مع الإخوان ومؤيدي داعش في سجن مصري.. شهادة شخصية
قضيت فترة سجينا في أحد سجون القاهرة في زنزانة مع معتقلين سياسيين، غالبيتهم العظمى إسلاميون، وكان منهم من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، ومنهم من يؤيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
كانت الأيام الأولى مهمة لمعرفة طبيعة التعاملات داخل السجن، وطبيعة النظام داخل الزنزانة، حيث إني كنت محبوسا قبل نقلي إلى السجن في زنزانة في قسم شرطة مع سجناء، أغلبهم متهمون في قضايا جنائية. وكان للزنزانة "نبطشي"، هو بمثابة مسؤول الزنزانة من الجنائيين، وهو يسيطر على الأمور بالخبرة وبالأقدمية، وبدعم ضباط وأمناء قسم الشرطة له، حيث إن علاقاته تكون متشعبة، وله مصالح مشتركة مع بعضهم، ويتم تهريب المخدرات وباقي الممنوعات وبيعها، من خلال تعاونهم مع أمناء وضباط الشرطة في مقابل ربح مادي للطرفين. كما أنهم يحصّلون أموالا من باقي السجناء يوميا، ويختلف المبلغ المحصل حسب المكان الذي يخصصه النبطشي للسجين، فهناك أماكن مميزة داخل الزنزانة لمن يدفعون أكثر. أما بعد نقلي إلى السجن فبدا لي، منذ اللحظات الأولى، أن هناك اختلافا كبيرا بين السجن مع جنائيين والسجن مع سياسيين، خصوصا لو كانوا إسلاميين.
النظام المعيشي في السجن
بدأت الأمور تتضح لي سريعا في ما يخص نظام السجن. كان السجن من عدة عنابر، في كل عنبر عدة زنازين، ويمكن أن يقابل سجناء العنبر نفسه بعضهم بعضا خلال وقت التريّض الذي يتم فتح كل مجموعة زنازين فيه في الوقت نفسه، من ساعتين إلى ثلاث ساعات، ما عدا أيام العطلات الرسمية، وكان هذا الوقت وسيلة التواصل بين السجناء في زنازين مختلفة في العنبر نفسه. وكان بعض السجناء يفضل ممارسة الرياضة في هذا الوقت، ويفضل آخرون مقابلة أصدقائهم من الزنازين الأخرى للنقاش معهم في أمور السجن وأوضاعه، أو آخر الأخبار الخارجية التي يحاولون معرفتها من الأهل في الزيارات أو من مصادر أخرى. وكان للعنبر مسؤولون تم اختيارهم بنظام أقرب للتوافق منه للانتخابات لصعوبة تنفيذها، كان منوطا بهم التواصل مع إدارة السجن، لتقديم طلبات العنبر وحل مشكلاته.
وفي ما يخص نظام الزنزانة، كان هناك عدة أشخاص مؤثرين داخل كل زنزانة، وهناك
شخص يتم انتخابه من السجناء داخل كل زنزانة ليكون مسؤولا لها، تكون عنده علاقات جيدة مع الأغلبية، وتكون عنده قدرات جيدة على التعامل مع المشكلات اليومية، واحتوائها في مهدها أو التعامل معها عند تفاقمها. وفي الحقيقة، أي شيء داخل الزنزانة يمكن أن يصنع مشكلة، بدءا من الكلام وتوقيته، أو الصوت وحدّته، مرورا بدور دخول الحمام، ووقت إطفاء نور الزنزانة من أجل النوم، انتهاء بالتدخين والمزاح بين السجناء وتطوّره أحيانا، وتكون عنده القدرة والصلاحية على تنظيم الأمور الحياتية داخل الزنزانة، مع عمل التوافق عليها في الوقت نفسه بين مجموعة من السجناء من عشرة إلى ثلاثين، مختلفي الطباع والشخصيات والخلفيات الثقافية والأيديولوجية والاجتماعية، أجبرتهم الظروف رغما عنهم على الاجتماع في المكان الضيق نفسه، في فترة ليست هي الأفضل في حياتهم. وجوههم في وجوه بعض بين 21 ساعة و24 ساعة يوميا، بعد حسم وقت التريّض، ويستعين مسؤول الزنزانة بمسؤولين آخرين لمهام محدّدة يختارهم بنفسه، ويكونون غالبا من الأشخاص المؤثرين في الزنزانة، أو بعد استشارتهم على الأقل، مثل مسؤولي المطبخ والحمام وتنظيم الشعائر الدينية، ومسؤول مالي يجمع مبلغا محدّدا من الأعضاء شهريا لشراء الاحتياجات الجماعية للزنزانة المتعلقة بالطعام والشراب عادة أو إصلاح الكهرباء التي تقطع من وقت إلى آخر، وربما في بعض الأحيان من أجل الرشاوى الجماعية التي تدفع للمخبرين والعساكر، للحصول على بعض الامتيازات الداخلية البسيطة، أو تسهيل حل المشكلات مع إدارة السجن.
