بسطت، في التاسع من سبتمبر/أيلول 2015، سيطرتها على مطار أبو الظهور، بعد معارك وحصار دام قرابة عامين، وانتهت بفرار قوات النظام منه إلى مناطق سيطرتها في ريف حماة الشرقي. وبات من الواضح أن المعارضة المسلحة تحاول أن تبعد النظام وحلفاءه عن المطار كي لا يتحوّل إلى قاعدة إيرانية في قلب الشمال الغربي السوري، ترهق قوات المعارضة السورية المسلحة في محافظة إدلب، بل وتهددها بشكل مباشر. من جانبه، قال رائد عليوي، وهو قيادي في "الجيش الثاني" التابع للمعارضة السورية، إن قوات النظام "انهارت تماماً"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد" أن هذه القوات "غير قادرة على تغطية المناطق بشرياً، وبالتالي لا تستطيع الصمود". وأشار إلى أنه تم التحضير للعملية العسكرية التي بدأت مساء الأربعاء "بشكل جيد جداً"، مضيفاً "وُضعت كل الإمكانيات في غرفة عمليات رد الطغيان". وأوضح عليوي أن المعارضة هاجمت من "محاور عدة، وتمّ تحرير معظم القرى التي تقدّم فيها إرهابيو الأسد"، وفق قوله.
وجاء تقدم قوات المعارضة السورية بعد أن بلغ التمادي الروسي الإيراني حدوداً لم يعد أي طرف قادراً على تحمله، وهو ما انعكس في الاستدعاء التركي للسفيرين الروسي والإيراني. وكانت المعارضة السورية المسلحة قد وافقت على أن تكون تركيا ضامناً لها في اتفاقات أستانة على أمل التوصل لحلول سياسية وفق قرارات دولية، تنصّ على إطلاق سراح المعتقلين، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإجراء انتقال سياسي في البلاد. ولم تلتزم روسيا وإيران باتفاقات أستانة التي تقضي بانتشار شرطة عسكرية شيشانية شرقي سكة القطار في ريف إدلب الشرقي، بل إنّ قوات النظام استولت على مناطق غربي السكة، وهو ما جعل اتفاقات أستانة بلا قيمة في ظل مساعدة الروس لهذه القوات. ومن المتوقّع أن يتجه الموقف إلى مزيد من التعقيد والتأزيم في ظل إصرار موسكو على عقد مؤتمر سوتشي وفق شروطها، إذ وصفت مصادر في المعارضة السورية في حديث مع "العربي الجديد" التصرفات الروسية بـ "العنجهية"، مضيفةً "لن تستطيع موسكو تحقيق مكسب سياسي بالقوة الغاشمة. هي تدرك أن فشلاً ثانياً في مساعي عقد مؤتمر سوتشي، سيقلّل من فرص فرضها رؤيتها للحل في سورية، لذا تحاول الضغط عسكرياً على المعارضة لتغيير موقفها حيال المؤتمر".
وتحاول موسكو إنقاذ تفاهمات أستانة من انهيار كبير، لا يساعد في تهيئة الأجواء السياسية لعقد مؤتمر سوتشي، إذ أعلنت الرئاسة الروسية، أمس الخميس، أنّ سريان مناطق خفض التصعيد في سورية يتطلّب اتصالات دائمة ومكثفة بين موسكو وأنقرة. وفي السياق، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن "تطبيق الاتفاقات المتوصّل إليها بشأن مناطق خفض التصعيد وإطلاق التسوية السياسية، وخصوصاً في ما يتعلّق بالتحضيرات لمؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي الروسية، يتطلّب اتصالات مستمرة على مختلف المستويات".