مغاربة وجدوا أنفسهم في خطاب الملك
ارتقى الخطاب الملكي السامي، بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لميلاد موسوعة المغاربة الكبرى في الوطنية، وعنوانها المسيرة الخضراء، إلى مستوى الطبعة الثانية، وهي مقَوِّمة، مزيدة ومنقحة، ليس عن هوىً، وإنما انطلاقاً من استثمار القراءات المتعددة، المغربية والأجنبية.
وكما كتبت الطبعة الأولى، عبر أربعين عاماً من الإبداع السياسي، التنموي والمعماري، ومواويل سُمار الليل، رعاة القمر والإبل في البيداء، انطلاقاً من فاتحتي الشرعية القضائية الدولية، و"صوت الحسن ينادي.."، ومروراً بمعارك رمال أخرى، لم يفلح فيها الجار اللدود في إيقاف نمو النص الصحراوي، لأن التاريخ فحل، وصنديد، ولا يتصور منه التفريط في حبيبته الجغرافية، ستظل الطبعة الثانية (ويكيبيديا) الصحراء، منفتحة على كل القراءات والكتابات.
يتوقف خطاب المكاشفة عند رجال، وحتى نساء، الحديث والحدث الوطني عموماً، والصحراوي خصوصاً، ليصنفهم إلى رجال لم يستحضروا لحمة الوطن والوطنية، في قراءة "الجهوية المتقدمة"، ربما لأن شعار الجهوية، وهو طاعن في السن مغربياً، ظل مجرد ثرثرة فوق الوطن، لا يصدقه حتى مطلقوه الرسميون، ومن هنا، ضعف الحرص على تفكيك كل مفردات الجهوية المتقدمة، بالنظر إليها مجرد حلقة أخرى من هذه الثرثرة.
حتى في مناقشة المشروع، سياسياً وإعلامياً، لا يحضر البعد الوطني معياراً للنقد، بمعنى الأفيد للوطن تنموياً، هل يكمن في تبعية هذا المكون الجهوي لهذه الجهة أو تلك؟ غالباً ما يتم تحكيم الجوار القبلي القديم، والخريطة الجهوية المعتمدة حالياً، وفي هذا جمود يضرب كل غايات المشروع. يطمح الخطاب إلى توجيه نقاش الجهوية المتقدمة صوب المكون الاقتصادي التنموي، بدل استثماره سياسياً لتحقيق مكاسب انتخابية ليس إلا.
ورجال تطرفوا في نقاش الهوية، بعيداً عن روح خطاب أجدير، والقانون الأساسي المنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وتطرفوا كثيراً في فهم دسترة الأمازيغية، في سكوت بائس عن المكونات الثقافية المغربية الأخرى، وعن الارتقاء بالقضية من كونها أمازيغية فقط، إلى كونها قضية كل المغاربة. هذا الانتقال من "الدعوة" إلى "الدولة" لم يفهمه جيداً نشطاء الأمازيغ الذين أبلوا البلاء الحسن في نضالهم، عبر عشرات السنين.
وحينما نصل، بعيداً عن الموضوعية الأكاديمية، ومناهجها في دراسة هويات الشعوب، إلى الطعن في التاريخ، والأنساب، والسعي إلى إظهار بعض المغاربة مشككين في القضية الفلسطينية، كما ظهرت وتطورت، فهنا نصل إلى الكلام الذي "لا يسمن ولا يغني من جوع" كما عبر الملك.
ورجال شهداء، عسكريون ومدنيون، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ليس في حب الوطن فقط، وإنما وصولاً إلى التضحية بالأرواح من أجله. يوجدون، الآن، بيننا، عبر أسرهم التي حرمت منهم، وعبر الموسوعة الوطنية الكبرى التي ساهموا في كتابتها.
توقف الخطاب، هنا، ليس للترحم فقط، وإنما "دسترة" للغة الاستشهاد من أجل الوطن، التي يجيد المغاربة التحدث بها، حينما يدعو الداعي، ويحل أوان الشد. لغة الاستشهاد ذات أبجدية روحية، لا هي عربية، ولا هي أمازيغية. أقول هذا للمولعين بالسؤال والجواب في الوقت نفسه، عن لغة المغاربة الأولى، ما هي؟
لم يفهم قادة الجزائر بعد ماذا يعني أن تكون الصحراء قضية وجود بالنسبة للمغاربة. لو كانت قضية حدود لهانت، وقد رأينا كيف لم يتوقف المرحوم الحسن الثاني طويلاً، عند مسألة الحدود الشرقية، ذات هبة للمرحوم هواري بومدين، صوب تفعيل الجوار الحسن. ولم يتوقف طويلاً كذلك عند الحلم الجزائري الكبير، المتمثل في الوصول إلى مياه المحيط الأطلسي. لكن أن يقال لنا ما قاله معاوية لزوج امرأة في غاية الحسن:
فطلقها فلست لها بكفء .. وإلا يعل مفرقك الحسامُ.
وعلى الرغم من كل الدبلوماسية المعروفة عن الملك محمد السادس، فإنه أسمع الجزائر، هذه المرة، لغة ذات جرس خاص ونذر، لا حل أممياً إلا بإدانتكم. هكذا دفعة واحدة بكل رسوخ وبأس ملكي. لا يحتاج الأمر إلى عميق تفكير لترتيب الخلاصة الآتية: "إذا لم تتم إدانتكم، أممياً، فنحن قادرون على ذلك، وسيكون سلاحنا، كما في كل حروبنا معكم، الشرعية التاريخية. شرعية لا رائحة للبترول فيها".
رجال، فقراء وأغنياء، لم تجبن جيوبهم، حينما قيل لهم أنفقوا، فهؤلاء أبناؤنا عيال علينا، عاث فيهم المستعمر فقراً، من شدة بخله الذي يعرفه مغاربة الشمال كثيراً. وكما للحرب لغة فلها أعصاب كذلك، هي الموارد، والشعب الذي يجود بدمائه، من أجل قضاياه الوجودية، لا يمكن أن يتصور منه البخل بأمواله.
وعلى الرغم من أن حق المغاربة الصحراويين الوحدويين ثابت في ما يخص دعم صناديق الأمم المتحدة، باعتبارهم ضحايا اقتتال فرض عليهم، معطلاً اقتصادهم ومشتتاً أسرهم، ترفع المغرب عن المطالبة بهذا الحق، وانصرف إلى بناء الصحراء الخلاء، حتى غدت بحواضر تضاهي مدن الشمال. بل لم تعد الصحراء التي تطالب بها الجبهة موجودة إلا في قصائد التيه الأولى.