فرائس جاهزة
لاحظت أن عديدين من أنصار "داعش" هم من ضحايا الاعتقال العشوائي، أو من المتظاهرين صغار السن ضحايا قانون التظاهر (أصدره في العام 2013 الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور من دون وجود برلمان، وقوبل باعتراضات كبيرة من القوى السياسية المعارضة)، أو ضحايا تلفيق النظام تهما لهم، حيث كانوا غير موالين للتنظيم عند اعتقالهم. كانت لبعضهم مشكلة مع النظام، لأنهم يعتقدون أن ما حدث في صيف 2013 انقلاب عسكري على الثورة. ونزل بعضهم رفضا للمجازر بعد الانقلاب، وكان بعضهم عابر سبيل وقت حدوث المظاهرة فتم القبض عليه بدون مشاركة فعلية منه فيها، وتم القبض على آخرين لأنهم أصدقاء لمتظاهرين، واتصلوا بهم بالمصادفة وقت القبض عليهم؛ المشترك أن كثيرين منهم لم يكونوا أعضاء في تنظيم إسلامي وقت القبض عليهم.
لم يكن كثيرون منهم يؤدون حتى العبادات الأساسية في الإسلام، مثل الصلاة، وقت القبض
عليهم. كان بعضهم يدخن السجائر وربما الحشيش، وكانت لبعضهم صديقات، ثم مع شدة الظلم الذي تعرّضوا له بالقبض عليهم من دون جريمة حقيقية ارتكبوها، ومع التعذيب الوحشي الذي تعرّضوا له في التحقيقات، حتى يعترفوا بجرائم لم يرتكبوها، وعلى أشخاصٍ ربما لا يعرفونهم، ثم مع قرارات بالحبس طويلة وممتدة، ربما لا يعرفون نهايتها، وربما مع حكم جائر طويل بعد ذلك في القضية الملفقة لهم، يصبحون ناقمين بشكل تام على الدولة وأجهزتها التي قمعتهم وكارهين لها، وهم يرون أن مستقبلهم يضيع، وحياتهم تتلاشى وهم مراهقون، أو على أعتاب فترة الشباب، وخصوصا أنهم لا ينتظمون في مجموعةٍ لها أيديولوجية واضحة، واستراتيجيات محدّدة، ولا يحملون رؤية للتغيير، يمكن أن يفهموا سجنهم تضحية في إطار صراع ممتد مع النظام من أجل تحقيقها. يقابلون في داخل الزنازين من يستقبلهم من أصحاب الفكر الجهادي والداعشي ممن يفوقونهم خبرة بالسجون وأوضاعها، فيشعرون أنهم بحاجة إلى القرب منهم، لكشف خبايا هذا العالم المجهول المليء بالرعب بالنسبة لهم في حوزة نظامٍ لا يرحم، فيبدأ التقارب، بعد أن سلمهم لهم الأمن المصري فرائس جاهزة للتجنيد.
أحيانا يقول لهم هؤلاء الجهاديون إنه إذا كانت حياتهم ستنتهي في هذا السجن، فالأفضل لهم أن تنتهي بهم إلى الجنة، ويدعونهم إلى الانتظام معهم في العبادات والدروس الدينية التي كثيرا ما تتطرق إلى أمور الدنيا، وربما إلى السياسة، حيث يُصَوّر لهم الصراع القائم حربا ضد الإسلام، وأن الانقلاب العسكري حدث ضد محمد مرسي لأنه رئيس إسلامي، وإن كانوا ينكرون عليه ارتضاءه بالديمقراطية والانتخابات التي هي شرك بالله، وإرضاء للغرب الكافر، فاستحق السقوط.
قابلت من مؤيدي "داعش" من حكى أنه كان يدخن الحشيش قبل سجنه، وأنه كان منتظما في تدخين السجائر بعد السجن، حتى قابل من قاموا بهدايته (جذبه لأفكار داعش) وكانت هذه بدايته للإقلاع عن التدخين، والالتزام بالعبادات في الإسلام، وكان هذا الشخص نفسه متشدّدا جدا ضد من يدخنون داخل الزنزانة، على الرغم من أنهم كانوا يدخنون في المكان المخصص لذلك، عند شباك مفتوح للتهوية حتى لا يؤذي الآخرين، وكانت الادعاءات لمنع التدخين وتحجيمه هي الحرص على صحة باقي المساجين غير المدخنين من دخان السجائر. ولكن حدثت مرة زلة لسان من أحد الإسلاميين أن مشكلته من السجائر أنها حرام، عندما كان يدافع، في الوقت نفسه، عن إعداد بعض أنواع الطعام الأخرى التي تطلق دخانا شديدا وقت إعدادها.
توتر وخلافات
كان واضحا بشكل جلي أن هناك توترا بين المجموعتين، وكان الخلاف الأبرز بشأن موقفين أساسيين: العملية السياسية والديمقراطية، العنف والعمليات المسلحة، فأنصار "داعش" يرحبون بأي عنف يمارس ضد الدولة أو ضد الأقليات الدينية أو بالتفجيرات التي كانت تحدث في الغرب، في حين كان "الإخوان" ينزعجون من قتل المدنيين، باختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية، وإن تباينت مواقفهم من العمليات التي يتم فيها قتل أفراد من الدولة، وخصوصا من الشرطة أو الجيش، فبعض المؤيدين للإخوان المسلمين كانوا يفرحون بها، وكانوا يرونها وسيلة ردع ضد القمع الممارس ضدهم من الدولة، بينما كان ينزعج بعضهم من هذه العمليات، حيث إنها تورّطهم في صراعٍ لن يكسبوا منه شيئا.
