14 ديسمبر 2022
مع كامل التقدير... لمعشر الحمير!
كاتب ليبي اغترب في فنلندا لدهر، فلم يجد إلا حماراً قيل أنه من أصل عربي، بثه همه وشكواه، لدرجة أنه رأى دموع الحمار تتساقط، والحمار ينهق نهيقاً كأنه بكاء..
لا شك أن الحمار حيوان وديع عاطفي "أليف"، إن أجاز لنا علماء تصنيف الحيوانات استخدام هذه الصفة، لوصف الحمير، لكننا سنتخطى جميع التأطير والتصنيف ونضعه بجانب القطط كحيوان غير مؤذ أو أليف سُمح لنا أم لا، فليس حديثنا علماً ندرسه لطلبة في علم الحيوان أو الإنسان الذي صُنف أنه حيوان (ناطق) وأضيف إليها (مفكر) وهو باكتسابه صفة الفكر اكتسب معها خصال شطرها سيئ وشطرها حسن.
زرت حديقة هلسنكي، وقرأت الخريطة فوجدت مكاناً وحيداً بعيداً لحمار وحيد غريب كغربتي وغربة ذلك الكاتب. كل قفص أو مساحة مسيجة، هناك في الغالب، فتاة جميلة شقراء حد البياض الناصع، تقف أمامه، تشرح للزوار، وتتلقى الأسئلة، وتجيب عنها بابتسامة بريئة، لا تشبه أبداً ابتسامة مذيعتنا الأنيقة الظريفة حاضرة البديهة، فلانة الفلاني، مقدمة بقناة الجزيرة، التي حتمت عليها طريقة تناولها للأحداث و(نوع) الضيوف التي تلتقيهم، وخلفياتهم الغير معلومة حتى وإن أعلنوها صراحة، أن لا تمت ابتسامتها للبراءة بأي علاقة.
سألت الفتاة التي يبدو أنها طالبة تعمل بفصل الصيف، عادة متبعة في الدول الغربية لتأهيل الطلاب لخوض غمار سوق العمل مبكراً، كنا نحن أيضاً نعمل صغاراً في العطلات قبل أن تنسد البلد، كم من السنين يمكن للحمير أن تعمر وكيف نعرف الفارق بين شيخ (الحمير) الكبير، والحمار الكهل؟ استغربت، بداية، ثم أجابتني بالإنكليزية وليس بالفينيش طبعاً، فكل الفنلنديين يتقنون ثلاث لغات، الأم، السويدية، والإنكليزية.
تحولتْ إلى أستاذ في تاريخ الحمير، يتسلح بكل المعلومات المفيدة المساعدة من علوم أخرى مثل التشريح، والطب الشرعي وما يحفل بمعلومات عن سن الحمير، وغير الحمير، ما أعطاني انطباعاً أني لا أقف أمام طالب، يتكسب من أداء عمل بالصيف، وإنما أقف أمام أستاذ قدير، لا يشبه في لبسه ولا شكله ولا مظهره ولا في جماله كل الأساتذة الذين درسوني.
بالطبع، استمتعت هي بهذا الفيض من المعلومات، التي قدمتها لي في حضور أحدهم أو اثنين، فلا أحد يعير الحمير أي اهتمام في حديقة (البعير)، وهنا لا أقصد الجمل، فحلاً كان أم ناقة، بل أشمل جميع الحيوانات المشابهة.
لا أخفيكم، ككل الرجال أعجبني في انطباعي الأول المظهر والشكل، كانت بديعة الجمال، متحررة من كل شيء حتى ملابسها، لكن ثقافتها بدأت تلح على عقلي لتبعدني عن أي نظرة أخرى بخلاف (الزيارة والنيارة أو الاستنارة).
أخبرتها، بناءً على سؤالي التالي سأقرر، ما إذا كان من الممكن طرح أسئلة أخرى. قالت بكل سرور، أنا هنا لأجيب عن كل الأسئلة، وأفرح كثيراً إذا ما سألني أحد، لأني وضعت بقسم الحمير، وكما ترى لا يوجد سوى واحد لا رفيقة له، والناس لا تهتم مطلقاً لشؤون الحمير. هي من المرات القليلة جداً التي يسألني أحدهم عن حماري الذي أشرف عليه لدرجة أني أصاب بالسأم كثيراً.
لقد أجابتني دون أن تدري عن سؤال دار بخلدي، ولو أني تقريباً تعرفت على جنس الحمار، وهو ما أكدته لي. لكن سؤالي الأصلي، هو كم من السنين قضاها هذا الحيوان هنا؟ خلت أنها لن تعرف، فإذ بها تتوجه لطاولة، تقرأ في كتاب وتجيبني باليوم، الشهر، والسنة.
بقي سؤال أخير وسأغادر: هل تعرفين أصول هذا الحمار. من أي أمم الحمير وفد إليكم؟
رجعت ثانية للكتاب، قرأت، أجابت، هو حمار عربي. كادت شفتاي أن تعجز على لجم آهة مثل آهات "الست"، خاصة وأن كاتبنا توقع أنه عربي، فقد شعرت لأول مرة رأيته فيها بأني أعرفه، وحنين كبير تملكني تجاهه، لكن رفضت ذلك، حيث أني طيلة شهر، ما وجدت للعرب أثراً، اللهم إلا شاب فلسطيني يوزع كتباً إسلامية في محطة (الأندر غراوند)، لا يتكلم العربية للأسف، وهنا تبرز أزمة الهوية، وطباخ مغربي يعمل في (بازار) شعبي لا أفهم كثيراً عنه، لكني أفهم وأثق في (الكسكسي) الذي يطبخه، وأفضله بالسمك، احترازاً وتحوطاً، وليس قلة ثقة. الثالث التقيت، يوم وصولي مطار هلسنكي، وكان كردياً عراقياً، يتحدث العربية يحمل آلة تشبه الناي، وليس ناياً طربت لعزفه عليها. ورابعهم، هذا الحمار العربي الذي تأملته ملياً يملأني حنيناً إلى الوطن، وأنا كلي ثقة بما كُتب عنه، حيث تبين أنه الحمار ذاته بشحمه ولحمه، أنه بكى كثيراً حين همس ذلك الكاتب في أذنه الكبيرة جداً بما آل إليه حال العرب، وبثه شكواه بغربته.