وفي السجن، قابلت واحدا من أعضاء إحدى الخلايا النوعية، وهي خلايا شكلها أعضاء من
"الإخوان"، وربما مع أعضاء من المتعاطفين، من دون أن تكون ذات صلة تنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين التي كانت متبنية فكرة تخريب المنشآت الاقتصادية للنظام ورجال الأعمال (وليس القتل) شكلا من أشكال المقاومة، كما قال لي هذا العضو، لهدف استراتيجي، هو زعزعة استقرار النظام. وعلى الرغم من أنه كان متحمسا جدا سابقا لهذا التكتيك، ضمن تكتيكات أخرى للغرض نفسه، إلا أنه أبدى ندمه عليها وقت مقابلتي له من وجهة نظر سياسية تكتيكية، حيث إنها لم تكن تكتيكا ناجحا، وسببت خسائر لهم.
على الجانب الآخر، كان مؤيدو "داعش" يشبهون "الإخوان المسلمين" أحيانا في نقاشاتهم بـ"الدجاج"، لأنهم يساقون إلى السجون في مظاهراتهم السلمية التي قاموا بها بعد الانقلاب، من دون أن يقاوموا النظام بشكل مسلح، كما يفعل جنود الخلافة (داعش)، وكانوا يسخرون كثيرا من شعار الإخوان "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وكان منهم من يستخدم العمليات المسلحة التي تقوم بها "داعش" لإثبات أنهم على صواب ضد "الإخوان" في النقاشات، بل وبطريقة المكايدة أحيانا.
في أثناء النقاشات والمشاحنات، سمعت جدالات كثيرة بينهم عن آيات الجهاد وقتل الكفار وتفسيراتها. وسمعت جدالات أخرى عن تعريف الكفار بينهم، ورأيت احتداد النقاشات وسخريتهم من بعضهم بعضا، وكان مؤيدو "داعش" يدعمون القتل، ويأتون بآيات قرآنية تدعم وجهة نظرهم، في حين كان "الإخوان المسلمون" ومؤيدوهم يدحضون هذه الآيات بآيات أخرى، أو بتفسيرات مختلفة للآيات نفسها.
في ما يخص الموقف من الديمقراطية والعملية السياسية، كان مؤيدو "داعش" يقولون إن الديمقراطية والانتخابات كفر، وأن محمد مرسي كافر، وكان هذا يسبب خلافا قويا بينهم وبين "الإخوان" ومحبيهم. فالإخوان قد كانوا يرون أنه يمكن استعادة المسار الديمقراطي، أو الثوري، بالتعاون مع القوى السياسية المدنية الأخرى المناهضة للانقلاب العسكري. وقد تطرقت نقاشاتٌ إلى مراجعة سنوات الثورة وأخطائها، حتى حدوث الانقلاب وأخطاء التيارات السياسية المختلفة، وفي القلب منها الإخوان المسلمون. وقد ذكر لي أحد القيادات الوسطى في الجماعة أنه رأى أخطاء قبل الانقلاب في أثناء فترة حكم محمد مرسي، وحاول لفت الانتباه إليها من خلال الكتابة الداخلية حولها لإصلاحها، لكنه فشل، بينما كان مؤيدو "داعش" يرفضون العملية السياسية برمتها، والحل الوحيد من وجهة نظرهم هو من خلال تنظيمهم المسلح وعملياته، حتى الوصول إلى السلطة وتطبيق شرع الله، وكانوا يعيبون على "الإخوان" مواءماتهم السياسية، من أجل الوصول إلى غرضهم، وهو دولة الخلافة من خلال العملية السياسية.
وكانت أخبار المشاجرات بين أنصار داعش والإخوان المسلمين في سجون طرة، خصوصا سجن الاستقبال، منتشرة في صيف 2016، وكان كثيرون من المعتقلين السياسيين يسمعون بها في عربات الترحيلات وفي المحاكم وقتها.
وفي ما يخص محاولات إحكام السيطرة على الزنزانة، كانت هناك صراعات مستترة، وتكون أكثر وضوحا أحيانا بين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي تنظيم داعش في السيطرة على مواقع المسؤولية داخل الزنزانة، خصوصا موقع مسؤول الزنزانة الذي له صلاحيات تنظيمية وإدارية أعلى. وفي أثناء فترة سجني، كان مسؤول الزنزانة في فترة عضوا في جماعة الإخوان، ورأيت كيف كان مؤيدو "داعش" يفتعلون المشكلات معه، ويتهمونه أحيانا بعدم الحسم حتى يبعدوه عن موقعه. وبالفعل، استطاعوا الضغط عليه، حتى أخذ قرارا بالابتعاد عن الموقع، وتمكنوا من فرض شخص آخر (أقل قدرة على الحسم منه لكنه أقرب لهم) لموقع المسؤولية، وكان كل طرف يحاول جذب أعضاء أقرب إلى أفكاره إلى الزنزانة التي يوجدون فيها وبذل مجهود كبير من أجل نقلهم إليها من الزنازين الأخرى، لإحكام السيطرة وبسط النفوذ عليها، عندما تكون الكفتان متقاربتان، ويحاول الطرف الآخر جاهدا عرقلة انتقال السجين المنتمي للمعسكر الآخر إلى الزنزانة. وكان مؤيدو "داعش" هم من يقومون بذلك، بتركيز أكبر في الزنزانة التي كنت فيها، خصوصا في ما يتعلق بجذب سجناء أقرب لهم، أو مستهدفين منهم، إلى الزنزانة نفسها.
صراع على تجنيد الأعضاء
كان هناك صراع مستمر بين الإخوان المسلمين وأنصار "داعش" على الشباب صغار السن المؤيدين للمشروع الإسلامي بشكله الواسع، أو المعارضين للانقلاب العسكري من خلفية
إسلامية، ولكنهم ليسوا إخوانا. ونجح أنصار "داعش" في كسب عديدين من الشباب الصغير المتحمس، مع الوقت، مع أفكارهم الأكثر راديكالية. وأرى أنهم كانوا يتعمدون، من وقت إلى آخر، تصعيد الخلافات مع "الإخوان" لتوضيح أنهم أكثر جذرية، وبالتالي جذب السجناء المتحمسين والناقمين على الدولة من صغار السن لهم. وكانوا يستخدمون في الدعاية من أجل ذلك بعض العمليات التي نجح تنظيم داعش في القيام بها في سيناء، أو في البلدان الأخرى في ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه، كانوا يستخدمون أخبار القهر الذي تمارسه الدولة ضد "الإخوان"، خصوصا قياداتهم كبار السن في السجون والمحاكمات والتصفيات في المنازل من الناحية الأخرى.
وكان مؤيدو "داعش" يستخدمون وسيلة أخرى في معركة فرض النفوذ داخل السجن، وفي الصراع على السجناء صغار السن، حيث كانوا يردّدون، من وقت إلى آخر، الأناشيد الجهادية الحماسية التي تتغنى ببطولاتٍ وبقيادات جهادية سابقة، أو حالية، للعب على مشاعر الإسلاميين، مثل الهتاف لأبي بكر البغدادي، أو لأسامة بن لادن، على الرغم من خلافات "داعش" مع تنظيم القاعدة، لكنهم داخل السجون يتقاربون باعتبارهم أصحاب أفكار جهادية.
وفي أثناء فترة سجني، كان معنا سجين لأسباب سياسية، تم القبض عليه في خلية نوعية، من دون أن تكون له أدنى علاقة من قريب أو بعيد بهم، ولكن تم القبض عليه لأنه اتصل مصادفةً بصديقٍ له، بعد أن كان في حوزة الأمن الوطني، بعد القبض عليه مباشرةً، فذهبوا إلى بيته وقبضوا عليه! وصديقه هذا تم القبض عليه لسابق القبض عليه في قضية سياسية أخرى في المنطقة نفسها، على الرغم من عدم وجود أي علاقة بينه وبين الخلية النوعية محل التحقيق، لكن الأمن المصري معتاد على القبض على كل من تم القبض عليه سابقا لأسباب سياسية، عقب وقوع أحداث جديدة في المنطقة نفسها! لم تكن لهذا الشخص أفكار جهادية سابقة على الإطلاق، وكان يدخن السجائر، وكانت له حياته التقليدية شابا في الجامعة. في بداية معرفتي به داخل الزنزانة، كانت علاقته بي جيدة جدا على الرغم من عدم صلاتي على عكس من قاطعوني. ومع نقلنا إلى زنزانة أصغر، أصبح أقرب فيها إلى مجموعة من مؤيدي "داعش"، وأصبح يتجنب التعامل معي إطلاقا، واقترب الوضع من القطيعة، على الرغم من عدم وجود خلاف سابق بيننا، وأقلع عن شرب السجائر، وبدأ يترك لحيته تكبر عن المعتاد في هذه الفترة نفسها. وبدا واضحا تقارب فكري كبير بينه وبين مؤيدي "داعش" في ما يخص التكفير، وفي ما يخص الترحيب بالعنف. في هذه الفترة، كان يجلس معهم كثيرا ويتقرّب منهم. ما أثار انتباهي لاحقا أن أفكاره بدأت في التغير من جديد، بعد إخلاء سبيل المجموعة الأقرب إلى أفكار "داعش"، وعاد يتكلم معي في ما يخص الزنزانة وشؤونها، وفي ما يخص خارجها أيضا. في هذه الفترة، كان الأقرب إليه سجين إخواني.
إخلاء السبيل
على عكس ما قد يفترضه بعضهم، كان إخلاء سبيل مؤيدي "داعش" أكثر سهولة من إخلاء سبيل الإخوان المسلمين. ولن أصر هنا على النظرية التي تفسر ذلك بالقول إن الدولة المصرية تريد إطلاق سراح الجهاديين مؤيدي "داعش" لتستمر العمليات المسلحة، ويستمر الإرهاب
فزاعة. وبالتالي، يستمر المبرّر الأقوى للقمع الممنهج الذي تمارسه الدولة ضد معارضيها، وخصوصا السلميين، مع وجود منطق لهذه النظرية. ولكن في رأيي أن هذا ربما يحدث لسبب أكثر بساطة، هو عدم جدية النظام في التعامل مع الإرهاب، لأن عنده أولوية أخرى، هي القضاء على المجموعات السياسية المنظمة ذات الجماهيرية، والقادرة على إيجاد حراك في الشارع، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين وتحجيم شعبيتها، لأنها منافس له على السلطة، بينما الجماعات المسلحة التي لا يوجد لها تنظيم شعبي، ولا قاعدة جماهيرية حقيقية، لا يراها النظام تهديدا لسلطته، وإن مثلت له أزمة مؤقتة، لكن الأنظمة عادة ما تستطيع السيطرة على هذا النوع من التنظيمات والعمليات المسلحة التي يقوم بها مع الوقت.
ولأن أغلب مؤيدي "داعش" داخل السجن من الشباب صغير السن الذين تم تجنيدهم لأفكار التنظيم، خلال فترة سجنهم، وهم غير معروفين للسلطات الأمنية جيدا، حيث إنهم لم يكونوا ينتمون إلى تنظيمات سياسية أو جهادية قبل سجنهم، ولأن أفكارهم تغيرت فقط داخل السجن، وتحولت إلى الأفكار الجهادية المؤيدة لتنظيم داعش، فالنظام لا يراهم عناصر خطيرة، بعد أن قدمهم بنفسه للجهاديين، بعكس أعضاء الإخوان المسلمين الذين كانوا يزاولون نشاطهم السياسي علنا، قبل الثورة وخلالها، وربما بعد الانقلاب، وهم معروفون جيدا للسلطة بمواقعهم التنظيمية قبل سجنهم، ويتشدّد النظام ضدهم، ويمعن في التنكيل بهم.
أين ستذهب هذه الأفكار؟
لا أرى أن هناك تغييرا ممنهجا في أفكار الإخوان المسلمين نحو العنف، في إطار تجربة سجني ومشاهداتي خلالها، لكن هذا لا ينفي أنه ربما يكون هناك مثل هذا التغيير مع بعض الحالات، وربما يكون هناك تأثير عكسي مع حالات أخرى، وفق استعدادات وظروف شخصية معينة، بينما يكون الإسلاميون الذين لا ينتمون لتنظيم سياسي بعينه أكثر عرضةً لمثل هذه التغيرات الراديكالية في الأفكار داخل السجن.
ولكن، هناك سؤال آخر، لا أجرؤ على طرح إجابة له الآن: إلى أين سيتجه هؤلاء الأفراد المحملون بأفكار "داعش" بعد خروجهم؟ هل سيخلعونها على باب السجن في طريقهم إلى الحرية، وقد حملوها بشكل انفعالي مؤقت وقت السجن؟ هل سيذهبون وينضمون لأحد التنظيمات المسلحة في سيناء، أو خارج مصر، خصوصا إذا وجدوا أنفسهم مهدّدين بإعادة حبسهم من السلطة، كما يحدث عادة مع المعتقلين السياسيين، أو إذا وجدوا الحياة مستحيلة، حيث يتم التضييق عليهم في العمل والدراسة، بسبب سابق سجنهم وتضييق الأمن عليهم؟ هل سيبقون داخل المجتمع، وهم يحملون الأفكار نفسها من دون أن ينضموا لأي تنظيم، حتى تخف حدّتها مع الوقت، أو تأتي اللحظة المناسبة للانضمام إلى تنظيم يناسب تلك الأفكار؟ هل سيكونون على تواصل مع عناصر جهادية أخرى خارج السجن، تمكنوا من الحصول على وسيلة تواصل معها وقت السجن؟ هل سيستمرون في الدعاية للأفكار نفسها كأشخاص، من دون الانضمام لتنظيمات؟ هل هناك احتمالات أخرى؟
حقيقة لا أدري. ما أعلمه جيدا أن الدولة المصرية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن انتشار هذه الأفكار الجهادية الإرهابية، بممارساتها القمعية واستسهال وضع الشباب في السجن الذي أصبح "مفرخةً" لهذه الأفكار.
كانت الأيام الأولى مهمة لمعرفة طبيعة التعاملات داخل السجن، وطبيعة النظام داخل الزنزانة، حيث إني كنت محبوسا قبل نقلي إلى السجن في زنزانة في قسم شرطة مع سجناء، أغلبهم متهمون في قضايا جنائية. وكان للزنزانة "نبطشي"، هو بمثابة مسؤول الزنزانة من الجنائيين، وهو يسيطر على الأمور بالخبرة وبالأقدمية، وبدعم ضباط وأمناء قسم الشرطة له، حيث إن علاقاته تكون متشعبة، وله مصالح مشتركة مع بعضهم، ويتم تهريب المخدرات وباقي الممنوعات وبيعها، من خلال تعاونهم مع أمناء وضباط الشرطة في مقابل ربح مادي للطرفين. كما أنهم يحصّلون أموالا من باقي السجناء يوميا، ويختلف المبلغ المحصل حسب المكان الذي يخصصه النبطشي للسجين، فهناك أماكن مميزة داخل الزنزانة لمن يدفعون أكثر. أما بعد نقلي إلى السجن فبدا لي، منذ اللحظات الأولى، أن هناك اختلافا كبيرا بين السجن مع جنائيين والسجن مع سياسيين، خصوصا لو كانوا إسلاميين.
النظام المعيشي في السجن
بدأت الأمور تتضح لي سريعا في ما يخص نظام السجن. كان السجن من عدة عنابر، في كل عنبر عدة زنازين، ويمكن أن يقابل سجناء العنبر نفسه بعضهم بعضا خلال وقت التريّض الذي يتم فتح كل مجموعة زنازين فيه في الوقت نفسه، من ساعتين إلى ثلاث ساعات، ما عدا أيام العطلات الرسمية، وكان هذا الوقت وسيلة التواصل بين السجناء في زنازين مختلفة في العنبر نفسه. وكان بعض السجناء يفضل ممارسة الرياضة في هذا الوقت، ويفضل آخرون مقابلة أصدقائهم من الزنازين الأخرى للنقاش معهم في أمور السجن وأوضاعه، أو آخر الأخبار الخارجية التي يحاولون معرفتها من الأهل في الزيارات أو من مصادر أخرى. وكان للعنبر مسؤولون تم اختيارهم بنظام أقرب للتوافق منه للانتخابات لصعوبة تنفيذها، كان منوطا بهم التواصل مع إدارة السجن، لتقديم طلبات العنبر وحل مشكلاته.
وفي ما يخص نظام الزنزانة، كان هناك عدة أشخاص مؤثرين داخل كل زنزانة، وهناك
فرائس جاهزة
لاحظت أن عديدين من أنصار "داعش" هم من ضحايا الاعتقال العشوائي، أو من المتظاهرين صغار السن ضحايا قانون التظاهر (أصدره في العام 2013 الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور من دون وجود برلمان، وقوبل باعتراضات كبيرة من القوى السياسية المعارضة)، أو ضحايا تلفيق النظام تهما لهم، حيث كانوا غير موالين للتنظيم عند اعتقالهم. كانت لبعضهم مشكلة مع النظام، لأنهم يعتقدون أن ما حدث في صيف 2013 انقلاب عسكري على الثورة. ونزل بعضهم رفضا للمجازر بعد الانقلاب، وكان بعضهم عابر سبيل وقت حدوث المظاهرة فتم القبض عليه بدون مشاركة فعلية منه فيها، وتم القبض على آخرين لأنهم أصدقاء لمتظاهرين، واتصلوا بهم بالمصادفة وقت القبض عليهم؛ المشترك أن كثيرين منهم لم يكونوا أعضاء في تنظيم إسلامي وقت القبض عليهم.
لم يكن كثيرون منهم يؤدون حتى العبادات الأساسية في الإسلام، مثل الصلاة، وقت القبض
أحيانا يقول لهم هؤلاء الجهاديون إنه إذا كانت حياتهم ستنتهي في هذا السجن، فالأفضل لهم أن تنتهي بهم إلى الجنة، ويدعونهم إلى الانتظام معهم في العبادات والدروس الدينية التي كثيرا ما تتطرق إلى أمور الدنيا، وربما إلى السياسة، حيث يُصَوّر لهم الصراع القائم حربا ضد الإسلام، وأن الانقلاب العسكري حدث ضد محمد مرسي لأنه رئيس إسلامي، وإن كانوا ينكرون عليه ارتضاءه بالديمقراطية والانتخابات التي هي شرك بالله، وإرضاء للغرب الكافر، فاستحق السقوط.
قابلت من مؤيدي "داعش" من حكى أنه كان يدخن الحشيش قبل سجنه، وأنه كان منتظما في تدخين السجائر بعد السجن، حتى قابل من قاموا بهدايته (جذبه لأفكار داعش) وكانت هذه بدايته للإقلاع عن التدخين، والالتزام بالعبادات في الإسلام، وكان هذا الشخص نفسه متشدّدا جدا ضد من يدخنون داخل الزنزانة، على الرغم من أنهم كانوا يدخنون في المكان المخصص لذلك، عند شباك مفتوح للتهوية حتى لا يؤذي الآخرين، وكانت الادعاءات لمنع التدخين وتحجيمه هي الحرص على صحة باقي المساجين غير المدخنين من دخان السجائر. ولكن حدثت مرة زلة لسان من أحد الإسلاميين أن مشكلته من السجائر أنها حرام، عندما كان يدافع، في الوقت نفسه، عن إعداد بعض أنواع الطعام الأخرى التي تطلق دخانا شديدا وقت إعدادها.
توتر وخلافات
كان واضحا بشكل جلي أن هناك توترا بين المجموعتين، وكان الخلاف الأبرز بشأن موقفين أساسيين: العملية السياسية والديمقراطية، العنف والعمليات المسلحة، فأنصار "داعش" يرحبون بأي عنف يمارس ضد الدولة أو ضد الأقليات الدينية أو بالتفجيرات التي كانت تحدث في الغرب، في حين كان "الإخوان" ينزعجون من قتل المدنيين، باختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية، وإن تباينت مواقفهم من العمليات التي يتم فيها قتل أفراد من الدولة، وخصوصا من الشرطة أو الجيش، فبعض المؤيدين للإخوان المسلمين كانوا يفرحون بها، وكانوا يرونها وسيلة ردع ضد القمع الممارس ضدهم من الدولة، بينما كان ينزعج بعضهم من هذه العمليات، حيث إنها تورّطهم في صراعٍ لن يكسبوا منه شيئا.
وفي السجن، قابلت واحدا من أعضاء إحدى الخلايا النوعية، وهي خلايا شكلها أعضاء من
على الجانب الآخر، كان مؤيدو "داعش" يشبهون "الإخوان المسلمين" أحيانا في نقاشاتهم بـ"الدجاج"، لأنهم يساقون إلى السجون في مظاهراتهم السلمية التي قاموا بها بعد الانقلاب، من دون أن يقاوموا النظام بشكل مسلح، كما يفعل جنود الخلافة (داعش)، وكانوا يسخرون كثيرا من شعار الإخوان "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وكان منهم من يستخدم العمليات المسلحة التي تقوم بها "داعش" لإثبات أنهم على صواب ضد "الإخوان" في النقاشات، بل وبطريقة المكايدة أحيانا.
في أثناء النقاشات والمشاحنات، سمعت جدالات كثيرة بينهم عن آيات الجهاد وقتل الكفار وتفسيراتها. وسمعت جدالات أخرى عن تعريف الكفار بينهم، ورأيت احتداد النقاشات وسخريتهم من بعضهم بعضا، وكان مؤيدو "داعش" يدعمون القتل، ويأتون بآيات قرآنية تدعم وجهة نظرهم، في حين كان "الإخوان المسلمون" ومؤيدوهم يدحضون هذه الآيات بآيات أخرى، أو بتفسيرات مختلفة للآيات نفسها.
في ما يخص الموقف من الديمقراطية والعملية السياسية، كان مؤيدو "داعش" يقولون إن الديمقراطية والانتخابات كفر، وأن محمد مرسي كافر، وكان هذا يسبب خلافا قويا بينهم وبين "الإخوان" ومحبيهم. فالإخوان قد كانوا يرون أنه يمكن استعادة المسار الديمقراطي، أو الثوري، بالتعاون مع القوى السياسية المدنية الأخرى المناهضة للانقلاب العسكري. وقد تطرقت نقاشاتٌ إلى مراجعة سنوات الثورة وأخطائها، حتى حدوث الانقلاب وأخطاء التيارات السياسية المختلفة، وفي القلب منها الإخوان المسلمون. وقد ذكر لي أحد القيادات الوسطى في الجماعة أنه رأى أخطاء قبل الانقلاب في أثناء فترة حكم محمد مرسي، وحاول لفت الانتباه إليها من خلال الكتابة الداخلية حولها لإصلاحها، لكنه فشل، بينما كان مؤيدو "داعش" يرفضون العملية السياسية برمتها، والحل الوحيد من وجهة نظرهم هو من خلال تنظيمهم المسلح وعملياته، حتى الوصول إلى السلطة وتطبيق شرع الله، وكانوا يعيبون على "الإخوان" مواءماتهم السياسية، من أجل الوصول إلى غرضهم، وهو دولة الخلافة من خلال العملية السياسية.
وكانت أخبار المشاجرات بين أنصار داعش والإخوان المسلمين في سجون طرة، خصوصا سجن الاستقبال، منتشرة في صيف 2016، وكان كثيرون من المعتقلين السياسيين يسمعون بها في عربات الترحيلات وفي المحاكم وقتها.
وفي ما يخص محاولات إحكام السيطرة على الزنزانة، كانت هناك صراعات مستترة، وتكون أكثر وضوحا أحيانا بين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي تنظيم داعش في السيطرة على مواقع المسؤولية داخل الزنزانة، خصوصا موقع مسؤول الزنزانة الذي له صلاحيات تنظيمية وإدارية أعلى. وفي أثناء فترة سجني، كان مسؤول الزنزانة في فترة عضوا في جماعة الإخوان، ورأيت كيف كان مؤيدو "داعش" يفتعلون المشكلات معه، ويتهمونه أحيانا بعدم الحسم حتى يبعدوه عن موقعه. وبالفعل، استطاعوا الضغط عليه، حتى أخذ قرارا بالابتعاد عن الموقع، وتمكنوا من فرض شخص آخر (أقل قدرة على الحسم منه لكنه أقرب لهم) لموقع المسؤولية، وكان كل طرف يحاول جذب أعضاء أقرب إلى أفكاره إلى الزنزانة التي يوجدون فيها وبذل مجهود كبير من أجل نقلهم إليها من الزنازين الأخرى، لإحكام السيطرة وبسط النفوذ عليها، عندما تكون الكفتان متقاربتان، ويحاول الطرف الآخر جاهدا عرقلة انتقال السجين المنتمي للمعسكر الآخر إلى الزنزانة. وكان مؤيدو "داعش" هم من يقومون بذلك، بتركيز أكبر في الزنزانة التي كنت فيها، خصوصا في ما يتعلق بجذب سجناء أقرب لهم، أو مستهدفين منهم، إلى الزنزانة نفسها.
صراع على تجنيد الأعضاء
كان هناك صراع مستمر بين الإخوان المسلمين وأنصار "داعش" على الشباب صغار السن المؤيدين للمشروع الإسلامي بشكله الواسع، أو المعارضين للانقلاب العسكري من خلفية
وكان مؤيدو "داعش" يستخدمون وسيلة أخرى في معركة فرض النفوذ داخل السجن، وفي الصراع على السجناء صغار السن، حيث كانوا يردّدون، من وقت إلى آخر، الأناشيد الجهادية الحماسية التي تتغنى ببطولاتٍ وبقيادات جهادية سابقة، أو حالية، للعب على مشاعر الإسلاميين، مثل الهتاف لأبي بكر البغدادي، أو لأسامة بن لادن، على الرغم من خلافات "داعش" مع تنظيم القاعدة، لكنهم داخل السجون يتقاربون باعتبارهم أصحاب أفكار جهادية.
وفي أثناء فترة سجني، كان معنا سجين لأسباب سياسية، تم القبض عليه في خلية نوعية، من دون أن تكون له أدنى علاقة من قريب أو بعيد بهم، ولكن تم القبض عليه لأنه اتصل مصادفةً بصديقٍ له، بعد أن كان في حوزة الأمن الوطني، بعد القبض عليه مباشرةً، فذهبوا إلى بيته وقبضوا عليه! وصديقه هذا تم القبض عليه لسابق القبض عليه في قضية سياسية أخرى في المنطقة نفسها، على الرغم من عدم وجود أي علاقة بينه وبين الخلية النوعية محل التحقيق، لكن الأمن المصري معتاد على القبض على كل من تم القبض عليه سابقا لأسباب سياسية، عقب وقوع أحداث جديدة في المنطقة نفسها! لم تكن لهذا الشخص أفكار جهادية سابقة على الإطلاق، وكان يدخن السجائر، وكانت له حياته التقليدية شابا في الجامعة. في بداية معرفتي به داخل الزنزانة، كانت علاقته بي جيدة جدا على الرغم من عدم صلاتي على عكس من قاطعوني. ومع نقلنا إلى زنزانة أصغر، أصبح أقرب فيها إلى مجموعة من مؤيدي "داعش"، وأصبح يتجنب التعامل معي إطلاقا، واقترب الوضع من القطيعة، على الرغم من عدم وجود خلاف سابق بيننا، وأقلع عن شرب السجائر، وبدأ يترك لحيته تكبر عن المعتاد في هذه الفترة نفسها. وبدا واضحا تقارب فكري كبير بينه وبين مؤيدي "داعش" في ما يخص التكفير، وفي ما يخص الترحيب بالعنف. في هذه الفترة، كان يجلس معهم كثيرا ويتقرّب منهم. ما أثار انتباهي لاحقا أن أفكاره بدأت في التغير من جديد، بعد إخلاء سبيل المجموعة الأقرب إلى أفكار "داعش"، وعاد يتكلم معي في ما يخص الزنزانة وشؤونها، وفي ما يخص خارجها أيضا. في هذه الفترة، كان الأقرب إليه سجين إخواني.
إخلاء السبيل
على عكس ما قد يفترضه بعضهم، كان إخلاء سبيل مؤيدي "داعش" أكثر سهولة من إخلاء سبيل الإخوان المسلمين. ولن أصر هنا على النظرية التي تفسر ذلك بالقول إن الدولة المصرية تريد إطلاق سراح الجهاديين مؤيدي "داعش" لتستمر العمليات المسلحة، ويستمر الإرهاب
ولأن أغلب مؤيدي "داعش" داخل السجن من الشباب صغير السن الذين تم تجنيدهم لأفكار التنظيم، خلال فترة سجنهم، وهم غير معروفين للسلطات الأمنية جيدا، حيث إنهم لم يكونوا ينتمون إلى تنظيمات سياسية أو جهادية قبل سجنهم، ولأن أفكارهم تغيرت فقط داخل السجن، وتحولت إلى الأفكار الجهادية المؤيدة لتنظيم داعش، فالنظام لا يراهم عناصر خطيرة، بعد أن قدمهم بنفسه للجهاديين، بعكس أعضاء الإخوان المسلمين الذين كانوا يزاولون نشاطهم السياسي علنا، قبل الثورة وخلالها، وربما بعد الانقلاب، وهم معروفون جيدا للسلطة بمواقعهم التنظيمية قبل سجنهم، ويتشدّد النظام ضدهم، ويمعن في التنكيل بهم.
أين ستذهب هذه الأفكار؟
لا أرى أن هناك تغييرا ممنهجا في أفكار الإخوان المسلمين نحو العنف، في إطار تجربة سجني ومشاهداتي خلالها، لكن هذا لا ينفي أنه ربما يكون هناك مثل هذا التغيير مع بعض الحالات، وربما يكون هناك تأثير عكسي مع حالات أخرى، وفق استعدادات وظروف شخصية معينة، بينما يكون الإسلاميون الذين لا ينتمون لتنظيم سياسي بعينه أكثر عرضةً لمثل هذه التغيرات الراديكالية في الأفكار داخل السجن.
ولكن، هناك سؤال آخر، لا أجرؤ على طرح إجابة له الآن: إلى أين سيتجه هؤلاء الأفراد المحملون بأفكار "داعش" بعد خروجهم؟ هل سيخلعونها على باب السجن في طريقهم إلى الحرية، وقد حملوها بشكل انفعالي مؤقت وقت السجن؟ هل سيذهبون وينضمون لأحد التنظيمات المسلحة في سيناء، أو خارج مصر، خصوصا إذا وجدوا أنفسهم مهدّدين بإعادة حبسهم من السلطة، كما يحدث عادة مع المعتقلين السياسيين، أو إذا وجدوا الحياة مستحيلة، حيث يتم التضييق عليهم في العمل والدراسة، بسبب سابق سجنهم وتضييق الأمن عليهم؟ هل سيبقون داخل المجتمع، وهم يحملون الأفكار نفسها من دون أن ينضموا لأي تنظيم، حتى تخف حدّتها مع الوقت، أو تأتي اللحظة المناسبة للانضمام إلى تنظيم يناسب تلك الأفكار؟ هل سيكونون على تواصل مع عناصر جهادية أخرى خارج السجن، تمكنوا من الحصول على وسيلة تواصل معها وقت السجن؟ هل سيستمرون في الدعاية للأفكار نفسها كأشخاص، من دون الانضمام لتنظيمات؟ هل هناك احتمالات أخرى؟
حقيقة لا أدري. ما أعلمه جيدا أن الدولة المصرية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن انتشار هذه الأفكار الجهادية الإرهابية، بممارساتها القمعية واستسهال وضع الشباب في السجن الذي أصبح "مفرخةً" لهذه الأفكار.